مجلة الرسالة/العدد 221/على تمثال فوزي المعلوف
→ مصر في أواخر القرن الثامن عشر | مجلة الرسالة - العدد 221 على تمثال فوزي المعلوف [[مؤلف:|]] |
محمد بن جعفر الكتاني ← |
بتاريخ: 27 - 09 - 1937 |
كلمة الأستاذ فليكس فارس
في حفلة إزاحة الستار عن تمثال الشاعر فوزي المعلوف في
12 - سبتمبر في مدينة زحلة - لبنان
عندما أزيح الستار عن هذا النصب كأنه إنسان عين لبنان، وحبة القلب في بلاد العرب، رأيت الذرى المحدقة بهذا الوادي تميد من جهاتها الأربع وقد أطلت من ورائها طغمات أصنام تتراشق نظرات الاستغراب وتتبادل هتفات الاستنكار
إنني أعاينها بالجرح الوسيع فتحته في القلب أدواء البلاد ونكبات الأمة، واسمع صخبها وضجيجها بالإذن التي لم تزل تدوي فيها زفرات البائسين وصيحات المشردين والشهداء
أولئك هم أصنام الشعب المستضعف الفلول، استفزهم ما راود أمجادهم من حذر، وخامر أحلامهم من وساوس، فتراكضوا من مقاعد الزعامات والمناصب المنتزعة بدهاء الجهل ودسيسة المعجزة، ومن أبواب الهياكل والمعابد وجوانب القوى المسيطرة على العناصر الحائرة المتعثرة، هرعوا يتصايحون:
نحن أرباب هذه الأرجاء وأسياد شعبها. . نحن الأحياء يعبدنا الأحياء، فمن ترى هذا الصنم الجامد لا يملك سمعاً ولا بصراً يرفع على مثل أنصابنا فيحني الناس الرؤوس أمامه خاشعين؟
من هذا الدخيل الجامد الصامت تقحمه الهيكل قوة مجهولة وتفرض به على النفوس عبادة لا توجه إلينا، محرقة عند قدميه بخوراً لا يتعالى نحو تيجاننا؟ وصاح أحد صغار الأصنام بأسياده الجسام: أفما عرفتموه؟ إنه ذلك الفتى الضعيف الناحل الذي كان يحدجنا بلفتات الاحتقار ويقرع أسماعنا بأناشيد زهوه واغتراره. إنه هو الذي أنكر ألوهيتنا المتعددة السائدة على عشرات العناصر المتقاطعة، فادعى أن للوطنية إلهاً واحداً وأن قطعاننا قطيع واحد لراع واحد هو حق الحياة
أفليس هذا الصنم الجامد، ذلك الفتى الذي رأى في عزتنا مذلة لقومه، وفي عظمتنا صغارا لبلاده، فتوارى وفي دمعته نار وفي أنينه إرعاد فقالت طغمة الأصنام: ومن يجرؤ على رفع هذا الإنسان المتحجر إلى مصاف الأرباب فيقتعد المنصة العالية فوق مستوى الرعية؟
أوصل هذا الإنسان إلى نفوذ سر السيادة فرقص على الحبلين، وتعارج على الساقين، موهما الشرق انه ذو الحول والطول وراء ستائر الغرب، ثم عاد موهما الغرب أنه يقود من بلاده قطعاناً له تخديرها إذا شاء واستنفارها إذا شاء؟
ألهذا الرجل منبسطات السهول ومرتفعات الأنجاد ليستغلها بالسياط تلهب ظهور العاملين فيستقطر من جلودهم نضارة ويقيم على عبوديتهم زعامته. .؟
أعرف أن يستغل نزعات طائفة أو مطامح عنصر أو تعصب فئة فاستنبت زعامته من الضغائن وأنماها من الأحقاد؟
أورث مالاً من جدوده فابتاع من متسولات الضمائر مقاماً يسمع الناس منه روائعه وبدائعه؟
أجهل لغة قومه أم تجاهلها، وأعرض عن تقاليد أجداده أم استنكرها، محاولا اقتباس مظاهر تتمرد سريرته عليها؟ هل أقام المآدب وأحيا المراقص فخاصر واستخصر ليثبت أنه آهل للمدنية وقيادة الشعوب إلى النور أم هو توسل على الأقل بالمتابعة متخذاً منا موقع الذنب؟
بأية فضيلة من فضائلنا تحلى هذا الابن ليرفعه من حوله إلى مقام الأرباب؟
ووجمت الأوثان التي عبدت حتى الأمس القريب متسائلة عما إذا كان العهد الجديد المشرقة أنوار ضحاه ولو بعد حين سيرفع لأمثال هذا المتمرد من الأموات أنصاباً وسينادي بأمثاله من الأحياء أرباباً. إن أنوار الحق تتفجر على كل قطر عربي؛ ففي لبنان كما في مصر والعراق وسوريا وبلدان الجزيرة كلها أبطال يقوضون مقاعد الأصنام في السياسة كما قوضها من قبل في الدين رسل الله وأنبياؤه. وها هي ذي أوثان الأمس تتلمس رؤوسها بسواعدها المرتجفة متراجعة بخطوات من فقد ثقته بنفسه
اغربي أيتها الأوثان أيا كنت ومن أية جهة طلعت رسومك على الآفاق، فما النصب الذي يحييه أحرار الأمة الآن بالصنم الذي يزاحمك في هيكل الوثنية، وقد آن لها أن تضمحل. ما نصبنا إلا تمثال عزتنا الجريحة وقوميتنا المضللة؛ إن هو إلا الرمز الكامل لآلامنا وجهادنا في المرحلة التي قدر علينا أن نجتازها، ليرد الاختبار سوانا إلى محجة الصواب ولنعرف نحن أن نميز بين طريق سلامتنا ومهاوي انقراضنا.
ليس المقام مقام تأبين وتفجع على من يمثل هذا التمثال فإن صفحات تاريخ الأدب مليئة بكلمات أمراء البيان عمن خشع الغرب لبيانه الشرقي وما حلق فوقه من متقدميه ولا من معاصريه بيان. ولئن كان مأتم فوزي من أروع الأيام وأفجعها على الشرق العربي بأسره فإن يوم فوزي إنما هو اليوم الذي يرتفع فيه تمثال صفحة خالدة طبعت عليها مساوئ فترة الانتقال وفجائع طور التجاريب.
أي أخي فوزي! يا شاعر الأمة المشردة. إنني وأنا أنظر إلى ابتسامتك المرة وإشراق جبينك المتجهم اسمع صوتاً يقرع الفضاء من أصداء هذا الوادي مردداً قولك:
أنا الغريب فلا أهل ولا وطن ... إذا انتسبت أمام الناس وانتسبوا
ومن يكون غريباً في موطنه ... لا بدع إن أنكرته الأرض والشهب
ويليه، صوت آخر يتردد على ذلك الشاطئ الحزين صداه
قسما بأهلي لم أفارق عن رضى ... أهلي وهم ذخري وركن عمادي
لكن أنفت بأن أعيش بموطني ... عبداً وكنت به من الأسياد
أسمع هذا الإنشاد فيخيل إلي أن صيحات جيل كامل في أمة مروعة فقدت قوميتها فخسرت أوطانها
إن لخطرات الحظ تأثيرها على الأمم كما لها تأثيرها على الفرد؛ وليس للفرد كما ليس للمجموع أن يظفر من سلسلة الوقائع إلى مستقر يستحدثه فجأة لنفسه؛ غير أن هنالك قوة سمها الإرادة الجزئية إن شئت تتمرد على الانقياد لما يضير، فإذا هي تنبهت صمدت بوجه التيار بالمقاومة السلبية حتى يعبر الكاسح فتتمكن من استئناف سيرها نحو وجهتها، وإن هي استسلمت وجبنت فقدت الشعور بذاتها ومشت متطايرة مع العاصف ينثرها هباء على مراكضه. . إن هذه الأمة التي كونت شخصيتها من مبادئ واحدة في الأصل ومن ثقافة انطوت سريرتها عليها منذ أجيال، ومن بيان وعي علوم المتقدمين، وما قصر عن استيعاب علوم المتأخرين لا يستقيم لها أمر ولا يستعاد لها مجد ما لم تتوصل إلى إحياء حضارة تتوافق وما كمن فيها من فطرة وحوافز
لقد مرت بهذه الأمة أدوار من التاريخ قضت على استقلالها وحضارتها فذهبت قطعاناً مبددة تتراكض وراء كل ناعق يجزها ويحز رقابها، ولو أن العناية لم تستبق لنا في كل حقبة أنموذجا لكياننا ورسماً لما كنا ولما يجب أن يكون لما بقي لنا من صفاتنا الأصلية شيء نستدل به على حقيقتنا
إن سريرة الأمم المبتلاة بالانحطاط المرهقة بالمظالم تنكمش منسحبة من كتل الشعب لتتجلى من حين إلى حين لمعات أنوار في بيان عباقرته المتمردين. وإذا نحن استعرضنا فيلق المجاهدين من أول منبه للفاضلين تحت الأطلال إلى هذا المنتصب بيننا الآن كأروع رمز لشخصية الأمة الكامنة وراء تشردها وتقاطعها، لما رأينا واحداً من هؤلاء المجاهدين ينزع مثل هذه المنازع الضليلة التي يتوغل فيها المشككون الحائرون في هذه الأيام
إذا شئنا أن نتبين حقيقة موقفنا من أنفسنا ومن سوانا، وإذا صعب على البعض منا أن يتميز طريقه إلى قوميته ووطنيته فليتنصت إلى ما تصدوا به أجواء البلدان العربية كلها من أقوال المصلحين الذين عاشوا بآمال أمتهم وماتوا بعللها وأدوائها
أولئك المضطهدون هم أولى بإنارة سرائرنا ممن كانت حياتهم لهم لا للناس، فما شعروا بذل الأمة لأنهم استغلوه، وما أحسوا بأنهم غرباء في أوطانهم لأنهم أنكروا كيانها ومالئوا على حقها
ما يثير النعرات الدينية والإقليمية في هذه البلاد إلا الأنانيون الذين يرون في تبدد الأقوام تجارة رابحة لسعايتهم، أما الأرواح الجبارة التي أشبعت من مبادئ الشرق العليا حرية واستقلالاً ومجداً فأنها تمر بأجنحتها محلقة فوق كل عنصر ثقافته من وحي الشرق، وإلهامه وبيانه من لغة كفلت حياتها قوة لا تطاولها قوة. . .
لقد كان زمن أمكن فيه للأمة أن تبعث جسماً واحداً حين مزقت كفنها وشقت لحدها، ولكنها انتثرت بين أنامل الجامعين وقد عبثت بالرمة أهواء الحياة بعد أن جمعتها روعة الموت، فإذا بالميت الواحد هياكل عظام عديدة تهب من مرقدها منفرطة يتسلق كل منها ذروة لاستقبال أنوار الضحى وأوائل شعاع الشمس
تلك سانحة من الدهر ولت ولن تعود ما لم نستعدها بعشرات الأعوام جهود من يذكرون أن جميع هذه الهياكل القزمة، وقد بدأت تدب فيها الحياة، إنما هي هيكل جبار واحد جرعه سيف واحد وتسجى طوال الأجيال جثة واحدة في قبر واحد
لا يضع للأمة دستورها الحقيقي إلا من مثلوا سريرتها وثقافتها شاملة لروح المذاهب والعناصر كلها؛ وما أدري أن بين عباقرة الشرق العربي أحياء وأمواتا من سجن روحه بين جدران طائفته وحطم جناحي عبقريته في قفص إقليمه منكراً وطن فكرته الواسع الأرجاء. . .
هنالك تحت ظلال الأرز نصب لم يزل يهتف من أعلى ذرى لبنان بقوله:
أنا مسيحي ولي الفخر بذلك، ولكنني أهوى النبي العربي الكريم، وأحب مجد الإسلام وأخشى زواله. إنني اسكن المسيح شطراً من حشاشتي ومحمداً الشطر الآخر
أنا شرقي ولي الفخر بذلك؛ ومهما أقصتني الأيام عن بلادي أظل شرقي الأخلاق، سوري الأميال، لبناني العواطف
ذلك هو نداء جبران! فبماذا تجيبه يا فوزي؟
أفما أنت شاعر الأمة المشردة؟ أفما تمازجت في روحك كل عظمة من وحي أنبياء الشرق جميعهم، ومن إلهام عباقرته وفروسيته أبطاله في كل زمان ومكان؟. . .
افترضي أن يضرب حولك من لبنان نطاق يوقفك في طريق النهضة وقفة تمثال أودنيس في جبيل وباعال وباخوس بين أعماد بعلبك المحطمة؟. . .
لا وحقك يا فوزي، ما أنت في تقدير أخيك الذي قاد أوائل خطواتك نحو قمة الخلود، وفي تقدير كل نافذ لروحك ومدرك لعظمتك إلا المثل الأعلى للوطنية الحقه التي عشت من أجلها شريداً ومت من اجلها شهيداً. . .
اليوم لا ترى حولك إلا فئة قليل عديدها تطوف ممجدة فيك الشاعر المبدع الكبير، ولكنك سترى غداً أفواجاً من كل عنصر ومن كل قطر عربي تتوارد إليك لتحي فيك بطلاً من طليعة الفيلق الذي حطم سلاسل الأمة بتحطيم أصنامها والقضاء على أرباب شركها وأوهامها
فليكس فارس