الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 223/فلسطين والسياسة الإنجليزية الجديدة

مجلة الرسالة/العدد 223/فلسطين والسياسة الإنجليزية الجديدة

مجلة الرسالة - العدد 223
فلسطين والسياسة الإنجليزية الجديدة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 11 - 10 - 1937


للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

آثرت الحكومة البريطانية أن تغلط في فلسطين غلطتها في مصر، فاعتقلت رجال اللجنة العربية العليا، وحملتهم في بارجة حربية تمضي بهم الآن إلى سيشيل. وهذا عين ما صنعته في مصر لما ضاقت بالحركة الوطنية فيها ذرعاً، وتوهمت أنها إذا قبضت على رجال الوفد سهل عليها بعد ذلك أن تكفل الراحة لنفسها، والاطمئنان على تحقيق غاياتها في مصر. فذهب الزعماء إلى سيشيل وبقوا فيها ما شاءت السياسة البريطانية، فلم تخمد الحركة الوطنية، ولم يعدل المصريون عن مطالبتهم بالاستقلال، ولم يكفوا عن السعي لاسترداد حريتهم القومية، ولم ترجح كفة المعتدلين بعد أن أقصى الذين كانت تسميهم المتطرفين، وانتهى الأمر بالإفراج عن المعتقلين وإطلاق سراحهم وعودتهم إلى وطنهم، ثم لم تجد السياسة البريطانية بداً من الرجوع إلى هؤلاء المتطرفين وغيرهم من زعماء البلاد للاتفاق معهم على حل تستقر به العلاقات بين البلدين على حدود معقولة معروفة

والذي فعلته السياسة البريطانية في مصر وأخفقت فيه، ولم تجد منه جدوى، تفعله الآن في فلسطين، وما نظن بها إلا أنها ستخفق هناك أيضا. فإن رجال اللجنة العربية العليا ليسوا رجال تهييج، ولا هم الذين يحرضون على أعمال الإرهاب أو الاغتيال التي أثارت ثائرة البريطانيين، وأغرتهم بهذا العنف الذي تأخذ به زعماء العرب الآن، وإنما هم رجال سياسة يطالبون بحق بلادهم ويدافعون عنه، ويسعون للفوز به بالطرق المشروعة. ومن غرائب التفكير المقلوب أن الصحف البريطانية تقول في تعليقها على هذا الاعتقال والنفي إن القبض على المتطرفين خليق أن يفسح المجال لغيرهم من المعتدلين، ويشجعهم على الظهور والمعالنة بآرائهم التي كانوا يخافون الجهر بها. وتنسى هذه الصحف أن الأمر ليس أمر اعتدال وتطرف، وإنما هو أمر حق للبلاد يطلبه الجميع بلا فرق، ويجمعون عليه بلا تفاوت أو شذوذ أو اختلاف. ومن البعيد جداً أن يجرؤ أحد على التقدم باسم الاعتدال والمعتدلين بعد أن نكلت الحكومة البريطانية برجال اللجنة العربية العليا. وأخلق بكل عربي من أهل فلسطين أن يستنكر هذا العنف الذي لا مسوغ له، وذاك الظلم الذي ينزل برجال اللجنة العربية. والمعقول أن يمتنع العرب - متطرفوهم والمعتدلون منهم إذا صح أنهم فريقان - عن التقدم إلى الإنجليز لمفاوضة أو مباحثة قبل أن يرفع الظلم عن إخوانهم. وإذا صح أن في فلسطين اعتدالا وتطرفاً وأن المعتدلين كانوا يخشون الظهور بآرائهم الحقيقية أمام المتطرفين - وهو ما لا نعتقد أنه صحيح - فالبداهة تقول إن هؤلاء حقيقيون أن يخشوا الظهور الآن بعد الذي كان من الاعتقال والنفي حتى لا يتهموا بالتواطؤ مع البريطانيين على إقصاء رجال اللجنة العربية عن الميدان

فالذي فعلته الحكومة البريطانية لا خير فيه ولا جدوى منه؛ وكل ما هو خليق أن يثمره هو أن يوقع في روع العرب أن بريطانيا ممالئة للصهيونية، ومناوئة للعب؛ وأنها تلجأ الآن إلى وسائل الضغط والعنف والتخويف والإرهاب بعد أن أعيتها الأساليب السياسية. وإلا فلماذا تختص بريطانيا العرب بهذا العنف وتخاشنهم على حين تسالم الصهيونيين وتحاسنهم؟ وإذا كانت حوادث الاغتيال التي وقعت هي التي استوجبت اللجوء إلى هذه الأساليب العنيفة، فقد كان يحسن بالحكومة البريطانية أن تذكر أن الذين اغتيلوا كان أكثرهم من العرب، وأن ممن وقع الاعتداء عليهم بعض زعماء العرب أنفسهم، وأن هناك اغتيالات وقعت من الصهيونيين أيضا، وهذا ما لاشك فيه. فلماذا تأخذ العرب وحدهم بذلك وتدع الصهيونيين؟ على أن زعماء العرب لم يكفوا قط عن دعوة الشعب إلى التزام السكينة والهدوء وضبط النفس والمحافظة على اتزان الأعصاب حتى في أعصب الأوقات، لأنه ليس مما يساعد على تحقيق غاية العرب ويكفل للزعماء الفوز بالحصول على ما ينشدون من الحرية ومن المحافظة على حقوق البلاد أن يقع اضطراب يمكن أن يستغله خصوم القضية العربية وأنصار الوطن القومي والصهيونية. فحوادث الاغتيال التي وقعت هي في الحقيقة معاكسة لمساعي العرب وإساءة إليهم؛ ولو وسع زعماء العرب أن يقطعوا دابرها ولما ترددوا، ولكنهم ليسوا الحكومة، وليس أمر الأمن والنظام إليهم، ولا في أيديهم زمامه؛ فمن أشد الظلم وأصرخه أن يؤخذوا بما يشكون هم منه، ويرون فيه إحباطاً لسعيهم ومناوأة لهم

ومن الواضح أن هذا مظهر اضطراب شديد في السياسة البريطانية، فقد كان المفهوم من موقف ممثليها في عصبة الأمم أنها لم تعد ترى في مشروع التقسيم حلاً مقبولاً لمسألة فلسطين، وأنها ستعيد النظر في الأمر؛ بل لقد صرحت أنها تنوي أن تبعث إلى فلسطين بلجنة أخرى تتناول الموضوع بالدرس والبحث من جديد، وتفاوض رجال العرب وزعماءهم وممثلي الصهيونية لعلها تهتدي إلى حل آخر يكون أكفل بإرضاء الفريقين. وكان المفهوم أيضاً أنها بهذا تفسح لنفسها في الوقت وترجئ الحل إلى أن يتيسر؛ ولا يتفق هذا وسلوكها العنيف، فإن الذي يريد المفاوضة والتفاهم لا يلجأ إلى الشدة والضرب على الأيدي والتحبيس. ومن عساها تفاوض أو مع من ترجو أن تتفاهم إذا كانت تشرد الزعماء في نواحي الأرض وتقصيهم؟ أتفاوض العامة أو من يا ترى؟ وما هي الجدوى على كل حال من هذه السياسة العنيفة؟ سؤال نلقيه ونحن نتعجب، فإن اعتقال رجال اللجنة العربية لا ينفع أحداً من الإنجليز أو الصهيونيين، لأن هؤلاء الرجال إنما يمثلون رأي الأمة ويتكلمون باسمها، والإنجليز يشاءون أن يشكوا في ذلك، وأن يزعموا أن هناك معتدلين مستعدين للظهور والتقدم متى خلا المجال من هؤلاء المتطرفين الإرهابيين. وسيرى الإنجليز أنهم في هذا مخطئون كخطئهم في اعتقال زعماء المصريين مرتين ونفيهم أولا إلى مالطة ثم جزيرة سيشيل. وسيتبين الإنجليز أنهم أوغروا صدور العرب بلا موجب ومن غير عوض، وحملوا العرب في كل مكان على إساءة الظن بالسياسة البريطانية بعد أن كان العرب يعتقدون أن بريطانيا حليفة طبيعية لهم، وأنها أولى بصداقتهم ومحالفتهم. ولا ندري ماذا تكسب بريطانيا من اسخاط العرب وإيغار صدورهم؛ ولكنا ندري أن يأسهم من صداقتها ومن إمكان التفاهم بالعدل والإنصاف قد يدفعهم إلى ما تكره بريطانيا ويحملهم على النظر في أمرهم من ناحية جديدة، وعلى طلب حقهم بوسائل جديدة. فإذا كان في هذا مكسب للسياسة البريطانية فإنه ينقصنا أن نعرفه. ولن يكون العرب إلا معذورين إذا التمسوا حقهم من طريق آخر غير طريق الاعتماد على روح العدل والإنصاف عند بريطانيا

إبراهيم عبد القادر المازني