مجلة الرسالة/العدد 226/الخريف في الريف
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 226 الخريف في الريف [[مؤلف:|]] |
فلسفة الأسماء ← |
بتاريخ: 01 - 11 - 1937 |
دعنا الآن من القاهرة! فبشرُها الباسم قد استسرَّ في قطوب الطبيعة، وشجرها الوارف قد اقشعر من رياح الخريف، وهدوءها الشاعر قد غاب في صخب الفتنة؛ وكأنما خفقت في جوها المستنير الصفو أبابيلُ سودٌ من طيور الليل!
دعنا الآن من القاهرة! فقد أصيب عِلمها بداء السياسة، ونُكب رأيها بتدليس الهوى، وامتُحن خُلقها بشهوة المنفعة؛ وكأنما فرغ القادة من جهاد الأجنبي ليشوي بعضهم بعضاً في حريق الوطن!
دعنا الآن من القاهرة! وتعال نرفه عن حواسنا وأعصابنا في سكون الريف الآمن، وفي كنف الفلاح المؤمن، حيث الهوى جميع، والخريف ربيع، والطبيعة الكهلة رُواء وغناء وسحر!
يقول (هوجو): (إن الخريف هو الربيع انبعث من القبر ناسياً حُلاه وحُلله) ولكن الخريف المصري في الريف هو الربيع الحق في نضرته وزينته وعطره؛ فبينا ترى الحقول المتصلة في بياض الدمقس أو صفرة النضار، يجردها سبتمبر من القطن الحريري الأشوك والرز العسجدي الهائج، إذا بها في خضرة السندس أو زرقة اللازورد يكسوها أكتوبر أعواد الذرة اللّفاء وقصب السكر الوريق ونبات البرسيم المؤزر؛ فأينما أدرت بصرك لا تجد إلا رياضاً شجراء من شراب وحب، ومروجاً فيحاء من زهور وكلأ. ثم ترى النيل في أعقاب فيضانه كذوب التبْر ينساب هادراً في الترع والقنوات، فيجعل من ضفاف الجداول، وحفافى الطرق، وحواشي الغيطان، سلاسل زبرجدية من الريحان والعشب. وتنزل على الفلاح المكدود سكينة الرضى والأمل، فينقلب شاعراً يتهادى في ظلال الذرة الخفاقة على مدرجة الطريق المخضوضر، وفكره مستغرق في الله الذي يضع البركة في غيطه، أو في المرأة التي تجلب السعادة إلى بيته
هاهو ذا بعد صيفه الجديب المجهد، يستنشي نسيم الراحة بين أولاده على مصطبة الدار، أو بين بهائمه على رأس الحقل، ويتربص بقطنه المخزون الثمن الربيح، ليقضي دينه فيستريح، ويزوج ابنه فيفرح، ثم يكسو عواري الأبدان (بالدبلان) و (الشيت)، ويمحو مرارة الأفواه بالرمان والبلح؛ وترى القرية بذكورها وإناثها تعيش من فسحة هذا الأمل، ودعة هذه الحياة، وبهجة هذه الحقول، في فيض من الرخاء والغبطة لا يسممه كيد، و تكدره منافسة
خريف الريف وربيعه يتفقان في الخصوبة والبهجة، ويختلفان في الحيوية والطبيعة. فبينا تجد ربيع أبريل ومايو موّاراً بالحياة، فواراً بالعاطفة، هداراً بالهتاف، يجعل من كل حي حركة لا تني ورغبة لا تخمد، إذ تجد ربيع أكتوبر ونوفمبر ساجي النهار، سجسج الظل، ساكن الطائر، ينفض على كل امرئ دعة الطمأنينة، وسكون التأمل، وروعة العبادة. فالمشية وئيدة الخطوات، والوقفة بعيدة النظرات، والجلسة طويلة الصمت، والشبان والشواب يتبادلون التحايا بغمز العيون وافترار الشفاه، كأنما هم وهنّ نشاوي من رحيق عجيب يعقد الألسن، ولكنه ينعش الروح، ويوقظ القلب، ويبسط المشاعر!
أي جمال أملك للنواظر والخواطر من جمال السماء الريفية وقد زينتها رياح الخريف بقزعات من الغيم الرقيق كأنها القطعان البيض ترتعي في المروج الخضر؟ هذه السماء بألوانها السحرية المختلفة التي تتعاقب عليها بتعاقب الساعات، تنطبق على أرض كرقعة الفردوس لا ترى فيها خلاء ولا عراء ولا وحشة، ولا تسمع فيها لغواً ولا تأثيماً إلا هتاف الطير الحائمة على أعذاق النخل اليانعة وسنابل الذرة النضيدة، وإلا شَدَوات الرعاة قد كوموا الحشيش أمام الماشية وتحلقوا حول النار المشبوبة يشوون عليها الأمطار والسمك، ثم يأكلون ويغنون في لذة وبهجة
عهدُنا بالريف في أيام الخريف أن يكون بنجوة من الهم وسلامة من الكآبة. فالأهراء طافحة بالحب، والمخازن مفعمة بالقطن، والغيطان كاسية بالزرع، والجيوب غنية بالمال، والنفوس رخية بالرجاء؛ ولكن ما بال فتيان القرية وفتياتها على غير ما نعهد: يمشون ساهمين، ويقفون واجمين، كأنما غاب عن كل عين حبيب، ومات في كل نفس أمل؟
ألا تراهم يا حسن يدافعون الأسى عن وجوههم ببسمات مكذوبة لا تخدع النظر عن الكمد الباطن؟
- ماذا يصنعون يا صديقي والدائن يقتضي (القسط)، والصراف يطلب (المال)، والمالك يريد (الإيجار)، والأسرة تبتغي (الكسوة)، والقطن وهو سداد هذا العوز كله يصبح عقدة المشكلة وغَلَق الأزمة؟ فثمنه البخس لا يفي بأكلاف زرعه، بَلْهَ ما يُحمل عليه من الأسباب، ويناط به من المنى هاهم أولاء بنوهم وبناتهم كانت أحاديث أحلامهم أن يتزوجوا في هذا العام الذي يتزوج فيه مليكهم المحبوب، تفاؤلاً بطالعه وتيمناً بجده، فرد هذا الكساد الموئس أحلامهم أضغاثاً وأطماعهم وساوس. فكيف تطمع مع ذلك أن ترى البسمة التي تعهد، وتسمع الأغنية التي تحب؟
فقلت له والأسف يغلب على صوتي وكلامي: مهما يكن من الأمر فإن خريفكم أجمل من ربيع الشعراء، وعبوسكم أنبل من بشر الكبراء، وغيمكم أفضل من صفو القاهرة
احمد حسن الزيات