مجلة الرسالة/العدد 224/أبحاث تاريخية جديدة
→ للأدب والتاريخ: | مجلة الرسالة - العدد 224 أبحاث تاريخية جديدة [[مؤلف:|]] |
نقل الأديب ← |
بتاريخ: 18 - 10 - 1937 |
الإسلام في غرب أفريقية
مدى انتشاره في تلك الأقاليم ومبلغ أثره في الأهلين
للأديب جمال الدين محمد الشيال
تابع ما نشر في العدد الماضي
كيف عم الإسلام غرب أفريقيا
1 - في المدة بين سنتي 640و642 تم لعمرو بن العاص فتح مصر. ومنها استطاع عبد الله بن أبي سرح وعبد الله بن الزبير فيما بعد فتح طرابلس وتونس والجزائر.
2 - وفي سنة 661 كانت واقعة صفين المشهورة وانشق بعدها قوم على علي بن أبي طالب فسموا بالخوارج. وقد هاجرت فئة منهم إلى شمال أفريقية ونزلوا بشواطئ تونس، وقد استمرت بقاياهم حتى قبيل الحرب العظمى في جزيرة جربا وهناك انتشرت آراؤهم. ومن هذه الجزائر انتقلت هذه الآراء إلى شمال أفريقية حتى ساحل مراكش الأطلسي؛ وبعد سنة 720 أصبحت الخارجية مذهب الأهلين من البربر.
3 - وفي سنة 669 استقر حكم العرب في شمال أفريقية، وعين عقبة بن نافع حاكما على أفريقية (تونس الحالية)؛ وفي سنة 673 أنشئت القيروان لتكون حاضرة لحكم المسلمين. وفي سنة 681 تقدم عقبة نحو الغرب بجيشه حتى وصل إلى المحيط الأطلسي.
4 - وبعد سنة 795 تولى حكم أفريقية موسى بن نصير وتقدم في فتوحه حتى استولى على مراكش إلا مدينة سبتة وهناك لم يجد العرب صعوبة في نشر الإسلام دين الفطرة. وتمكن موسى من فتح الأندلس بعد ذلك على يد قائده البربري طارق بن زياد.
5 - وتولى حكم أفريقية بعد هذه الأدراسة ثم الأغالبة وتبعهم أسرات أخر حتى أتى الفاطميون فورثوا الحكم وأغاروا على مصر واستقلوا بها باسطين نفوذهم على أفريقية وصقلية.
6 - وفي المدة التي بين القرن السابع ومنتصف القرن الحادي عشر كان العنصر العربي في شمال أفريقية أقلية يمثلون في آلاف من الجنود والحكام ورجال الدين. ولكنهم استطاعوا بمرور الزمن أن يفرضوا دينهم ولغتهم وحكمهم على ملايين من البربر.
7 - وحوالي سنة 1045 نزل بالشاطئ الأيمن للنيل قبائل بني هلال وبني سليم آتين من أواسط بلاد العرب وابتدءوا يعملون على إثارة الشغب في مصر العليا؛ ولكي يتخلص منهم حكام مصر الضعفاء في ذلك الحين حرضوهم على أن يغزوا شمال غرب أفريقية، فعبر الصحراء منهم ما يقارب من المائتي أو الثلاثمائة محارب حتى وصلوا إلى حدود تونس وطرابلس واستقروا هناك.
8 - وبعد مدة يسيرة رحل إلى مصر قبائل أخرى من شبه جزيرة العرب؛ ووصلوا إلى النيل الأوسط. وعلى النيل الأزرق (في سنار) أنشئوا امبراطورية الفنج العظيمة التي استقرت من القرن الرابع حتى القرن التاسع عشر. ومن النيل الأعلى قاد هؤلاء الأقوام حملات كثيرة متتالية نحو وسط وغرب أفريقية. ومن نسل هؤلاء تكونت قبائل لا زالت تعيش حتى اليوم حول بحيرة شادو في دارفور وواداي وشمال السنغال ونهر النيجر.
9 - وفي القرن الحادي عشر أيضاً نشأت فرقة المرابطين. وعلى أيديهم اعتنق سكان سينيغمبيا ونيجريا الإسلام.
10 - وتلت دولة المرابطين دول كثيرة كدول الموحدين والحفصيين وغيرهم، وكانت كل دولة تبدأ حكمها بنشر مذهبها الديني، وبالتالي كانت تدفع كثيراً من البربر أثناء نشر دعوتها إلى اعتناق الإسلام.
11 - وفي عهد الملك السعدي السادس (المنصور الذهبي) وصلت مراكش إلى أقصى قوتها، وشملت مملكة نيجرية واسعة.
12 - وفي نهاية القرن الخامس عشر قامت في مصر العليا وغرب السودان أسرة مسلمة زنجية. وتولى أحد هؤلاء الزنوج الحكم، واتخذ تمبكتو حاضرة لملكه. ومنذ ذلك الحين أصبحت هذه المدينة مركزاً علمياً وتجارياً لغرب ووسط أفريقية. ولقد أثرى حفيد هذا الملك (إسحاق بن سوكيا) وزادت قوته وبدأ النزاع بينه وبين الإمبراطور الموري أبي العباس المنصور. وتمكن الجيش الموري بقيادة جودر باشا من هزيمة إسحاق والاستيلاء على تمبكتو. وأتى بعد جودر قائد آخر أكثر شجاعة وإقداماً منه وهو (محمود باشا) فأتم الفتح الموري للسودان حتى وصل إلى بورنو وسنيغميبيا. ولم تتضاءل قوة الموريين إلا في القرن الثامن عشر بعد قيام الغولا وهجوم الطوارق.
ويقول جونستون: (ولربما كانت مراكش تستطيع أن تغزو شمال أفريقية وتحكمه في القرن السادس عشر - لولا أن وصلها الترك. . .) - ونحن لا نستطيع أن نقر جونستون على هذا القول. . . إلا إذا كانت الحكومة القائمة في مراكش حينذاك قوية تستطيع أن ترد اعتداء الغرب عنها. . . ولكن الحقيقة أن الحكومة في كل بلاد الغرب في ذلك الوقت كانت ضعيفة أمام نشاط ممالك غرب أوربا وخاصة أسبانيا - فإنها بعد أن قضت على دولة الإسلام فيها سعت وراءه تطارده في شمال أفريقية وغربها. . . وجونستون نفسه يقول: (ولما استنجد أهل الجزائر وتونس بقراصنة الترك ضد اعتداءات مسيحي أسبانيا في القرن السادس عشر - انتهز سلطان الترك وأنشأ مناطق تركية في الجزائر سنة 1517 وفي تونس سنة 1573 وفي طرابلس سنة 1551. . .)
في هذا القول نرى أن ثورة الغضب المسيحي في أسبانيا على المسلمين لم تكن قد هدأت؛ بل إننا لنحسها بين ثنايا كلمات جونستون قوية ملتهبة دفعت أهل المغرب للاستنجاد بالترك ورضوا نجدة القراصنة منهم. وحقيقة أن الترك الذين نزلوا بشمال أفريقية كانوا قراصنة لم يتعدوا الشاطئ إلى الداخل، ولم يمضوا إليهم أراضي وملكاً جديداً بل اكتفوا بمهنتهم القرصنة وسلب سفن المسيحيين. ولو أنهم حاولوا ملكاً في الجنوب لاستطاعوه، ولغدت أفريقية الشمالية كلها مسلمة إسلاماً حقاً متصلاً بالعالم الخارجي الآن؛ ولكنهم على كل حال حموا شمال أفريقية من الغرب الساحق الماحق هذه المدة الطويلة. وها نحن أولاء نسمع كل يوم اضطهاد الطليان والفرنسيين والأسبان للمسلمين في طرابلس وتونس والجزائر، ومع هذا فإن الإسلام في ذلك الحين لم تقف موجة انتشاره، بل كان مجرد الجوار أو الاتصال بين المسلمين والوثنيين في جميع قبائل السودان حتى حدود الكمرون - كان مجرد الاتصال كافياً لنشر الإسلام في تلك الجهات كما سنرى بعد.
لم تخضع مراكش كجاراتها للحكم التركي ولكنها تأثرت بنواح تركية مختلفة، فقد أخذت عن الترك نظام الملبس ونظام تعبئة الجيوش ولقب الباشا وغير ذلك من الأمور، ولكن مراكش بقيت مستقلة، بل لقد أعلن حاكمها المنصور نفسه خليفة سنة 1538بعد انتصاره على البرتغال وبعد أن رأى الخلافة العباسية تنقرض من مصر، وتنتقل إلى تركية.
غير أننا سنرى أن نوع الحكم لم يكن له من التأثير قدر ما كان للثقافة الإسلامية العربية، فمهما أنتقل الحكم إلى أيدي الترك أو الإغريق او السلاف أو الزنوج المستعربين فإن الأثر الإسلامي والثقافة الإسلامية امتدت حتى شملت كل شمال أفريقية والسومال وسناو، ونوبيا وكردفان ودارفور وواداي وبورنو وأراضي الحوصا والصحراء ومعظم سينغمبيا وآفاقاً متسعة داخل حدود النيجر وعلى طول شواطئ الفلتا الأعلى كما أعتنق أهالي كل تلك الجهات الدين الجديد: دين الإسلام.
جهات نجهلها
ولقد كنت أحس عند قراءتي عن هذه المناطق لذة غريبة فلقد كنت أكشف لنفسي الأستار عن آفاق واسعة شاسعة من العالم الإسلامي يجهلها معظم المصريين وتجهلها برامج تعليم التاريخ في مدارسنا المصرية، ولكننا بعد هذا التمهيد نستطيع أن نصور الحالة التي كان عليها كل شمال أفريقية في هذه الكلمات:
كانت موجة التأثير الإسلامي تتسع طوال العصور الوسطى فتشمل كل يوم آفاقا جديدة من شمال أفريقية، وامتدت الموجة فشملت بعض الصور الحديثة؛ ولكن أوسع حلقة من حلقات هذه الموجة وآخرها تلاشت بانتهاء القرن التاسع عشر، وبتلاشيها تركت البربر المستعربين يحكمون شمال وشمال غرب أفريقية، والترك المسلمين يحكمون شمال شرق أفريقية، والزنوج المستعربين يحكمون النيجر والسودان الأوسط، وبعض العرب يحكمون النيل الأعلى وساحل نوبيا وعرب عمان واليمن وحضرموت يحكمون ساحل أفريقية الشرقي. وامتد نفوذهم إلى الداخل حتى وصل إلى إقليم البحيرات والكنغو الأعلى.
ولنتحدث الآن عن أثر الإسلام في بعض هذه الولايات كمثل للولايات الأخرى، وليكن حديثنا عن نيجريا والسودان الأوسط.
حضارة جديدة
كان لدخول الإسلام في أفريقية تأثير هام على سكانها وخاصة في السودان الغربي. ولم يقتصر تأثير الإسلام على التغيير الواضح الذي أحدثه في الأهلين من الناحية البشرية، بل لقد حمل معه إلى هؤلاء الأقوام حضارة جديدة منحت الأجناس الزنجية أخلاقاً وثقافة لا زالت تميزهم في حياتهم السياسية ونظمهم الاجتماعية. ولقد رأينا كيف أن كثيراً من الهجرات القبلية العديدة خلال ألف سنة الأخيرة حدثت تحت ضغط الإسلام ضغطاً مباشراً أو غير مباشر؛ بل إننا لنرى أن ثورة الفولاني السياسية في القرن التاسع عشر ودخول الكانمبو إلى بورنو كان تحت تأثير الإسلام. ولقد كان للإسلام كذلك تأثير عميق في لغات نيجريا الرئيسية، فمعظمها تحوي كثيراً من الألفاظ العربية التي لا تزال تستعمل حتى اليوم.
والإسلام الآن دين السواد الأعظم من سكان أرض وبورنو بل لقد نفذ الإسلام إلى كثير من القبائل الوثنية التي لم يصلها التبشير المسيحي بعد، وكما أن الإسلام دخل في هذه الجهات من الشمال فإن الشمال أشدها وأكملها إسلاماً - وإن كان الإسلام في نوبيلاند ويوروبالاند له نصيب كبير من القوة والانتشار ومع هذا فهناك مساحات شاسعة لم يدخلها الإسلام بعد.
ونحن لا نعرف إلا قليلاًٍ عن حالة المسلمين خلال القرون السابقة لجهاد الفولاني. ولو أننا وثقنا بأقوال ليو الأفريقي فإن أهالي كاتسينا وكانو كانوا برابرة نصف عراة في منتصف القرن السادس عشر. وعلى الجملة فالحوصا قد يكونون أيسر قيادة وأسرع تأثراً بالدعوات الدينية من غيرهم. وفي سنة 1804وضع الشيهو عثمان (قد تكون شاه أو شيخ ثم حرفت) لبلاط جوبير نظاماً هو خير قليلاً من النظام الوثني، وقد بقي الأهلون يصلون للموتى ويمجدون الأولياء الراحلين ويسمحون لنسائهم بالخروج سافرات. ولقد لاحظ (أولدفيلد في رابا أن ابنة عثمان زايكي حاكم نوبيلاند الفولاني تحمل في يدها زجاجات برتغالية مملوءة بالمشروبات الروحية، فشرب الخمر وعقيدة الخلود لازالا سائدين.
ولا زالت بعض الطقوس الوثنية تقام عند تولية الأمير العرش؛ ورؤساء (اكوين المسلمون في هارداوا عند انتخابهم يقدمون فروض الطاعة للشجرة المقدسة.
والقرآن لديهم هو الكتاب المقدس؛ بل إنهم ليستشفون بشرب الحبر الذي كتبت به آيات القرآن. وهم ما زالوا يعتقدون في السحر والتعاويذ، ولكنهم يتقون شر السحر بالآيات القرآنية والاحجبة يحيطون بها رقابهم وأذ رعتهم وأوساطهم والمسلمون في تلك الأقاليم عند بناء منازلهم يدخنون الطلاسم لتقيهم شر الأرواح الخبيثة.
من هذا كله نرى أن الإسلام من الناحية الروحية لم يستطع تماماً استئصال شأفة الوثنية أو إزالة خرافاتها لانقطاع الصلة وبعد الشقة بينه في تلك الجهات وبين ديار الإسلام القوي الحق. ولكن الإسلام من الناحيتين السياسية والاقتصادية بادئ الأثر في هؤلاء الأقوام. لقد حمل الحضارة إلى هذه القبائل المتبربرة، ودعا جماعات الوثنين المبعثرة إلى وحدات مرتبطة، وسهل التجارة بين هذه المناطق وبين العالم الخارجي، وبذلك استيقظت الغرائز التجارية الكامنة في نفوس الحوصا والنوبي والياروبا والبري بري وحملهم على الظهور بمظهر لائق، ورفع مستوى معيشتهم بأن خلق لهم جواً اجتماعياً راقياً؛ وبث في نفوس المسلمين الشعور بالعزة واحترام النفس والغير. فتفوق المسلمين في تلك الجهات على غيرهم من الناحيتين الثقافية والسياسية يرجع إلى تعاليم دينهم؛ فنحن لا ننسى أن الإسلام حمل إليهم فن القراءة والكتابة. . .
والآن أصبح زنجي السودان بعد أن حرم عليه الإسلام شرب الخمر وأكل لحوم البشر وسفك الدماء رفيقاً لسكان العالم المتحضر.
(البقية في العدد القادم)
جمال الدين محمد الشيال.