مجلة الرسالة/العدد 226/دراسات في الأدب الإنجليزي
→ مصطفى صادق الرافعي | مجلة الرسالة - العدد 226 دراسات في الأدب الإنجليزي [[مؤلف:|]] |
نقل الأديب ← |
بتاريخ: 01 - 11 - 1937 |
جون ملتون
للأستاذ خليل جمعة الطوال
تابع ما نشر في العدد الماضي
على أن كرمويل ما لبث أن توفي، فكان موته زلزالاً عنيفاً قوض دعائم ذلك الدستور الذي شاد بيده الحديدة بنيانه؛ وزاد في الطين بلة ضعف خلفائه السياسي، فعادت الملكية إلى مكانتها السابقة، وكان طبَعيّاً أن تنتقم من البرلمانيين، وتثأر منهم لعرشها المغصوب وعزها المسلوب. أما ملتون فقد أدرك ما للملكيين عنده من الثأر الجسيم، وذلك لما نالهم منه من الطعن والامتهان والزراية، فأوجس خيفة من شرهم وانتقامهم، فتوارى عن عيونهم مدة من الزمن تجنباً لكيدهم؛ إلا أن هؤلاء بثوا وراءه العيون والأرصاد، فتمكنوا من القبض عليه، وزجوه في غياهب السجن وغرموه غرامات مالية فادحة؛ ثم سيق للمحاكمة، وقد كاد يحكم عليه بالإعدام لو لم يدافع عنه أمام المحكمة أشهر رجال المحاماة في ذلك العصر
وفي عام 1662م اعتزل ملتون السياسة، إذ فقد بصره وأصبح غير قادر على الاتصال الفعلي بالهيئة البشرية الاجتماعية، والإشراف على أحداثها السياسية والدينية والاجتماعية، فقصر وقته لذلك على الدرس والاجتهاد، وأكب على التأليف حتى نبه صيته في جميع الأوساط الأدبية كشاعر فذّ وكاتب بليغ، ومع اعتزال ملتون الفعلي للأمور السياسية فقد ظل يهز الرأي العام بكتاباته وشخصيته الفنية بعد الأخرى، وهو وفيذ وحدته، ووحيد عزلته. وما هي إلا ثلاث سنوات قضاها في عقر بيته منعزلاً عن المجتمع حتى أخرج للعالم ملحمته الشهيرة المعروفة بالفردوس المفقود وهي أعظم سفر أدبي في سجل الأدب الإنكليزي؛ وقد لا نجد لها حتى اليوم مثيلاً إلا بالرجوع إلى الملاحم العالمية السبع
الفردوس المفقود
لقد أجمعت الآراء على أن ملحمة الفردوس المفقود في الأدب الإنكليزي كالإلياذة في الأدب اليوناني والكوميديا الإلهية في الأدب الإيطالي، وأنها في شهرتها الواسعة هي الثالثة لهاتين الملحمتين العالميتين. ولئن وجد فيها بعض المتحذلقين من نقدة الأدب مجساً لمشارطهم ومغمزاً لمباضعهم، إلا أن ذلك لا يمنع الأديب المنصف من أن يرى فيها للأدب الإنكليزي تعويضاً عادلاً لركوده وتغلب الموجة السياسية عليه في عهد الإحياء
لم ينظم ملتون هذه الملحمة المشهورة دفعة واحدة، ومن المؤكد أن ابتدأ نظمها بعد أن اعتزل السياسة، وبعد أن فقد بصره. ولقد أملى أبياتها على أكثر من كاتب واحد، يدل على ذلك نسخها الخطية الأصلية التي لا تزال محفوظة في مكتبة (كلية ترنتي) في (كمبردج). وقد طبعت لأول مرة عام 1667 في عشرة أجزاء، ثم نقحت وزيد عليها جزءان آخران، وطبعت في المرة الثانية في اثني عشر جزءاً وذلك عام 1674. أما موضوعها فقد استمده من الكتاب المقدس، وأوحى إليه بمادتها الجزلة ذلك النزاع الخطير الذي قام في إنكلترا من اصطدام المبادئ الديمقراطية التي ترمي إلى رفع لواء حرية الشعب الدينية والسياسية بالمبادئ الملكية الأرستقراطية التي غايتها جعل شئون الأمة وحريتها في أيدي الملوك كالآلة الصماء يديرونها في لهوهم وعبثهم أنى شاءت لهم أنانيتهم وكيفما رغبت أهواؤهم. وإذ كان لا بد للأدب الحي من أن يصور المجتمع في سلمه وحربه، ويجاري الزمن في تقلبه وتطوره، فقد صور ملتون ذلك النزاع الخطير الذي خاض غماره في ملحمته هذه تصويراً دقيقاً لا مزيد عليه
لقد كان الدين إذ ذاك مشتجر الآراء، ومصطرع البطانات، ومحور الخلاف بينها؛ وكان لا بد لمن أراد أن يكون مبرزاً في هذا الميدان الديني من أن يكون ملماً بجميع النصوص الدينية، ولذلك أقبل الأدباء على الكتاب المقدس يتدارسونه وعلى الإنجيل يتدبرونه، طمعاً في الشهرة والفوز؛ وقد كان ملتون أبعدهم في ذلك غوراً وأكثرهم في الدرس مطالعة واجتهاداً يحفزه عليه سُعاره للشهرة، وحبه للجاه، وطموحه للسمو والمجد؛ ناهيك بتوقد فطنته، وطاعة ذهنه، وتوثب شاعريته، ولذا فلا عجب إذا رشحت دراساته للدين، وتغلغله في ثناياها بمثل ملحمة (الفردوس المفقود) التي اختلف الأدباء على تقديرها، وانقسموا إزاء تمجيدها شأن انقسامهم إزاء كل أمر خطير، إذ كانوا في ذلك بين منتقص ذي هوى لم يسلم من الغلو والإسراف، ومطنب في المديح لم يسلم من التحذلق والإغراق؛ وليس أدل على هذا من هذه الفقرات الموجزة التي نثبتها فيما يلي بإسنادها إلى أصحابها تاركين للقارئ حريته في تمييز غَثِّها من سمينها رأي جونسون
لقد مهد جونسون لرأيه في ملتون بما قرره (بوصو) عن الشاعر المجيد إذ يقول: (الشاعر الفذ المجيد هو الذي ينظم قصيدته وينشرها لغاية سامية ينشدها ومثل عليا يتطلبها، وتكون الحقيقة فيها هي بيت القصيد بل أسها الذي تقوم عليه؛ وما الخيال بجانبها إلا أداة طيعة يمهد بتلفيقه سبل الوصول إلى غايته المنشودة ومُثُله العليا المقصودة)، ثم جعل من هذه الفقرة الموجزة دستوراً للنقد ومحكاً للشعر يعرف بها غثُّ القصائد من سمينها - ولو إلى حد - وأخيراً قال: لقد ألف ملتون ملحمة الفردوس المفقود ليمهد للدين سبله الوعرة التي ضلت فيها عديد البطانات وليدحرج من هذه السبل تلك الصخرة الناشزة التي تحطمت عليها مختلف العقائد، وتنكرت أمامها أكثر الحقائق؛ ولعله لم يكن له من غاية أخرى سوى نظم الحقائق الدينية، ونقلها إلى الغير عن طريق القلب لا العقل، وبصورة لا أثر فيها البتة لالتواء اللاهوت وإبهامه، ولتعسف المنطق واحتمال تأويلاته، ولكنه لم يوفق إلى ذلك، إذ جمح به الخيال حتى أخرجه عن دائرة الحقيقة، وشردت به الشاعرية المتوثبة حتى أبعدته عن منطقة المعقولات؛ فجميع أغراضه متنكرة كأنها لغز غامض، وتعابيره ملتوية كأنه يقول شيئاً ويريد غيره، وصوره شائهة حتى لكأنها من تلفيق الخيال المحض الذي لا حقيقة له في الوجود. وبالجملة فإنه ليس فيها من أثر لما يريد خلا ما كان من بعض القوافي الممقوتة المصطنعة، والألفاظ المزركشة الآبدة، والتعابير المستعصية الغامضة، التي يند عنها الطبع وينشز منها الذوق
رأي ماكولي
الفرق بين أشعار ملتون ودانتي كالفرق بين الكتابة الهيروغليفية المصرية والكتبة التصويرية المكسيكية؛ فبينا يصور الثاني احساساته صورة لفظية كاملة، وينفض عليك عواطفه كما جاشت في صدره واعتلجت في قلبه، إذ بالأول لا يزيد في وصفه على الإشارة الغامضة، ولا في تصويره عن الصورة المبهمة للشيء - أي المسودة - ذلك يصف الأشياء بجزئياتها، وهذا يحيطها بستر كثيف من التورية البعيدة، والاستعارة الدقيقة، التي لا تظهر معها إلا بعد إعمال الفكر وكد الخاطر. وأكاد أجزم جزم اليقين أن ليس بين الأدباء من قرأ ملحمة الفردوس المفقود فعلقت شحنتها بشغاف قلبه، أو هزت نبراته وتراً من أوتار حسه. وعندي أنها ليست في الشعر إلا كالأحاجي في اللغة، ولولا ثوب الشهرة الفضفاض الذي يضفيه الأدباء على ملتون في غير استحقاق لكانت ملحمته هذه صفراً على هامش الأدب؟؟!
رأي هزلت
لقد كان شكسبير يعنى بنقد المجتمع وسوءاته أكثر من اعتنائه بنقد الديانات وطوائفها، وكان أيضاً ينظم الشعر بدافع الفطرة الشعرية الكامنة في نفسه لا بحافز الشهرة الذاتية، ولهذا كان مغايراً لملتون كل المغايرة؛ وذلك لأن ملتون كان مصاباً بسعار الشهرة، وشديد التمسك والتعصب لمبادئه الطهرية الدينية. لقد كان كلاهما شاعراً فذاً، إلا أنه بينما يسير الأول - شكسبير - وراء خياله وعاطفته، إذ بالثاني - ملتون - يُسيّر خياله وعاطفته وفق إرادته؛ فعاطفة الأول هي التي تدفعه إلى قرض الشعر، بينا إرادة الثاني هي التي تستكره خياله على النظم؛ ذاك تتسم أشعاره بعفو الخاطر وبداهة الفطرة وتوقد العاطفة، وهذا تتسم قصائده بجهد الفكر، وغزارة المعرفة، ومسحة العقل، وتصنع الخيال، وبرود العاطفة؛ ذاك تتسم أشعاره بحرارة القلب الملتهبة، وهذا بغزارة العقل الرائعة
لقد كان ملتون محباً للوحدة، على حين كان شكسبير مغرماً بالمجتمعات الزحمة، ولذا فبينا يصور الأول - على العموم - نفسه بأشعاره، إذ بأشعار الثاني صورة جلية لمحيطه، ومرآة مجلوة تنعكس عنها مرئيات بيئته. كان ملتون مشغوفاً بالدرس والمطالعة، بينا كان شكسبير لا يجد اللذة والراحة إلا في مطاوي الطبيعة ومناجاة أسرارها ومحاكاة مرئياتها. ذاك - أي ملتون - يمثل بأشعاره قوة العقل وسلطان الإرادة، وهذا يمثل حرارة العاطفة وسلطان القلب
على أنه ليس في هذا ما يمنعنا من أن ننظر إلى ملحمة الفردوس المفقود نظرنا إلى الإلياذة والأوديسة - أو القدس المحررة - لتاجور؛ ذلك لأنها وإن كانت تتسم بقوة العقل وجبروته إلا أن فيها من حرارة العاطفة ما ينماث له القلب، ويعتلج له الصدر. ولئن دقتْ تعابيره، والتوت أغراضه، وسما أسلوبه في بعض المواضع، فما ذاك إلا لسمو الفكرة التي يصورها ودقة التعبير عنها ولأنه يخاطب بأشعاره الخاصة لا العامة لم يتقيد ملتون في ملحمته (الفردوس المفقود) بالتزام قافية واحدة، وليس ذلك لعجزه وضعفه، فقد كانت القوافي أطوع لخاطره من بنانه، كيف لا وهو أعلم بأوابد اللغة وشواردها؟ ولكن لأنه رأى في القافية قيداً للعاطفة يجب التحرر منه
(البقية في العدد القادم)
خليل جمعة الطوال