مجلة الرسالة/العدد 226/التشريع والقضاء في العهد الفرعوني
→ الوحدة | مجلة الرسالة - العدد 226 التشريع والقضاء في العهد الفرعوني [[مؤلف:|]] |
الفلسفة الشرقية ← |
بتاريخ: 01 - 11 - 1937 |
للأستاذ عطية مصطفى مشرفة
- 2 -
أثر القانون الحمورابي في قانونهم القديم
يعتبر القانون الحمورابي منبعاً استقى منه القانون المصري القديم بعض مواده، فالشريعة البابلية من أقدم شرائع العالم وهي أقدم من شريعة موسى بل تتقدمها بعدة قرون. وقد عرفت تلك الشريعة باسم شريعة حمورابي نسبة إلى الملك (حمورابي) سادس ملوك بابل الذي عاش حوالي سنة ألفين ق. م
ويقول المؤرخون بأن الملك (حمورابي) بعد أن دون عادات بلاده وضعها في مواد شملت المسائل التجارية والمدنية والجنائية، وأنها كانت في مستوى أرقى مما كانت عليه قوانين البلاد الأخرى، فكان مما نصت عليه (الوراثة) فجعلت مال المتوفى ينتقل بأكمله إلى ورثته، وبذلك وضعت للشرائع الأخرى الحجر الأساسي لكيفية انتقال الحقوق إلى الغير، وجعلت للموهوب له ملكية ما وهبه إليه الواهب. ويكفي الشريعة الحمورابية فخراً أن الشرائع السماوية جاءت ببعض المبادئ التشريعية الموجودة إذ ذاك فيها، فقد جعل حمورابي بعض مواد شريعته وفق قوله تعالى: (الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) فالله تعالى قد كتب على المسلمين القصاص في القتل والجروح كما كتبه على بني إسرائيل من قبل، فقال تعالى: (النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص) فقد كانت شريعته تنص على أنه (إذا سمل أحدهم عين حر تسمل عينه، وإذا كسر أحدهم عضو حر يكسر له عضو، وإذا خلع أحدهم سن رجل من طبقته تخلع سنه)
ومما هو جدير بالذكر أن حمورابي فصل السلطة التنفيذية عن السلطة القضائية وعهد بالقضاء إلى من يتخرج في مدرسة التشريع في بابل
ولما ساءت الحالة السياسية في بابل بعد موت ملكهم (حمورابي) واشتدت المظالم وعمت الفوضى البلاد، هجرها كثير من العلماء نفوراً من الضيم واستوطنوا بعض الممالك الأخرى ثم نشروا ثقافتهم وتشريعهم وعلمهم بتلك الممالك؛ وكان حظ مصر من تلك الشريعة الحمورابية وفيراً، إذ استوطن بعضهم البلاد المصرية ونشروا فيها حضارتهم البابلية، ثم ضرب المصريون بسهم وافر في التشريع وأدخلوا في تشريعهم تعديلات جمة وافقت روح عصرهم، وبذلك بذوا أساتذتهم الحمورابيين وعلوا بالتشريع المصري علواً كبيراً، وخصوصاً عندما أنشئوا مدارس التشريع في طيبة وغيرها لتغذي القضاء بنوابغ المشترعين
أثر القانون المصري القديم في القانونين الإغريقي والروماني
تدل الاستكشافات الأثرية والمباحث العلمية الحديثة على أن اليونان والرومان يدينون لمصر بكثير من المبادئ القانونية؛ فمنذ أوائل العصر التاريخي هبط مصر، بفضل الصلات البحرية والتجارية، بعض علماء اليونان مثل فيثاغورس وهيرودتس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد ودرسوا نظمها وقوانينها. كذلك حضر إلى مصر عام 559 ق. م المشرع الإغريقي صولون، فلما عاد إلى بلاده أدخل في تشريعها ما اقتبسه من مجموعة قوانين بوخوريس وأدمجه في قانون صولون الذي وضع في أثينا في مبدأ القرن السادس ق. م ومما أخذه المشرع صولون من قانون بوخوريس مبدأ أن المدين لا يجوز حبسه، لأن التنفيذ يجب ألا يتعدى مال المدين ويتجاوزه إلى شخصه. وقد أخذ صولون من قانون أمازيس أحد ملوك الأسرة السادسة بعد العشرين فكرة معاقبة كل متعطل ومن مالت نفسه إلى الراحة وعدم العمل فيما يدر عليه من المال الحلال ما يسد به رمقه وحاجات أسرته
كذلك اقتبس الرومان الكثير من القوانين المصرية وأدمجوها في قانون الألواح الأثني عشر الذي وضع في روما في منتصف القرن الخامس ق. م فقد أثبت العالم الفرنسي الأستاذ ريفيو وهو ممن وقفوا حياتهم على دراسة القوانين عند الأمم القديمة أن القوانين الرومانية ترجع إلى القوانين التي وضعها قدماء المصريين، إذ أن قانون الألواح الأثني عشر الذي هو أساس القوانين الرومانية مستقى من القوانين المصرية وأنه لا يتيسر معرفة كنه القوانين الرومانية ولاسيما المدنية منها إلا إذا فهم الإنسان أصولها التي وضعها قدماء المصريين فقد قال الأستاذ ريفيو ما تعريبه (إن المبادئ القانونية البحتة التي نص عليها قانون الألواح الأثني عشر مأخوذة من القوانين التي وضعها قدماء المصريين) وعندما هبط رسل روما بلاد اليونان لتحضير قانون الأثني عشر لوحاً أخذوا كثيراً من قانون صولون اليوناني الذي وضع في أثينا في أوائل القرن السادس ق. م وقد نقل الرومان عن القوانين المصرية طريقة التعاقد الشفاهية التي كانت تتم عند المصريين في جميع عقودهم بقسم أي صنك يصدر من المتعهد للمتعهد له بأنه سيؤدي إليه ما اتفقا على أدائه، وقد أطلق الرومان على هذا الشكل من التعاقد فيوجه المتعهد له للمتعهد القسم بقوله أتقسم - فيجيب المتعهد أقسم وكانت تشبه طريقة التعاقد هذه ما يسمى عند الرومان بالـ
كذلك أخذ الرومان عن المصريين طريقة تحرير العبيد بواسطة محاكم دينية أعدت خصيصاً لذلك، كما شرع (أمازيس) طريقة الإشهاد بالميزان في كافة العقود الناقلة للملكية ولاسيما في البيع والتبني، وهي الطريقة التي نقلها الرومان في تشريع الألواح الاثنى عشر. لذا يمكننا أن نقول بحق أن القانون الروماني قد أخذ أيضاً مبادئ كثيرة عن القوانين المصرية في مختلف العصور بعد صبغها بصبغة رومانية. ولا غرو فقد بلغت القوانين المصرية إذ ذاك من الرقي ما جعل ديودورس الصقلي - وهو مؤرخ يوناني عاش في القرن الأول قبل الميلاد - يقول عنها: (إنها كانت جديرة بالإعجاب وأعجب بها العالم فعلاً)
القضاء عند قدماء المصريين
تبعاً لسنة التقدم الاجتماعي وتنوع الصلات الاجتماعية والاقتصادية وتهذيب الأفكار والنفوس شعر قدماء المصريين منذ القدم بحاجتهم لقاض يفصل في خصوماتهم ويحمل في يده ميزان العدل فيقر الحقوق في نصابها ويرفع الظلم ويدفع الأذى ويستخلص حق الضعيف من القوي؛ غير أن النظام القضائي في العهد الفرعوني يشوبه بعض الغموض لسببين: أولهما قدم عهده، وثانيهما قلة المصادر التي كتبت عنه؛ غير أنه مما لا جدال فيه أنه كان للملك كل السلطة العمومية إدارية وقضائية، بل كانوا يؤلهونه ويقدسونه ويحترمونه احترام العبد للسيد، ويعبدونه في حياته ومن بعد مماته، ويسمونه بأسماء الآلهة، فهو المحيي الدائم، وهو الإله الرحيم، أو الإله الأعظم، إلى غير ذلك
كان هذا الفرعون إذن خليفة الإله وظل الله في أرضه؛ فهو رئيس الديانة وحامي الدين والمدافع عن الوطن وأراضيه، وهو السيد الآمر الناهي في جميع مرافق البلاد، فهو رئيس الدولة ومصدر جميع سلطاتها وكان يستمدها من الآلهة رأساً
كان الملك يباشر القضاء إما بنفسه وإما بواسطة موظفيه الدينيين أو المدنيين. ولم يكن هؤلاء القضاة منقطعين لأعمالهم القضائية، بل كان بعضهم من الكهنة وبعضهم من كبار العلماء يختارهم الملك للقضاء مضافاً ذلك إلى وظائفهم. وكان للملك الرأي الأعلى في القضاء بالرغم من أنه كان يسمح لغيره بالفصل فيه. وكان لأي فرد من رعايا الملك أن يطلب الإنصاف منه إذا ظلم، فيعيد الملك النظر في القضية ويفصل فيها بنفسه. وكان للملك الحق المطلق في النظر والفصل في القضايا؛ وله أن يستعمله بنفسه أو ينيب غيره فيه بناء على التماس يرفع إليه من المتظلمين عن حكم اعتبروه جائراً وقد فصل فيه غيره. وكانت هذه الحالة الأخيرة هي الشائعة، فكان الملك لا يجلس للقضاء في الأكثر إلا إذا اشتكى أحد رعاياه من الحكم الصادر عليه وطلب منه التدخل
كانت مصر مقسمة إلى عدة أقاليم يدير شؤون كل منها رئيس هو حاكم الإقليم ونائب الملك فيه؛ وكانت له كل السلطة العمومية من إدارية وقضائية على جميع أنحاء إقليمه. وكان إذا جلس للقضاء وجب عليه أن يشرك معه مجلساً مكوناً من قضاة يعينهم الملك؛ وكان لهذا المجلس بعض المدونين. وانقسم كل إقليم إلى مراكز عدة، وانقسم كل مركز إلى عدد من المدن والقرى تكوّن جملة نواح؛ وكان في كل ناحية محكمة يختار قضاتها من أهلها وتنظر في القضايا البسيطة، وكانت أحكامها قابلة للنظر فيها من المحكمة العليا التي كان مقرها عاصمة القطر، فلم تكن السلطة التنفيذية إذن مستقلة عن السلطة القضائية، فالوزير الأكبر كان رئيس الحكومة، وهو في ذات الوقت رئيس المحكمة العليا وله سلطة القضاء في المملكة. كذلك كان حكام الأقاليم رؤساء لمحاكمها. وكان الحكم يصدر متوجاً باسم الملك؛ وكان يطلق على القضاة لقب (ساب) وكانت وظيفة القاضي يرمز لها بالهيروغليفية بصورة ابن آوى. وكان القضاة يؤدون قسماً يلزمهم الطاعة لجميع أوامره متى كانت عادلة. وكانت القوانين تسجل في دار العدل ويعتبر تسجيلها في هذه الدار بمثابة نشر لها، إذ بمجرد تسجيلها تسري على أهل البلاد. أما المراسيم فكانوا لا يسجلونها في دار العدل، بل كانت تنفذ بمجرد ختمها بخاتم الدولة كان القضاة في زمن الفراعنة من القسس المتخرجين في مدارس التشريع في معابد منفيس وطيبة وآن (أو عين شمس) وكانت المحكمة الكبرى بمدينة طيبة تؤلف من ثلاثين قاضياً يختارون من فطاحل الكهنة المتضلعين في المسائل القانونية، بنسبة عشرة عن كل مدينة من تلك المدن الثلاث، وأعطيت الرياسة لأكبرهم سناً، كما منح الرئيس مرتباً أكبر من بقية إخوانه القضاة. وكان على معبد المدينة الذي ينتخب الرئيس منه أن يرسل إلى المحكمة بقاض آخر حتى يصير عدد القضاة في المحكمة بما فيهم الرئيس واحداً وثلاثين قاضياً. وكان رئيس المحكمة الكبرى إذا جلس للحكم بين الناس يضع في عنقه سلسلة ذهبية معلقاً بطرفها حجر كريم على شكل تمثال إله العدل (ما) أو (معت)؛ وكان يدير هذا التمثال على الأعضاء عندما يدلي كل برأيه، فإذا تم ذلك نطق الرئيس بالحكم. وكانت توضع على منصة القضاء أثناء انعقاد الجلسات ثمانية مجلدات ضخام تحوي كل القوانين المصرية القديمة
وكانوا ينتخبون قضاتهم ممن وسعت تجاربهم وعظمت معلوماتهم الدينية والدنيوية وكثرت ثقافتهم العلمية، وكانت أحكامهم محترمة ونافذة. أما مرتبات القضاة فكانت تصرف لهم من خزينة الملك وقد كثرت أنواع المحاكم عندهم بحسب اختصاصها فوجدت المحاكم الأسرية أو المنزلية التي كانت لا تتناول إلا المسائل البسيطة، وكان قاضيها رئيس الأسرة الذي خول السلطة التأديبية على جميع أفرادها. وكما وجدت المحاكم المدنية عند قدماء المصريين ذات الدرجات الثلاث: جزئية بالقرى والمدن، وابتدائية بعواصم الأقاليم، واستئنافية بعاصمة الدولة، كذلك وجدت المحاكم العسكرية والقضاء الإداري الذي كان يصل بين الأفراد والجهة الإدارية كالمنازعات التي تقع بين دافعي الضرائب وبين الموظفين المكلفين بجبايتها. كذلك وجد القضاء الجنائي بنوعيه العادي الذي يفصل في قضايا الأفراد، وغير العادي الذي ينظر في الجرائم التي تمس الملك أو الدولة بصفة عامة؛ وكانت تتولاه المحكمة الخاصة، وكان يدخل ضمن تشكيلها نفر من رجال الجيش. وكان القضاء الجنائي العادي على درجتين: الدرجة الأولى محكمة المدينة أو محكمة الإقليم وتستأنف أحكامها أمام الملك أو مجلس الملك الخاص كما وجدت محاكم دينية لتحرير العبيد منذ الأسرة الحادية والعشرين، فكان إذا ظلم السيد عبداً له لجأ العبد لمعبد من المعابد واحتمى بتمثال أحد الآلهة، فإذا اقتنع كهنة المعبد بظلامته قضوا بجعله من حيث الشكل عبداً للإله الذي احتمى به، وبذلك تزول سلطة السيد عنه ويصبح حراً. وسمح لكل مصري حر ظلمه أحد الحكام أو جهة إدارية أن يلجأ إلى إله يحميه من هذا الظلم
(يتبع)
عطية مصطفى مشرفة