الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 221/من وحي الشجرة الضالة

مجلة الرسالة/العدد 221/من وحي الشجرة الضالة

مجلة الرسالة - العدد 221
من وحي الشجرة الضالة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 27 - 09 - 1937


على طريقة الشعر المنثور

للأستاذ خليل هنداوي

- 1 -

أتدرين لماذا أحبك أيتها الشجرة القديمة

التي اشتركت جذورها مع جذور الزمان. . .

لا احبك لأنك قوية عالية المناكب غليظة الجذع، ولا أحبك لكهولتك التي لا تزال تتدفق بالحياة كالشباب، ولا أحبك لأنك رمز القدم. . .

احبك لأمر واحد وأحب معه كل قديم من أجله. . .

لأن في القديم شيئاً من حيواتي الغابرة التي لا أعيها

وربما كان لي عين إلى أعماقك!

وربما كان لي ثغر في عروقك. . .

وربما رأيت الحياة بك مرات كثيرة. . .

إنك أقدر على تفسير اللاشعور في نفسي من نفسي. . .

- 2 -

ما أضل أولئك الذين يظنون انهم استطاعوا أن يقولوا:

(قد وجدنا ما أضعنا)

أيستطيعون أن يتمثلوا ما أضاعوا حتى يجدوه؟

لو كان الشيء الذي أضعته واحداً لقلت:

ما أهون الأمر!

ولكني أضيع كل يوم شيئاً ولا أجد هذا الشيء. . .

وشقائي أنني كلما ذهبت أفتش عن هذا الضائع، أضعت معه شيئاً آخر كان معي!

فحياتي أشياء ضائعة، وسعي ضائع وراءها.

فأين تريدون أن أجد أجزاء نفسي التي تناثرت مني على طريق العمر؟ وبينا كنت أحمل هذه الأجزاء كعوامل لسعادتي وحياتي أمسيت أحملها ذكريات ثقيلة

هل بإمكاني أن أطرح هذه الذكريات عني كما تطرحين أيتها الشجرة هذه الأوراق البالية عنك كل خريف؟

أتعاودك ذكرى الأوراق المتساقطة بعد أن يكسوك الربيع سواها؟

فإذا لم تعاودك ذكرى الورقة الأولى فلماذا تعودين إلى إبداع الورقة الجديدة - كل ربيع - على مثال الورقة الأولى؟

أليست الورقة الأولى هي مصدر إلهامك ومدار حياتك؟ وحقك! أينما رأيت أوراقك قلت: هذه الورقة الأولى!

دعيني إذاً أفتش في هذه المسارب قبل أن تغمض عيناي. .

لأقول: هنا سحبت قدميها مرة، ففي هذا المكان جزء منها فلأحاول أن أوقظ هذا الجزء. . .

وأقول: هنا جلسنا ذات يوم وضحكت لنا الحياة. فلأحاول أن أستعيد هذه الضحكة من الآن من التي طوتها

وأقول: هنا تركت بقية منها لم تعد تحملها نفسها ولا يجدها أحد سواي. فلأجرب أن أستنقذ هذه البقية من النسيان!

وأقول: هنا يعبق الجو بأشذاء وعطور من جسدها يوم كان يتفتح للمياه كالزهرة، فلأجرب أن أغمر روحي بهذه الأشذاء وهذه العطور.

وهنا يطفح المكان بألوان محاسنها التي تحولت. . . فلأعمل على إحياء هذه الألوان الباهتة.

وهنا أمس أشياء كثيرة! أحسها ولكني لا أقدر أن أمسكها لأنها أفلتت مني كما أفلتت منها. . .

دعيني إذاً أفتش عن أجزاء نفسي في كل مكان، قبل أن يطو يني الزمان.

- 3 -

أيها الزائر لحدي - هنا - لا تكثر التأمل في الأرض حيث ذرات جسدي تقيم لأنك لن تجدني هناك. . .

ولكن تأمل في الشجرة التي تغمرني ظلالها وتحنو علي أغصانها وتشدو لي أطيارها

إنك تجدني فيها على كل ورقة تتحرك، وفي عصارة كل عود يرتجف، وتسمع همسي في كل خشخشة منها!

أنا ميت في الأرض، وحي في الشجرة.

خليل هنداوي

-