مجلة الرسالة/العدد 225/الحظ المعاكس
→ أي زمان هذا؟! | مجلة الرسالة - العدد 225 الحظ المعاكس [[مؤلف:|]] |
في تاريخ الجمعيات السرية ← |
بتاريخ: 25 - 10 - 1937 |
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
الذين يعتقدون أنهم مضطهدون في الحياة وأن كل من في الدنيا وما فيها من ناس وأشياء يناوئهم ويكيد لهم ويناصبهم معذورون، وإن كان الأطباء يقولون أن هذا مرض؛ فقد تتوالى المصادفة على وتيرة واحدة لا تختلف أو تتنوع حتى يكبر في وهم المرء أن هناك عمداً، فيروح يعذر بن الرومي الذي حكوا أنه كان إذا رأى النوى مبعثراً أمام باب البيت يرتد داخلاً ويقعد عن التصرف في يومه ذاك إيثاراً لطلب السلامة مما يتوهم أنه لا محالة ملاقيه من السوء والشر
حدث يوماً أني بكرت في القيام من النوم ليتيسر لي أن أكتب ما ينبغي لي أن أكتبه في ذلك اليوم، ثم أخرج لقضاء عدة حاجات لا سبيل إلى إرجاء واحدة منها. فأما الكتابة فاستحالت لأن الآلة الكاتبة تعطلت لعلة لم استطع أن أهتدي إليها، ولأني لم أجد في البيت كله لا حبراً ولا قلماً ولا شيئاً مما يستطيع المرء أن يكتب به، فابتسمت - فما بقيت لي حيلة - وقلت: (صدق المثل. . . باب النجار مخلع) وحدثت نفسي أن هذا يفسح الوقت لقضاء الحاجات الأخرى، فارتديت ثيابي وخرجت من الشقة متوكلاً على الله، فلم أكد أضع رجلي على الدرج حتى زلت قدمي، فنهضت متوجعاً على يدي ورجلي فقد هاضني الاصطدام بالدرجات وحدثت نفسي أن ساقي على الأقل لا ينقصها هذا الرض الجديد، ثم نفضت التراب عن ثيابي - بحكم العادة فإن السلم نظيف - ومضيت متحاملاً على نفسي إلى (الجراج) ولكن السيارة أبت كل الإباء أن يدور محركها. ولست حديث عهد بالسيارات ولا اعرفني عجزت عن علاج حرانها إذا كان لأسباب عارضة، ولكن الأمر استعصى عليً في ذلك الصباح حتى كدت أجن، فتركتها واستأجرت سيارة وفي ظني أنها أسرع من الترام وما إليه، فلم نكد نقطع كيلو واحداً من الطريق حتى عرض للسائق راكب دراجة خرج فجأة من زقاق، فأراد السائق أن يتقي أن يدوسه ويزهق روحه فاصطدم بحافة الرصيف وكاد يقتلني أنا أو يحطمني على الأقل. فنقدت الرجل ما استحق من الأجر وقلت: الترام أسلم وكنا عند محطته، فوقفت ثلث ساعة أنتظره وهو لا يجيء لسبب لا أدريه؛ وأنا أحتمل المشي مهما طال، ولكني لا أحتمل الوقوف خمس دقائق، فأحسست أن بدني قد تضعضع وأن ساقيّ أصبحتا لا تقويان على حملي، وإن كنت دقيقاً خفيفاً - وزناً ولا دماً - ورأيت مركبة خيل مقبلة فأسرعت إليها وركبتها، والقارئ أعرف بمركبات الخيل، وأكبر الظن أنه رأى كيف ينام الجواد وهو يوهمك أنه يجر المركبة. . . ما علينا. . . سرنا دقائق بسرعة كيلو وربع في الساعة وإذا بالترام الذي نفد صبري وتهدم جسدي وأنا أنتظره يدركنا ويمر بنا كالبرق الخاطف ويتركني أتحسر على العجلة التي صدق من قال إنها من الشيطان لعنه الله. وأوجز فأقول إن كل باب طرقته في ذلك اليوم الأسود ألفيته مسدوداً، وإن كل رجل أردت أن ألقاه وجدته مسافراً أو مريضاً، فاقصرت خوفاً على الباقين الذين كنت أريد أن أقابلهم أن يدركهم الموت. ولاشك أن بن الرومي كثرت تجربته لأمثال هذه المصادفات فصار يؤثر اختصار الأمر والنكوص من البداية اتقاء لمعانات الخيبة التي مل تكررها ولم يكن يجد فيها لذة وله العذر
وأذكر أنه كان معنا في المدرسة الابتدائية تلميذ مجد مجتهد وذكي بارع، وكان حرياً بالنجاح والسبق في أي امتحان، ولم يكن لأحد منا أمل في مزاحمته، ولكنه كان قبل كل امتحان يصاب بمرض يقعده عن أداء الامتحان. وكنا نحن على نقيضه لا نصاب بمرض حتى ولا بزكام خفيف، وكان يتفق أن ينذرنا المدرس أنه مختبرنا غداً مثلاً في الجغرافيا فتهبط قلوبنا إلى أحذيتنا، فقد كانت الجغرافيا أثقل ما نتلقاه من المعارف والعلوم في المدارس الابتدائية لأنها كانت عبارة عن أسماء خلجان وأنهار وجبال ورؤوس وبلدان ليس إلا؛ وكان حفظ هذه الأسماء التي لا آخر لها يسود نور الضحى في عيوننا، ولا أعلم ماذا كان يفعل سواي، ولكني أعرف أني كنت أنشد المرض بكل وسيلة أعرفها فأروح أقف ساعة وساعتين في تيارات الهواء، وأصب الماء البارد على رأسي في الشتاء وأتركه مبلولاً للهواء وفي مرجوي أن أزكم أو أحم فلا يحدث من ذلك شيء، وأضطر إلى الذهاب إلى المدرسة فما بي بأس يصلح أن يكون مسوغاً للتخلف وأعاني الاختبار الذي أنذرنا به، وألقي جزاء العجز عن الحفظ، وتمضي الأيام وأنا صحيح معافى، وإذا بأحد المدرسين يبشرنا بأنه سيذهب بنا إلى حديقة الحيوان في يوم كذا فنفرح ونعد طعامنا ونمني النفس بيوم جميل نلعب فيه وننط ونمتع العين بمنظر القرود والفيل ذي الخرطوم - أبو زلومة كما نسميه - والأسود. ويصبح الصباح الذي أحلم به فأهم بأن أرفع رأسي عن الوسادة فإذا به أثقل من حجر الطاحون، فأستغرب وأتحسسه فلا أجده مشدوداً إلى شيء، فأسأل أمي فتقبل عليّ وتجسني ثم تقول: (أنت سخن. . لا بد من شربة حالاً) فأصيح: (ولكن كيف أذهب إلى جنينة الحيوانات إذا شربت الشربة؟) فتقول: (جنينة الحيوانات؟ أنت مجنون؟ نم نم. . . لا جنينة الحيوانات ولا غيرها. . .) فأتحسر وأقول لنفسي: (بقى يا رب تشفيني يوم امتحان الجغرافيا وتمرضني يوم جنينة الحيوانات؟ الأمر لله) وأرقد وتجيء الشربة فأتجرعها بكرهي، وبعد ساعتين اثنتين تهبط درجة الحرارة إلى الحد الطبيعي
ومن غرائب الدنيا أن فيها متزوجين يسخطون على نسائهم ولا يريدونهن - ولا يدري أحد لماذا تزوجوهن إذاً - ورجالاً يطلبون الزواج ولا يجدون النساء الموافقات، وفقراء لا يكادون يجدون الكفاف ولهم من البنين تسعة أو عشرة أصحاء يأكلون الزلط كالنعامة؛ وأغنياء يسر الله لهم الرزق وأدر عليهم أخلاف الثروة يشتهي الواحد منهم أن تكون له طفلة واحدة ولو كانت عوراء أو كسيحة. وترى بنات دميمات ثقيلات الدم والروح يتزاحم الشبان عليهن ويطرحن أنفسهم تحت أقدامهن وهن لا يردنهم ولا يشجعنهم ويرفضن أن يكن زوجات لهم وإن كانوا صالحين وأحوالهم حسنة وسيرهم مرضية. وترى بنات جميلات رشيقات ممشوقات يفتن العابد بالحسن والظرف وحلاوة الطبع وطيب الحديث وبراعة الذكاء، ولكنهن مسكينات لا يرغب فيهن أحد ولا يباليهن مخلوق ولا يحلم بوجودهن لا شاب ولا كهل. قالت لي مرة واحدة من هؤلاء الجميلات المسكينات - اعني المنبوذات - إن أغلب ظنها أن العنس هو كل حظها من الدنيا. فتألمت وقلت لها: (يا شيخة حرام عليك. . . أهذا كلام تقوله شابة في العشرين من عمرها؟) قالت: (هذا اعتقادي. . . وأي شيء هناك يغري بالأمل؟. . إن الناس يطلبون المال) قلت: (مالك جاملك وعقلك وحسن تدبيرك وأخلاقك الطيبة) قالت: (أشكرك ولكنك لن تستطيع أن تحيي أملاً مات. . . إني أدرى منك. . .) فتذكرت فتاة هي مثال مجسد للدمامة وثقل الدم وقلة العقل فقلت: (إذا كانت فلانة قد وفقها الله إلى زوج صالح كريم. . .) فقاطعتني وقالت: (هذا هو الذي يحدث دائماً. . . أليس حظ فلانة هذه مدهشاً؟ من كان يتصور؟ اللهم لا اعتراض. . .) قلت: (إنك مازلت صغيرة فاصبري) قالت: (بالطبع. . . ثم إنه لا حيلة لي إلا الصبر ولكنه لا يسعني إلا أن أرى وأتعجب. . . هل تعرف إن كل من زارتنا خاطبة - وإن كانت لم تصرح ببواعث الزيارة - ذهبت ولم تعد؟. . وليس هذا فقط بل سمعنا من معارفنا أن هؤلاء الزائرات الخاطبات عبنني بكيت وكيت (وذكرت لي عيوباً ليس فيها شيء منها) وإن كل حديث جرى مع أبي في أمر الزواج انتهى بالانقطاع بلا سبب نعرفه) فلم يسعني إلا أن أرثي لها. فليس كل ما تعانيه إبطاء الحظ عليها بل شر من ذلك الإيلام الذي تحدثه صدمة الخيبة كلما نشأ الأمل. وقد كان من أثر ذلك أنها صارت تجنح إلى التمرد أحياناً على المجتمع وعلى حالاته وما يكون بين الناس فيه؛ فلولا أن لها من عقلها وحسن تربيتها وازعاً قوياً. . .
وقالت لي مرة وأنا ماض بها إلى بيت خالة لها: (شف. . . أنا لا أخرج قط إلا مع أبي أو أخي أو معك أحياناً. . ولكني واثقة أن الناس يعرفون وجهي ولا يعرفون صلتك بنا سيرونني اليوم واثقة أيضاً أنهم سيعتقدون أنك. . . أنك. . . غريب. . . وأني خارجة معك للنزهة أو. . . وأني باختصار بنت فاسدة الأخلاق. . . وواثقة فوق هذا أنهم سيعنون بأن يذيعوا هذا عني كأن لهم ثأراً عندي. . . فما رأيك؟)
فقلت لأخفف عنها: (المصيبة واحدة. . . أنا أيضاً رجل تقي ورع أخاف الله وأتقيه ولي زوجة وأولاد؛ وأنا واثق أن ناساً يعرفونني ولا يعرفونك سيروننا فيقول كل منهم في سره أو لصاحبه: شف. . . شف. . . أما إن معه لبنتاً!!! يا ابن الـ. . .)
فضحكت فقالت: (هذا أحسن. . . ليس في وسعنا أن نصلح الكون إذا صح أن به حاجة إلى الإصلاح، ولكن في وسعنا دائماً أن نتلقى ما تجيء به الحياة بابتسامة حلوة كابتسامتك وإن لم يرزق كل إنسان مثل هذا الفم الجميل)
وهكذا الدنيا دائماً. . .
إبراهيم عبد القادر المازني