مجلة الرسالة/العدد 226/أبو الفرج الببغاء
→ رؤيا (مرزا) | مجلة الرسالة - العدد 226 أبو الفرج الببغاء [[مؤلف:|]] |
من وحي الشجرة الضالة ← |
بتاريخ: 01 - 11 - 1937 |
للأستاذ عبد العظيم علي قناوي
أبو الفرج الببغاء أديب سامق البناء أدبه، فله الشعر العذب الرقيق، والنثر الحلو الرشيق. إذا أنشدت شعره كنت كمن يسرح طرفه في حديقة فينانة أريضة، غانية بمختلف الأزهار، ساحرة بموسيقا الأطيار، قد انتظمت أسماطاً وقلائد، وضمت أوساطا وخرائد؛ تجيل فيها بصرك فلا تدري أي شعابها تسلك؛ فوصفه يهدي إليك صورة أروع من المصوّر، يعرض عليك الحقيقة مرصعة بالخيال، والخيال موشي بجمال الحقيقة؛ ومدحه فرائد يطول بها جيد الممدوح، ولآلئ ليس لها مثال، بل هي مضرب الأمثال. فمن ذلك الذي يوصف بمثل قوله:
يا عارضاً لم أشم مذ كنت بارقه ... إلا رويت بغيث منه هطَّال
رويدَ جودك قد ضاقت به هممي ... وردَّ عني برغم الدهر إقلالي
لم يبق لي أمل أرجو نداك به ... دهري لأنك قد أفنيت آمالي
من هذا الذي يبلغ نداه أن يرغم الدهر ويفني الأمل؟ ولا يطاول الجوزاء فيطولها، ويسامي السماء فيسمو عليها، وخمرياته وتشبيباته وتشبيهاته فعلها في الرءوس دونه معتق المدام، وأثرها في النفوس أنكأ من أثر الحسام، فكل شعره يبهر من يراه ويسحر من ينظر فيه، فهو أزاهير من الجمال، وطاقات من الحسن والروعة تحير الألباب وتخلب الأبصار. وإنه لمما يشق على النفس الشاعرة أن ينفرط عقد لا يجيد تنظيمه غير راسمه، أو ينتكث نظم لا يحسن تنضيده سوى ناظمه، فلا محيص حينئذ من أحد أمرين كلاهما محبب إلى النفس مرهف الحس؛ إما أن تستوعب ذاكرتك ما قرأت فتلتهمه روحك بعد أن أنتهبه بصرك، وإما أن ترسمه في مخيلتك ليرقى برسمه خيالك وترق بصوره آثارك
نسبه: ينتسب أبو الفرج إلى قبيلة عريقة في عربيتها لا تفرعها قبيلة شرفاً وخيماً هي قبيلة بني مخزوم؛ وولد بنصيبين في أوائل القرن الهجري الرابع، ولم أعثر على مصدر يحقق لي سنة مولده. ترجم له الخطيب البغدادي في الجزء الحادي عشر من تاريخ بغداد فقال عنه: (عبد الواحد بن نصر بن محمد أبو الفرج المخزومي الحنطُبي الشاعر المعروف بالببغاء. كان شاعراً مجوداً وكاتباً مترسلا، مليح الألفاظ جيد المعاني حسن القول في المديح والغزل والتشبيه والأوصاف) وترجم له أبو منصور عبد الملك الثعالبي في الجزء الأول من كتابه يتيمة الدهر فقال: (هو أبو الفرج عبد الواحد بن نصر المخزومي من أهل نصيبين نجم الآفاق، وشمامة الشام والعراق، وظرف الظرف، وينبوع اللطف، وأحد أفراد الدهر في النظم والنثر، له كلام بل مدام بل نظام من الياقوت بل حب الغمام. . .) إلى آخر ما نعته به من أوصاف
أما سبب تلقيبه بالببغاء فلثغة كانت مدار أحاديث طريفة ومحاورات ظريفة بينه وبين صديقه أبي اسحق الصابي نورد بعضها لأن في قصصها متعة ولذة. رُوي أن كلاً من أبي الفرج الببغاء وأبي اسحق الصابي كان يشتاق رؤية صاحبه ويتلهف على اللقاء به ويتمنى أن يجتمع به بأي ثمن؛ وكانا يتكاتبان دون تلاق فتعارفت رسائلهما قبل تعارف شخصيهما. واتفق أن قدم أبو الفرج بغداد، فكان أول ما يهمه أن يبحث عن صديقه فإذا هو معتقل، فزاره في محبسه ولم يُثنِّ زيارته، فعتب عليه الصابي بقصيدة منها:
أبا الفرج اسلم وابق وانعم ولا تزل ... يزيدك صرف الدهر حظٍّا إذا نقص
مضى زمن تستام وصلي غالياً ... فأرخصته والبيع غال ومرتخص
وآنستني في محبسي بزيارة ... شفت كمداً من صاحب لك قد خلص
ولكنها كانت كحسوة طائر ... فواقاً كما يستفرص السارق الفرص
وأحسبك استوحشت من ضيق محبس ... وأوجستِ خوفاً من تذكرك القفص
فأجابه الببغاء دون ريث مع رسوله:
أيا ماجداً مذ يمّم المجد ما نكص ... وبدر تمام مذ تكامل ما نقص
تقنصت بالألطاف شكري ولم أكن ... علمت بأن الحرَّ بالبرد يقتنص
وصادفت أدنى فرصة فانتهزتها ... بلقياك إذ بالحزم تنتهز الفرص
فإن كنت بالبَبْغاء قدما ملقبا ... فكم لقب بالجور لا العدل مخترص
وبعد فما أخشى تقنص جارح ... وقلبك لي وكر ورأيك لي قفص
فأنهي الحديث إلى عضد الدولة غريم الصابي فأعجب به وكان سبباً من أسباب العفو عن الصابي وإطلاقه، فرأى أن يكون أول ما ينشده وصف الببغاء وذكر محاسنه والتلميح بفضل أبي الفرج وذكائه فأرسل أرجوزة منها:
ألفتها صبيحة مليحه ... ناطقة باللغة الفصيحهْ عدت من الأطيار واللسانُ ... يوهمني بأنها إنسان
ومنها وهو آخرها:
تلك التي قلبي بها مشغوف ... كنيت عنها واسمها معروف
نشرك فيها شاعر الزمان ... والكاتب المعروف بالبيان
وذاك عبد الواحد بن نصر ... تقيه نفسي عاديات الدهر
فأجاب أبو الفرج بأرجوزة منها:
من منصفي من حكم الكتاب؟ ... شمس العلوم قمر الآداب
أضحي لأوصاف الكلام محرزاً ... وسام أن يلحق لما برزا
وهل يجاري السابق المقصر؟ ... أم هل يساوي المدرك المعذِّر؟
ومنها بعد أن أطال في وصف الببغاء:
لو لم تكن لي لقباً لم أختصر ... لكن خشيت أن يقال منتصر
وإنما تنعت باستحقاق ... لوصفها حذق أبي إسحاق
شرفها وزاد في تشريفها ... بحكم أبدع في تفويفها
فكيف أجزي بالثناء المنتخب ... من صرَّف المدح إلى اسمي واللقب
ومن أبدع ما مدح به اللثغ ما كتبه الصابي إلى أبي الفرج:
أبا الفرج استحققت نعتاً لأجله ... تسميت من بين الخلائق بَبَّغا
بياناً منيراً كاللجين مضمنا ... نضاراً من المعنى أذيبا وأفرغا
فلو لامرئ القيس انتدبت مجاريا ... كبا أو لقس في فصاحته صغا
ومنها:
وما هجنت منك المحاسن لثغة ... وليس سوى الإنسان تلقاه ألثغا
أتعرفها فيما تقدم خاليا ... بعير إذا ما صاح أو جمل رغا
فيالك حرفاً زدت فضلاً بنقصه ... فأصبحت منه بالكمال مسوغا
وبعد فلنترك حديث اسم أبي الفرج ولقبه، ولنتحدث عن حياته الأدبية لنصل منها إلى دراسة شعره ونثره
اتصل أبو الببغاء فتى بأمير حلب سيف الدولة علي بن حمدان وهو حينذاك حلبة آمال الأدباء وكعبة رجاء الشعراء، يملأ أفواههم بالنضار، فيملئون أرجاء ملكه بروائع الأشعار، ويرفع أقدارهم بمنحه، فيرفعون عقائرهم بمدحه، وليس ذلك من مثله بمستغرب، فإن صلته بهم وشيجة فهو أديب مجيد وشاعر رقيق تهزه الأريحية وتتملكه موسيقى الشعر، فيسح عليهم وسميه وتهمي ديمه، ولأنه رأى أن يتشبه بعظماء الخلفاء ممن قربوا الشعراء وأدنوا مجالس الأدباء والعلماء كعبد الملك والرشيد والمأمون فغمرهم بلجينه ليروي منبت عزهم ومعين شعرهم ومهبط وحيهم وسماء فيضهم، ولأن دولة الأدب سناد قوي لدولة السياسة وعماد حصين لرجالها يذيعون حسناتها ويذودون عن رجالاتها، فجمع حوله من فحول الشعراء من لم يجتمع مثله لأمير أو خليفة قبله؛ فالمتنبي وأبو فراس الحمداني، والصابي والموصلي والببغاء والوأواء وغير أولئك وهؤلاء جعلهم في حياطته ينشدون محامده ويدبجون مدائحه، ولا يعرف تاريخ الأدب ممدحاً مدح بعشرة آلاف بيت من عيون الشعر سوى سيف الدولة. قال الثعالبي في يتيمته في ترجمة سيف الدولة:
(كان كل من أبي محمد عبد الله بن محمد القاضي الكاتب، وأبي الحسن علي بن محمد الشمشاطي قد اختار من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت)
ولأن سيف الدولة كان أرفع أمراء الدولة قدراً وأوسعهم مُلكاً وأقواهم سلطاناً هرع إليه الشعراء وكان زعيمهم من يصل سببه بأسبابه
لذلك ولغيره سار أبو الفرج في ركابه فعاش طوال عمره وفياً له ولابنه من بعده، فمدائحه فيض قلبه ونبعة حبه لا رغبة في ولاية، ولا خوفاً من وشاية، ومتى كان الشعر باعثه الشعور ومصدره الوجدان، بلغ أقصى الجودة والإحسان؛ ولاشك أن اللهى تفتح اللهاة. قيل إن سيف الدولة ضرب دنانير للصلاة عليها اسمه ورسمه وأمر عقب ضربها بعشرة منها لأبي الفرج فانطلق منشداً:
نحن بجود الأمير في حرم ... نرتع بين الشعور والنعم
أبدع من هذه الدنانير لم ... يجر قديماً في خاطر الكرم
فقد غدت باسمه وصورته ... في دهرنا عوذة من العدم
فزاده عشرة أخرى، فهو لهذا قمين بالوفاء له لم يتغير عن وده في قربه أو بعده، ولكن هذا لم يمنعه أن يمدح غيره من لداته لا من عداته، ولعل هذا يرسل إلينا قبساً من أخلاقه وسيكشف لنا ما سنقدمه من شعره ونثره عن خلال كريمة وموعدنا بدراسة نثره وشعره عدد تال
(المعادي)
عبد العظيم علي قناوي