مجلة الرسالة/العدد 224/في تاريخ الجمعيات السرية
→ في أي عصر تعيش مصر؟ | مجلة الرسالة - العدد 224 في تاريخ الجمعيات السرية [[مؤلف:|]] |
الدمام ← |
بتاريخ: 18 - 10 - 1937 |
1 - طائفة سرية عجيبة تعيش في عصر المدنية بأساليب
همجية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
قامت الجمعيات والطوائف السرية في جميع العصور والمجتمعات وتنوعت مبادئها وغاياتها الدينية والسياسية والاجتماعية، ولعبت مختلف الأدوار في تكوين الآراء والعقائد، وذهبت في الغلو والإغراق كل مذهب، وتركت أثارها في جميع الأمم والمجتمعات التي قامت بها.
ولكن التاريخ لم يسجل صفحاته السرية الحافلة سيرة أغرب وأروع من سيرة جماعة سرية من البشر الهائمين اصطلحوا على التوسل لتحقيق مبادئهم الروحية المزعومة بتشويه الإنسان وتعطيل مهمته الاجتماعية بطريقة بربرية اعتبرت في جميع الأمم والعصور وحشية مثيرة تطاردها الأمم المتمدينة بمنتهى الشدة والصرامة، تلك هي (طائفة المجبوبين) (سكوبتسي) التي قامت في روسيا في أواسط القرن الثامن عشر، ولا تزال قائمة حتى اليوم، والتي تعتبر الجب وسيلة النقاء من الدنس وطريق الخلاص الأبدي من آثام هذه الدنيا.
ولقد عرف التاريخ منذ أقدم العصور أمثلة من هذا النوع اعتبرت فيها هذه الوسيلة الهمجية ضرباً من التضحية السامية التي ترتفع بصاحبها إلى مراتب التقديس، وظهرت بين بعض طوائف الرهبان في أوائل عصور النصرانية، وذاعت حيناًَ بين رهبان الكنيسة الشرقية، ولكنها كانت دائماً مثار الإنكار من الناحيتين الدينية والإنسانية.
وعرفت معظم العصور والأمم طوائف الخصيان والمجبوبين من العبيد والخدم، وعرفتها المجتمعات الحديثة حتى أواخر القرن الماضي، ولكن طوائف الخصيان كانت تحشد دائماً من الرقيق بسائر أنواع؛ وكان نظام المجتمع منذ فجر التاريخ قائماً على التفرقة بين طوائف المجتمع، وكان الرق مشروعاً في هاتيك العصور، وكان الرقيق متاعاً مباحاً تجري عليه سائر التصرفات، وكان الخصي أو الجب وسيلة بربرية لأعداد طوائف من الحش تمتاز بصفات خاصة تؤهلها لخدمة القصور والبيئات الرفيعة؛ وقد استطاعت طوائف الخصيان أن تشق طريقها إلى السلطة والنفوذ في مواطن كثيرة؛ ولكنها كانت تعتبر دائماً من الناحية الاجتماعية من الطبقات الدنيا، وكان ينظر إليها دائماً في كثير من الرثاء والإشفاق لأنها تعاني حالة اجتماعية منافية للأوضاع الإنسانية الطبيعة.
ولكن المجتمعات المتمدنة تنكر اليوم الرق وتعتبره ضرباً من ضروب الهمجية الذاهبة. وتعتبر القوانين المحدثة الخصي أو الجب من أشنع الجرائم التي يمكن أن تقع على إنسان، وتعاقب مرتكب الجريمة الشائنة بأقسى العقوبات، بل تعاقبه بالإعدام كالقاتل العمد سواء بسواء.
ومع ذلك ففي قلب أوربا المتمدينة تقوم إلى اليوم تلك الطائفة السرية العجيبة طائفة (سكوبتسي) وشعارها تلك الجريمة المثيرة جريمة الخصي أو الجب كوسيلة إلى السعادة الروحية والخلاص الأبدي.
وترجع الرواية قيام هذه الطائفة السرية إلى أواخر القرن السابع عشر على يد فلاح يدعى دانيلو فليبوف؛ ولكنها عرفت يومئذ بجماعة (أهل الله)، وتزعم الرواية أن دانيلو هذا ألقى ذات يوم جميع الكتب المقدسة في نهر (الفولجا) وقال إنه لا يوجد كتاب يحقق سلام الروح الأبدي سوى الروح القدس ذاته؛ ثم صعد إلى الجبل مع نفر من أنصاره؛ فنزلت عليه سحابة من النور، ونفذ إليه الروح القدس؛ وزعم أنصاره أن الإله قد مثل في شخصه على مثل ما يزعم الدروز بالنسبة لشخص الحاكم بأمر الله.
وتتلخص تعاليم فليبوف فيما يأتي: أن الإله الذي قد بشرت به الأنبياء نزل إلى الأرض لينقذ أرواح البشر؛ وليس ثمة من إله غيره، ولا تعاليم غير تعاليمه؛ وعلى المؤمنين أن يطيعوه؛ وألا يشربوا الخمر، وألا يرتكبوا الزنا، وألا يتزوجوا؛ وعلى من تزوج ألا يقرب زوجته، وعليهم ألا يسرقوا، وأن يحتفظوا بسر تعاليمه، وأن يحب بعضهم بعضاً، وأن يؤمنوا بالروح القدس. وتبنى فليبوف بعد ذلك فلاحاً آخر يدعى سوسلوف وزعم أنه هو ابنه المسيح، واختار سوسلوف له أثنى عشر رسولاً، وتوفي سنة 1714، ودفن في أحد الأديار.
وبعد وفاة سولسوف تمثلت روح المسيح على حد زعمهم في شخص لوبكين وهو جندي من فرقة الاسترلتزي؛ وعلى يديه انتشر مذهب الطائفة في كثير من الأديار بين الرجال والنساء معاً. ولما استفحل أمره قبض عليه وأعدم سنة 1732 وأخرجت جثته فيما بعد وذر رفاته في الهواء؛ وقبض على كثيرين من أشياعه وحوكموا بتهمة المروق والكفر ونفي كثيرون منهم إلى سيبريا؛ ولكن هذه المطاردة لم تخمد من حماسة أولئك الكفرة المتعصبين فاستمروا يبثون مبادئهم في الخفاء، ويتعاقب في زعامتهم مسيح بعد آخر؛ وكانوا يقيمون شعائرهم سراً في جوف الليل في بعض الضياع أو الأنحاء المهجورة، وفي أواخر القرن الثامن عشر تطورت مبادئ الطائفة وتوسع بعض دعاتها في تفسير تعاليم فليبوف، وقال إن الزواج المحظور هو الزواج الكنسي فقط وأن (الأخ) يستطيع أن يتصل بأخته اتصالاً روحياً؛ ولم يلبث أن ذاع بينهم الاختلاط الجنسي الحر، وكان هذا الاختلاط يتخذ أحياناً صوراً مثيرة، فتعقد جماعتهم بالليل، وتنتهي شعائرهم المزعومة بمناظر مروعة من الفجور والفسق.
وكانت هذه نقطة التحول في مبادئ طائفة (أهل الله): ذلك أن فريقاً من المؤمنين رأى في هذه الحياة الجنسية الشائنة خروجاً على تعاليم فليبوف التي تحتم التزام الفضيلة والعفة، ورأوا في (الجب) خير وسيلة للتخلص من الشهوات والموبقات الآثمة؛ ومن هنا ظهرت طائفة (المجبوبين) (السرية سكوبتسي) واكتشفت السلطات الضحايا الأولى لهذه الدعوة البربرية في سنة 1772في مقاطعة أرومل؛ وظهر من التحقيق الذي أمرت الإمبراطورة كاترين بإجرائه أن الدعاة يزعمون أنهم يرسمون للبشر طريق الخلاص الأبدي، وأنه يجب على المؤمن ألا يذوق الخمر، وألا يعاشر النساء، ويجب على الفتيان والفتيات ألا يتزوجوا، كما يجب على المتزوجين أن يضربوا عن الاتصال الجنسي؛ وظهر أيضاً أن الدعاة استطاعوا أن يؤثروا على كثيرين من الفلاحين، وأن يحملوهم على قبول الخصي أو الجب المطبق تحقيقاً للعفة والسعادة الأبدية. ولم تستطع السلطات يومئذ أن تظفر بزعيم الطائفة الحقيقي؛ ولكن ظهر فيما بعد أنه فلاح يدعى سلفانوف، وهو فتى في الثلاثين من عمره، هادئ المزاج، كثير التأمل والهيام، عارف بالقراءة والكتابة وهو ما كان يندر في ذلك العصر؛ وكان يبشر بدعوته بعبارات صوفية غامضة، وكان من زعماء (أهل الله) ولكنه راعه من رآه من ذيوع الفسق بين المؤمنين، فبدأ دعوته ضد (السحر) النسوي أصل كل بلاء وإثم، وأخذ يدعو إلى (النقاء المطلق)؛ وهذا النقاء لا يتحقق في رأيه إلا بمجانبة كل بواعث الضعف ولا سيما الإغراء الجنسي، والكبرياء، والأنانية، ولا سبيل إلى تحقيق هذا المثل الأعلى إلا (بقتل الجبة) أو بعبارة أخرى إعدام الأعضاء الجنسية والتخلص من آثامها.
(هكذا نشأت طائفة المجبوبين) (سكوبتسي)، واستطاع سلفانوف أن يحشد حوله جماعة من التلاميذ والأشياع معظمهم من الفلاحين البسطاء؛ ولم تكشف السلطات أمره إلا في سنة 1775 إذ قبض عليه وجلد وعذب مراراً، ثم نفي إلى سيبريا؛ وقبض على كثيرين من أشياعه المجبوبين، وجلدوا، وحكم عليهم بمختلف العقوبات.
ولكن الدعوة البربرية لم تخمد مع ذلك، فحملها تلاميذ سلفانوف ورفعوه إلى مرتبة التقديس وأسموه (بالمنقذ) وجاوزت الدعوة طبقة الفلاحين إلى الطبقات الأخرى، فانتظم في سلك الطائفة جند وتجار وغيرهم خضعوا جميعاً لهذا التشويه الهمجي؛ وزعموا أخيراً أن سلفانوف هو الإنسان الوحيد الذي مثلت فيه روح المسيح، وأنه سيعود قريباً. أما سلفانوف فلبث يرسف في منفاه في أركوتسك زهاء عشرين عاماً، ثم استطاع الفرار أخيراً ولم تهتد السلطات إلى أثره.
وفي العام الثاني ظهر في قرية بيخوفو على مقربة من موسكو شخص يرتدي أسمالاً بالية، وقد حزم بطنه بسلاسل من الحديد وبدت عليه آثار السقم والورع، فالتف حوله بعض الفلاحين، وكان يصلي بينهم بلغة مجهولة؛ ولم يمض سوى قليل حتى ظهرت معجزاته إذ استطاع أن يشفي أمراه مريضة، وأن يحول الخمر إلى ماء؛ وفي ذات يوم أخذ يتكلم بالروسية وزعم أنه القيصر (بطرس فيدروفتش) ولم يكن هذا الدعي سوى سلفانوف نفسه، رأى في حوادث البلاط الروسي يومئذ منفذاً جديداً لدعوته؛ والقيصر بطرس فيدروفتش أو بطرس الثالث هو زوج الإمبراطورة كاترين، وقد توفي سنة 1762 في ظروف مؤسية غامضة، واتهمت زوجته بتدبير مصرعه لأنهما كانا على خلاف دائم؛ وكان القيصر مصاباً بالضعف الجنسي، وكانت زوجه تبغضه ويبغضها لفجورها؛ ولكنه كان محبوباً من بعض طوائف الشعب لنزعته الحرة وخلاله الرقيقة، وكان من مآثره التي زادت في حبه أن أفرج عن آلاف عديدة من المنفيين لأسباب دينية؛ فلما توفي على هذا النحو الغامض ذاعت حول وفاته أقاويل وروايات كثيرة، وزعم كثيرون أنه لا يزال على قيد الحياة، وقام أكثر من دعي يدعي بأنه القيصر بطرس، ومن أشهر هؤلاء بوجاتشيف زعيم القوزاق الذي أثار حيناً في مقاطعة الأورال، ثم هزم وأعدم. واتخذت هذه الأسطورة على يد سلفانوف وأشياعه صبغة جديدة، خلاصتها أن المسيح تمثل لآخر مرة في شخص القيصر بطرس الثالث، وان أمه العذراء اليزابيث ولدته بمعجزة ثم تخلت عن العرش لوصيفة لها تشبهها كل الشبه، وذهبت تعيش بين (أهل الله) في مقاطعة أوريل باسم الفلاحة آكولينا إيفانوفا. ولما كبر بطرس وزوج بالإمبراطورة كاترين اكتشفت زوجه أن به عنة فاعتزمت قتله والاستيلاء على العرش من بعده؛ ولكن بطرس علم بأمر هذه المؤامرة، فترك العرش وغادر بطرسبرج (لكي يقاسي مع أهل الله) وقتل مكانه مجبوب يشبه كل الشبه؛ واختفى القيصر حيناً ثم قبض عليه، وعذب كما عذب المسيح، ونفي مدى عشرين عاماً في مكان سحيق، ولكنه استطاع أن يفر، وأن يعود متشحاً بكل مجده وعلاه.
تلك هي الأسطورة التي مزجها سلفانوف بشخصه، وحاول أن يستغلها من الناحيتين السياسية والدينية؛ ولكنه لم يلبث أن وقع في يد السلطات مرة أخرى، فقبض عليه في موسكو سنة 1797، وزج إلى دار المجانين في بطرسبرج؛ وأراد القيصر بول الأول (وهو ابن القيصر بطرس الثالث وكاترين) أن يرى ذلك الدعي الذي يزعم أنه أبوه، فاستدعى سلفانوف إليه وجرت بينهما محادثة تنبأ فيها سلفانوف للقيصر بموت سريع عنيف. ولبث الدعي في سجنه طيلة حكم بول الأول، وقبض أيضاً على تلميذه ورسوله (شيلوف) وسجن حتى موته وغدا قبره مزاراً يحج إليه المجبوبون من سائر الأنحاء.
وفي عهد القيصر اسكندر الأول تنفست طائفة المجبوبين الصعداء، لأن القيصر الجديد كان ذهناً حراً في معنى من المعاني؛ وفي عهده صدرت عدة مراسيم تحريرية، ومنها مرسوم بالكف عن مطاردة المجبوبين (لأنهم بفعلهم الذميم قد عاقبوا أنفسهم بأنفسهم عقاباً كافياً) وعلى ذلك أطلق سراح المعتقلين منهم، وانتدبت لجنة خاصة لبحث جميع المسائل المتعلقة بالطائفة، وأفرج أخيراً عن سلفانوف بتدخل سيد بولوني من ذوي النفوذ يدعى ألكسي اليانسكي، وكان من المتصوفين الهائمين، فأعتنق مبادئ الطائفة وكان أول أعضائها من خاصة المثقفين، وقد لعب فيما بعد دوراً عظيماً في تطورها وتقدمها.
وسنرى فيما يلي كيف عاشت هذه الطائفة السرية العجيبة خلال القرن التاسع عشر عصر العلم والنور، وكيف أنها لا تزال قائمة حتى يومنا في ظل النظام البلشفي، وفي قلب أوربا المتمدينة.
(للبحث بقية)
فينا في أوائل أكتوبر
محمد عبد الله عنان