الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 223/إلى لبنان

مجلة الرسالة/العدد 223/إلى لبنان

بتاريخ: 11 - 10 - 1937


صور وخواطر

للأستاذ علي الطنطاوي

لقيني الأستاذ عز الدين التنوخي، وكنت قادماً من سفر فقال لي: هلمّ!

قلت: إلى أين؟

قال: إلى الجبل نزور أمير البيان، ورجل الإسلام شكيب أرسلان

قلت: ما أعدل والله بزيارته شيئاً؛ ولكني آت من سفر ولم أبلغ داري

قال: اطمئن فان الدار في محلها لم تطر، وما عليك أن تراها غداً؟

قلت: ما علي من شيء، وسرت معه. ولم أعد أرى السفر شيئاً، لأني أصبحت في هذه السنين الأواخر كذلك الذي كان (موكلاً بفضاء الله يذرعه) فلا أكاد ألقي عصا التسيار وأحط الرحال من سفر، حتى أتهيأ لآخر. أطوّف ما أطوّف، ثم آوي إلى هذه الغرفة الصغيرة أجلس بين ركام الكتب أحسب ما كسبت من هذا العناء الطويل، فلا أجدني كسبت إلا صوراً في الذاكرة أضمها إلى صور، وذكرى في النفس أجمعها بذكري، وصفحة في دفتري أضيفها إلى صفحة أسعد بتدوينها، وأسرّ ببقائها، وإن كنت لا أدوّن إلا الأقل مما أراه وأشعر به، ولا أذكر إلا التافه مما يمر بي. وإن كنت أعلم أن صور الذاكرة إلى امحاء، وذكريات النفس إلى ضياع، وقصص الدفتر إلى السكين والنار لا يزهدني ذلك بها، ولا يصرفني عنها، لعلمي أن الحياة نفسها ستموت، والوجود سيعدم، ولا يبقى في الوجود إلا الموجد

وكنا خمسة في السيارة: الأستاذ التنوخي، وأنا، والأستاذ الشيخ بهجة البيطار، والأستاذ الشيخ بهجة الأثري، والشيخ ياسين الرداف معتمد المملكة السعودية في دمشق سابقاً. . .

خرجنا من دمشق مع الغروب. . . وكان اليوم جمعة، وكانت ليلة قمراء، فسالت الطرق بالدمشقيين على عادتهم في مثل هذه الليالي فامتلأت جوانب بردى، والمرجة الخضراء، والربوة، ووادي الشاذروان أجمل أودية الدنيا وأحلاها - بخير الفتيان، وأجمل الفتيات، وأحلى الأطفال؛ فلم يكن أمتع للعين، ولا أشهى للقلب، من ذلك المشهد. فسرنا في هذا العالم الساحر، مترفقين متمهلين، لأننا لا نمشي في طريق وإنما نمشي في بحر من العيو والقلوب والمفاتن جمع كل جميل بارع أخاذ، حتى بلغنا دمّر:

والحور في دمّر أو حول هامتها ... حور تكشف عن ساق وولدان

فوقفنا نمتع الأنظار بحوْرِها وحورها، وشموسها وبدورها؛ وأنت مهما عرفت دمشق لا تزال ترى فيها أبداً جمالا تجهله ولا تعرفه، ففي كل يوم جمال جديد، وفي كل مكان فتنة جديدة، فلا تدري أين تقف، وماذا تنظر، وأيا تفضل؟ أوادي الشاذروان أم جنائن الغوطة، أم جبال بلودان، أم العين الخضراء، أم سهول الزبداني، أم العيون التي لا يحصيها عدد؟. . .

سقى الله ما تحوي دمشق وحياها ... فما أطيب اللذات فيها وأهناها

نزلنا بها واستوقفتنا محاسن ... يحنّ إليها كل قلب ويهواها

لبسنا بها عيشاً رقيقاً رداؤه ... ونلنا بها من صفوة اللهو أعلاها

سلام على تلك المعاهد إنها ... محط صبابات النفوس ومثواها

رعى الله أياماً تقضت بقربها ... فما كان أحلاها لديها وأمراها

خلينا الهامة وجمرايا بلدة ابن واسانة والوادي كله عن أيماننا، وأسندنا إلى الجبل نستقبل الصحراء إلى ميسلون بلاط شهدائنا، ومشهد أبطالنا، ومبدأ تاريخنا الحديث، ومثوى الأسد الرابض يوسف العظمة، الذي وقف هو وأشبال دمشق العزل الأقلاء في وجه ثاني دولة قوية ظافرة، فما ضعفوا ولا استكانوا ولا جبنوا؛ وما زالوا يقاتلون ويدافعون عن العرين ثابتين ما ثبتت الروح في أجسامهم، حتى أعجزهم أن يعيشوا أشرافاً فماتوا أشرافا؛ فكان موتهم حياة لهذه الأمة التي حفظت العهد وحملت الأمانة؛ وكانت قبورهم مناراً أحمر في طريق هذا الشعب المجاهد المستميت لن يقف أو يتباطأ حتى يأخذ (الكل) الذي (أعطى) الآن (بعضاً) منه، ولن ينام حتى يرى هذه الصحراء قد آضت جنات ألفافا، تحمل الزهر الذي لا يسقى إلا بالماء الأحمر الملتهب تحمل أزهار الحرية

سيبقى هذا اللحد لتمر عليه الأجيال الآتية، الأجيال الحرة العزيزة، فتذكر جهاد أسلافنا، وتعرف الثمن الذي دفعوه، ولتعلم أن القوة إن غلبت الحق حيناً، فان الحق يصنع القوة التي يغلب بها دائماً

سأذكر ما حييت جدار قبر ... بظاهر جلق ركب الرمالا مقيم ما أقامت ميسلون ... يذكر مصرع الأسد الشبالا

تغيب عظمة العظمات فيه ... وأول سيد لقى النبالا

مشى ومشت فيالق من فرنسا ... تجر مطارف الظفر اختيالا

أقام نهاره يلقى ويلقى ... فلما زال قرص الشمس زالا

فكفن بالصوارم والعوالي ... ووسد حيث حال وحيث صالا

إذا مرت به الأجيال تترى ... سمعت لها أزيزاً وابتهالا

ثم أخذت السيارة تصعد بنا في مسالك ملتوية مستديرة تزيغ الأبصار من استدارتها وعلوها، حتى إذا ظننا أننا بلغنا قنة الجبل تكشفت لنا قنن فإذا نحن لا نزال في الحضيض، وما فتئنا نعلو ونتسلق وندور حتى حاذينا (بلودان) درة المصايف الشامية، وبدا لنا فندقها الفخم الضخم أكبر فندق في سورية كلها (إي ولبنان) الذي بنته الحكومة ليملأ الخزانة مالاً والجيوب ذهباً فملأ النفوس فساداً، والأخلاق انحطاطاً، لما أنشئوا فيه من بلايا وطامات زعموها حضارة ورقيا، ورأيناها الموت الأحمر والبلاء الأزرق فكنا حين نبيع الأخلاق بالمال كمن يطرد ابنه من بيته ويربي فيه ذئبا. . .

ثم عدنا نهبط، وهذه سنة الحياة: (ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع) ولا علا رجل إلا هبط، إلا رجلاً علا بعلمه وبأخلاقه ومواهبه، فذاك الذي لا يهبط أبداً بل يزداد رفعة، لأن علمه لن ينسى، وأخلاقه لن تذهب، ومواهبه لن تضيع، أما من علا على قوائم الكراسي وأعناق الشعب، فأحْرِ به أن يسقط مهما استمر علوّه وطال بقاؤه

أقول: إننا ما زلنا نهبط حتى انتهينا إلى سهل البقاع الخصب الأفيح الجميل، الذي يفصل لبناننا (الشرقي) الأجرد المهيب الرهيب الذي أدرّع المهابة، واتشح بوشاح الخلود، ولاحت عليه سمات الجلال، والجد والوقار، ولبنانهم (الغربي) المرح الفرح الخضر الجميل، الذي اتزر بالسحر، وارتدى رداء الشعر، وكلاهما أخّاذ فاتن، ولكن الأول جليل والثاني جميل، والجنات الخالدات والفراديس الباقيات، في دمشق على سفح لبنان الشرقي. . . قال شوقي:

نبئت لبنان جنات الخلود وما ... نبئت أن طريق الخلد لبنان

وأنت حين يحتويك لبنان الغربي تحسّ بجماله وروعته ولكنك تشعر انك أنت له، وأنك جزء منه، ولكنك تحس حين تكون في لبناننا أنه هو لك، وأنه جزء منك، وشتان بين ما تكون أنت في قلبه، وما يكون هو في قلبك، وأنت حين تكون في لبنان الغربي تجد يد الإنسان لم تبق من جمال الطبيعة إلا قليلاً، وتجد أكثره في المدن الكبرى، ولكنك حين تكون في لبنان الشرقي تجد الطبيعة الحلوة الفاتنة التي لم تبدلها يد الإنسان، وإنما أحاطتها بإطار يحفظها ويظهر جمالها

وقد زعموا الجبلين جبلاً واحداً، صدعته حوادث أرضية (جيولوجية) من زمن قديم، لا أدري متى كان لأني لم أدركه ولا أدركه أبي، أعني آدم عليه السلام الذي توفى في الأمس القريب. وعلى ذكر آدم. . . أليس من العار علينا أن نقيم حفلات الذكرى والتكريم لفلان وفلان ممن خدموا البشرية وننسى هذا الرجل العظيم الذي كان له اكبر الأثر في خدمة البشر؛ ولم لا يفكر الناس في إقامة حفلة تذكارية كبيرة لهذا الرجل، يشترك فيها عارفوا فضله، ومن (بقي) حقيقة من نسله؟

قلت: إن الجبلين كانا جبلاً واحداً، والأمتين فيها أمة واحدة، ولكنك واجد في هذه المسافة التي لا تتجاوز الساعتين جمهوريتين مختلفتين، وعَلَمين متباينين، وحدوداً كحدود ألمانيا وفرنسا. . .

ألقاب مملكة. . . . . .

وسبحان خالق الهر، وخالق الأسد، وخالق كل شيء!

وأنخنا رواحلنا (أعني وقفنا سيارتنا، ولم يكن معنا رواحل ولا راحل) في شتورة، عروس السهل، نستريح فيها قليلاً قبل أن نتسلق بالسيارة الجبل الذي لا تبلغ الطير ذراه، ونصبح في نصف طريق السماء. وإذا أنت شئت أن تتصوّر مبلغ ما نعلو، فتصوّر شارعاً طوله قرابة كيلين اثنين، قد وقف على رأسه، وكنت أنت فوقه تطلّ على الدنيا من عل. . .

علونا في جبال شجراء ضاحكة، نجتاز القرى المتناثرة على السفوح والذرى ونرى الينابيع تتدفق من أعالي الصخور، وتسيل في بطون الأودية حالمة سكرى. وما زلنا في علو ولفّ ودوران، حتى بلغنا ظهر البيدر حيث صرنا فوق السحاب، لا على المجاز أو المبالغة كما يقول الشعراء، بل على الحقيقة التي يشاهدها الناس فقد كان السحاب يمسّ الذرى التي تحتنا ويلفح وجوهنا ويحجب عنا السهل والسفوح، وكنا نعلو عليه أحياناً فلا يبلغنا ولا يمسنا، ونراه يمر من تحتنا، أشبه شيء بالغبار الأبيض تحمله الريح. حتى درنا تلك الدورة الكبير، وأشرفنا على وادي (صوفر - حمانا) العظيم أوسع أودية لبنان وأجملها وقد أزدهى بالصنوبر وانتثرت على سفوحه عشرات القرى ولاحت مبانيها العظيمة وقصورها الشمّ

والروابي توسدت راحة السح ... ب ونامت على وشاح مرفق

والذرى البيض في العلاء نسور ... حومت تكشف الخفي المغلق

نشرت في الفضاء أجنحها الزه ... ر فأسنى بها الوجود وأشرق

والقرى غلغلت بأخبية الغي ... ب وضاعت بين الغمام المنمق

والينابيع ضاحكات من الزه ... وترامى فيها السنا وتألق

وتراءى البحر البعيد كحلم=مبهم راجف الخيال ملفق

سرقته السماء في الأفق النا ... ئي فمن أبصر الخضمات تسرق

تمر على الإنسان ساعات بل لحظات ينسى فيها العالم المادي، وهذه الحياة القصيرة الناقصة، ويحس كأنه يعيش بنفسه حياة أكمل وأجمل، تخالط نفسه مشاعر لا عهد له بها، ولا يقدر على وصفها، وتغمر قلبه لذة لا يعرف أي شيء هي، فيشعر أنه انتقل إلى عالم سحري جني عجيب، كهذه اللحظات التي تمر علينا في غمرة التأمل النفسي، أو في هزة الموسيقى، أو في نشوة الحب، أو حين الاستغراق في العبادة والمناجاة. . .

هذه هي اللحظات التي تمرّ عليك حين تشرف وادي (صوفر - حمانا) أو تجلس في الشاغور، أو تصعد إلى عين الصحة في فالوغا. . .

لست أريد الدعاية للبنان، وما لبنان في حاجة إلى دعاية، وما في لبنان سرير في فندق، أو غرفة في دار إلا وقد امتلأت حتى أننا لم نجد في صوفر وقد وصلناها ليلا مكاناً نبيت فيه، وكلما دخلنا فندقاً خرجنا منه بخفي صاحبنا حنين الاسكاف. . . حتى قادنا المطاف إلى فندق لطيف معتزل، قاعد في منتصف الطريق بين صوفر وبحمدون، ولم يكن بعده فندق نأوي إليه. فتعلقنا بصاحبه، وتوسلنا إليه وأطمعناه حتى رضى أن يعد لنا مكاناً في الردهة (الصالون) فقبلنا، ووضعت لنا سرُرُ صغار كسرر الجند وطلبة المدارس الداخلية جاء بها من بيته، فحمدنا الله عليها

ولما دخلنا الأوتيل: عمامتان عاليتان على رأسي البهجتين: بهجة العراق وبهجة الشام، وعقال نجدي فخم على هامة أمير من أمراء نجد، ونحن الاثنان (المطربشان) الأستاذ عز الدين وأنا، تعلقت بنا النظار ودارت حولنا الأبصار، وحفّ بنا شباب يسلمون علينا. فقلنا: وعليكم السلام يا إخواننا. . . فما راعنا إلا أنهم ضحكوا وضحك الحاضرون. . .

فقلت لأحدهم: من فضلك قل لي، لماذا تضحك؟

هل تجد في هيئتي ما يضحك يا سيدي؟

فازداد الخبيث ضحكا، فهممت به. فوثب الحاضرون وقالوا: يا للعجب! أتضرب فتاة؟

قلت: وا فضيحتاه! فتيات بسراويل (بنطالونات) وحلل (بذلات)؟ وأين الشعر وأين اللحم؟

قالوا: أنت في لبنان

قلت: عفواً، لقد حسبت أني في لبنان

وفررنا ونحن مستحيون. نحاول ألا نعيدها كرّة أخرى ولما خرجت في الليل لمحت في طريقي واحدة من هؤلاء النسوة فحيتني، فقلت لها: مساء الخير يا مدموازيل

فقالت: مادموازيل إيه يا وقح؟

قلت في نفسي إنها متزوجة وقد ساءها أن دعوتها بالمدموزايل (الآنسة) وأسرعت فتداركت الخطأ وقلت: بردون مدام

قالت: مدام في عينك قليل الأدب، بأي حق تمزح معي أنا (فلان) المحامي

قلت: بردون، بردون

ووليت هارباً، فذهبت إلى صاحب الأوتيل فرجوته أن يعمل لنا طريقة للتفريق بين الرجل والمرأة، فدهش مني ووجم لحظة؛ ثم قدر أني امزح فانطلق ضاحكا

قلت: إني لا أمزح، ولكني أقول الجدّ وقصصت عليه القصة. . .

قال: وماذا نعمل؟

قلت: لوحات صغيرة مثلا من النحاس، كالتي توضع على السيارات لبيان رقمها، أو على الدراجات. . . يكتب عليها رجل. امرأة. تعلق في الصدر تحت الثدي الأيسر أو تتخذ حلية من الذهب أو الفضة عليها صورة ديك مثلا أو دجاجة، أو. . . أو شاة أو خروف، أو شيء آخر من علامات التذكير والتأنيث. . .

فراقه اقتراحي وقبله على أنه نكتة، ولكنه لم يفكر بالعمل به لأنه لم يجد حاجة إلى هذا التفريق ما دام المذهب الجديد يقول بمساواة الجنسين؟ ولم نطل الإقامة في صوفر، لأننا لم نجد الأمير شكيب فعدنا أدراجنا إلى دمشق

(دمشق)

علي الطنطاوي