الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 221/تطور علم الكلام

مجلة الرسالة/العدد 221/تطور علم الكلام

مجلة الرسالة - العدد 221
تطور علم الكلام
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 27 - 09 - 1937


في رسالة إنقاذ البشر من الجبر والقدر

للأستاذ محمد علي كمال الدين

تتمة ما نشر في العدد الماضي

يظهر للباحث عنوان المرتضى (بيان القدرة والمقدور) ومن قوله عن زعم جهم بأن ما يكون في العبد من كفر وإيمان ومعصية فالله فاعله. يظهر أن المرتضى يرى أن نظرية جهم في خلق الأفعال هي عينها نظرية القدر، وهي هي نظرية الجبر؛ وقد صرح بذلك في رسالته في معرض صفات الله عند نهاية صفحة 40 بقوله: (سبحانه وتعالى عما وصفه به القدرية المجبرة المفترون) وعليه يكون القدر في عنوان كتابه: (إنقاذ البشر من الجبر والقدر) عطف تفسير على الجبر

كما يظهر أيضاً من قوله: ولما أحدث جهم القول بخلق أفعال العباد قبل ذلك ضرار بن عمرو بعد أن كان يقول بالعدل فانتفت عنه المعتزلة واطرحته. يظهر أن النظرية العدلية كانت هي السائدة بين طبقات الأمة حتى بعد حدوث الاعتزال أي بعد القرن الأول، وأنها سبقت نظرية الاعتزال في الحدوث وسبقت نظرية خلق الأفعال؛ وأيضاً عند تدقيق أسطر المبحوث عنها ولا سيما ما يخص ضرار بن عمرو نستنتج النقط الآتية:

(1) إن واصلاً وعمراً هما رجلا الاعتزال وإن ضراراً كان معتزلياً؛ ونعرف هذا من أستتباع المرتضى انتفاء المعتزلة على ضرار بخروجه عما كان عليه واصل وعمرو بعد أن كان على رأيهما واخذ عنهما

(2) إن الزمن الذي حدث فيه الاعتزال هو عند المائة الأولى، ويدل على ذلك أن ولادة واصل كانت سنة 80 والعادة تقضي أن المرء لا يكون عالماً قبل أن يتجاوز العشرين من عمره وبإضافة العشرين إلى الثمانين تكمل المائة، وهو نتيجة طبيعية للتطور العقلي فإن للجدل العنيف بين طبقات الأمة في تكفير ذوي الكبائر أو تفسيقهم يؤدي عادة إلى خلق جماعة وسطى لذوي الكبائر منزلة بين المنزلتين

(3) إن الزمن الذي حدثت فيه نظرية خلق أفعال العباد يكون بعد المائة الأولى بدلالة اطراح المعتزلة لصاحبها ضرار لأنه وافق جهماً في نظريته الجديدة؛ ونرجح أن يكون الزمن الذي حدثت فيه النظرية هو المدة المحصورة بين وفاة الحسن البصري سنة 110 وبين مقتل جهم سنة 131. على أن هذا الزمن المفروض حري أن تحدث فيه النظريات العلمية لكثرة انتشار العلم والدرس مع ازدياد عدد العلماء وشدة تضارب الآراء والأهواء

(4) في هذا الظرف الذي حدثت فيه نظرية جهم ظهرت آراء ومقالات غريبة لم يصرح بها المرتضى؛ غير أنه أضاف في عرض حديثه عن ضرار انه خلط تخليطاً كثيراً وقال بمذاهب خالف فيها جميع أهل العلم. ولم أجد مسوغا للمرتضى في عدم تصريحه بنوع هذه الآراء في حين أن صاحب الملل والنحل ذكر كثيراً منها. ولو أن المرتضى ذكر بعضها لوجدنا من مقدمته سلماً كاملاً للتطور الفكري. ونعود الآن إلى بقية أجزاء المقدمة، قال:

(ثم تكلم الناس بعد ذلك في الاستطاعة فيقال إن أول من أظهر القول بأن الاستطاعة مع الفعل يوسف السمني، وإنه أستزله إلى ذلك بعض الزنادقة فقبله عنه؛ ثم قال بذلك حسين النجار وانتصر لهذا القول ووضع فيه الكتب فصارت مذاهب المجبرة بعد ذلك على ثلاثة أقاويل: أحدها أن الله تعالى خلق فعل العبد وليس للعبد في ذلك فعل ولا صنع، وإنما يضاف إليه لأنه فعله كما يضاف إليه لونه وحيويته، وهو قول جهم. الثاني أن الله تعالى خلق فعل العبد، وأن العبد فعله في استطاعة حدثت له في حال الفعل لا يجوز أن تتقدم الفعل، وهو قول النجار وبشر المريسي ومحمد بن برغوث ويحيى بن كامل وغيرهم من متكلمي المجبرة نحو الشاعرة وغيرهم)

قبل تحليل هذا القسم نلفت نظر القارئ إلى كلمة المرتضي (مذاهب المجبرة) بدون أن يقرنها بكلمة القدرية، فهي وإن لم تدل على رجوعه عن رأيه في مرادفة الجبر والقدر ولكن يشم منها حدوث كلمة جبر ومجبرة، وأنها غلبت في نسبتها إلى جهم وجماعته بدلاً من لفظة القدر التي حاول أن يهرب عنها الفريقان المتطاحنان، ولو أردنا التماس سبب لغلبة جهم في هذا التملص من صفة (القدرية) ربما وجدناه في مطابقة فهم العامة لمعنى كلمة الجبر مع النظرية ولا سيما وإن جهماً ونظريته وأصحابه فرس أقحاح، فهم أحرى أن يتحاشوا ويعملوا على الخلاص من وصمة الحديث (القدرية مجوس هذه الأمة)

ولنعد إلى بحثنا فقد استأنف المرتضى بحثه مراعياً تدرج الموضوعات بمقتضى تاريخها وتسلسلها الطبيعي فعرض لنا صورة من الجدل الذي جد بعد قرن وربع قرن بين علماء الجبر أنفسهم إضافة إلى النقاش الحاد بينهم وبين العدلية والمعتزلة؛ فهذا ضرار لم يأخذ بنظرية صاحبه جهم كما هي، بل حاول الجمع بينها وبين لون من الاختيار فقال: إن الإنسان وإن يكن مجبراً على خلق الأفعال فإن هذا الجبر لا يتنافى على رأيه مع الاستطاعة على القيام بالعمل، أي أنه لا يتنافى وجود فاعلين على أن يكون أحدهما كالقوة البخارية والثاني كالآلة المحركة؛ وزاد أن هذه الاستطاعة سابقة على حدوث الفعل بخلاف جهم الذي سلب هذه الاستطاعة من أساسها، وادعى أن إسناد الأفعال للإنسان على سبيل المجاز لا على سبيل الحقيقة كما يسند إليه لونه وحيويته، وكما يقال أمطرت السماء، وكسفت الشمس، وخسف القمر إلى غير ذلك

والذي يرمي إليه المرتضى حدوث بحث وموضوع جديد في علم الكلام هو بحث الاستطاعة ولم يعين وقت حدوثه كما هي عادته ولكن سنة التطور العقلي تقضي بأن حدوثه إذا لم يكن في حياة جهم أي قبل سنة 131 فعقيب مقتله. على أن تعدد الآراء في بحث الاستطاعة مع تعقد النظريات يدل على طول زمن البحث فيها كما تقتضيه الأبحاث الفلسفية التي غمرت المجتمع بعد عهد المنصور أي بعد سنة 136. . . وعليه سوف لا يجد غرابة في بعد الزمن الذي حدث خلاله الرأي الثالث في الاستطاعة أو القول الثالث من أقاويل المجبرة كما اصطلح المرتضى وهو قبل سنة 189 أي قبل زمن وفاة يوسف بن خالد السمني صاحب هذا القول؛ على أنه إذا كان الرأيان أو القولان الأولان يقرران نفي الاستطاعة مطلقاً أو وجودها سابقة على الفعل فبمقتضى التطور لا مناص أن يكون القول الثالث هو حدوث الاستطاعة حتى الفعل حيث لا رابع لها. بقي علينا أن نعرف السبب الذي ساق المرتضى إلى نسبة هذا القول للزنادقة. أقول إن اقتران تحقق الاستطاعة مع الفعل صريح بأن هذا الاستطاعة أمر غير ذهني فلا يمكن أن يتصوره العقل مجرداً بل يتحقق خارجاً كما تتحقق الحرارة مع النار، وهذا عين مقالة الزنادقة القائلين بعدم وجود أمور ذهنية غير واقعة تحت الحواس، لذلك نسب المرتضى إليهم هذا القول

أما شخصية يوسف بن خالد السمني هذا وهل نسبته هذه إلى مذهب (السمنية) من مذاهب الهند القديمة فذلك ما لم أستطع تحقيقه الآن لانعدام المآخذ لدي ولكن الذي يلفت نظر الباحث اهتمام المرتضى بهذه المقالة: الاستطاعة مع الفعل، فقد جعلها مفتاحاً إلى مقالة كثير من المجبرة مثل بشر بن غياث المريسي المتوفى سنة 218، ومحمد بن عيسى الملقب ببرغوث، ويحيى بن كامل من أصحاب بشر، وأيضاً الحسين بن محمد النجار الذي وضع في هذه المقالة الكتب وغيرهم. فكأن المرتضى يشير إلى أن تاريخ اتساع علم الكلام وتشعب نظرياته عند المسلمين بدأ عند هذه المقالة ومنها أخذ يزداد توغلاً وعمقاً فكثر فيه المؤلفون والمجادلون والمجالدون؛ غير أن تحقيق تطور هذه النظرية الذي هو موضوع بحثنا يحتاج إلى دقة وبحث واستقصاء أكثر ولا سيما وقد شغلت عهداً طويلاً يبتدئ من سنة 131 ويستمر إلى سنة 218 وهو عهد وفاة بشر المريسي ثم إلى عصر الأشعري وهو سنة 300. والآن نأتي على آخر أجزاء المقدمة، قال المرتضى:

(ثم تكلم الناس من بعد ذلك فيما اتصل بهذا من أبواب الكلام في العدل واختلفوا فيه اختلافاً كثيراً والكلام في ذلك أوسع أبواب العلم)

فكان العدل هو العامل الأكبر في خلق علم الكلام فقد ابتدأ مع أول نظرية وهي نسبة المعاصي لله أو للعبد نفسه، واطرد مع جميع نظرياته، وأخيراً أصبح العدل موضوعاً مستقلاً لدى المعتزلة بل اصبح أوسع أبواب العلم كما يقول المرتضي؛ غير أن المجبرة والصفاتيه والأشاعرة تحاشوا التوغل فيه كما تتوغل المعتزلة

جدول تطور علم الكلام

الآن وقد أنهينا مقدمة المرتضي مع تطور علم الكلام الذي أرتاه وحاولنا البرهنة على صحة رأيه في هذا التطور فلا ندري إن كنا موفقين في بعض هذه البرهنة أو غير موفقين، غير أن القارئ ربما أدرك ما لاقيناه من العناء في هذا السبيل. وإكمالاً للفائدة رأينا أن نلخص رأي المرتضي بالتطور في الجدول آلاتي:

النظرية

أصحابها

نقيض النظرية

أصحابه الزمن

نسبة المعاصي لله

نسبتها للإنسان والقول بالعدل

السلف

من 60 إلى 100

تفسيق ذوي الكبائر وتكفيرهم

السلف والخوارج

منزلة بين المنزلتين

المعتزلة

100 - 110

القدر أو الجبر ونفي الاستطاعة

جهم بن صفوان

الاختيار ومطلق الاستطاعة

السلف والمعتزلة

110 - 131

الجبر والاستطاعة قبل الفعل وعنده

ضرار بن عمرو

الاختيار ومطلق الاستطاعة

السلف والمعتزلة

131 -

الجبر والاستطاعة حال الفعل

يوسف السمني وبشر المريسي

الاختيار ومطلق الاستطاعة

السلف والمعتزلة

131 - 218 الجبر والاستطاعة حال الفعل

النجارية والأشاعرة

الاختيار ومطلق الاستطاعة

المعتزلة

218 - 324

نتيجة البحث ورأينا الخاص

يلاحظ القارئ أنا حاولنا أن نتلمس رأي المرتضي نفسه لنكشفه أمام القارئ كيما يمكنه أن يستخلص منه طريقة تطور علم الكلام. وقد آن لنا أن نعرض أمام القارئ آراءنا الخاصة والنتائج التي حصلنا عليها، وللقارئ أن يأخذ بها أولا يأخذ. وهي تتلخص في أربعة أمور: زمان علم الكلام، المكان الذي نشأ فيه، عوامل تكوينه، صبغته

(1) أما الزمن الذي نشأ فيه علم الكلام فهو عصر خلافة الإمام علي وحركات الخوارج وجدالها معه، وأول نظرية هي بحث المعاصي والكبائر وتكفير مرتكبيها سنة 38

(2) المكان الذي نشأ فيه علم الكلام هو العراق وبعض ما جاوره من بلاد الفرس بدلالة أن هذه الأقطار كانت منبت الخوارج ومراكز حروبهم ونظرياتهم فضلاً عن أن معظم علماء الكلام كانوا من أهل هذين القطرين

(3) إن عوامل تكوين علم الكلام لم تكن دراسية بالأساليب والمناهج التي نعرفها بل كونتها ثورة فكرية عامة صدع بها الدين والكتاب المقدس وسندتها قابلية الفرد والمجتمع وغذتها الخميرة العلمية الموروثة تلقيا وتلقينا من دراسة الأمم والمدارس القديمة من سريانية وكلدانية وحيوية وجنديسابورية وحرانية وعبرية وإسكندرية، فكانت هذه الثورة الفكرية بما كان لها من مقومات ومغذيات هي المدرسة الكبرى لعلم الكلام وناهيك بالمجتمع مدرسة عظمى سريعة النمو طيبة النتاج

(4) كانت صبغة علم الكلام منذ نشأته الأولى في الصدر الأول فطرية، فمشت نظرياته بمقتضى العقلية العربية الإسلامية، وقد كفلتها الذهنية الخصبة فتوصلت إلى نتائج تلك النظريات طفرة ومن دون تعمل، وأخذت بها كآراء صحيحة وإن لم تراع الترتيب والتبويب العلمي. ولا أظن أن هذا الأسلوب من الدراسة يمنع من أن ندعوه علم الكلام أو يمنع من اصطباغ معتنقي نظرياته بصبغة علماء الكلام. وعليه يكون لعلم الكلام دوران: أولا صبغته الفطرية وهي تبتدئ منذ سنة 38 وتنتهي سنة 136؛ والدور الثاني صبغته الفلسفية الحاضرة وتبتدئ منذ عصر الترجمة سنة 136هـ

وتقريباً للأذهان سنضرب للقارئ مثلاً يرتضيه الخيال ويتفق مع النواميس الاجتماعية، فربما أعطانا صورة لتلك الثورة الفكرية، وهذا المثال هي الثورة الثقافية والاجتماعية الماثلة لدى الشعوب والحكومات الشرقية التي استقلت بعد الحرب العامة فقد شاهدنا هاته الشعوب والحكومات كيف سارعت وتطورت في دراسة نواحي الاستقلال وما يلابسها من نظريات اجتماعية وسياسية ومدنية وقضائية وعلمية وفنية وعسكرية وما إلى ذلك من خصومات الحضارة الأوربية وأساليبها - درست جميع ذلك بطريقة عملية تلقينية وبأساليب التفكير والتجربة والتقليد إذ لم تكن لدى تلك الحكومات ما يصح أن يقال لها مدارس فنية أو عسكرية قضائية أو اقتصادية، ومع ذلك وجدنا ابن الريف والفلاح الأمي قد سارع في تلك البلاد إلى تلقي الأنظمة والفنون الحربية بما فيها آلاتها وأدواتها الميكانيكية كما وجدنا الحضري ساق السيارة والباخرة والقطار، والتاجر والصانع أصبح سياسياً أو إدارياً أو صحافياً أو مهندساً في حين أن معظم هؤلاء وأولئك لم يكونوا قد سمعوا بشيء في ذلك فضلا عن مشاهدته والقيام بما يتطلب. والأغرب من ذلك كله أن جميع هؤلاء الفنيين أو المدربين الشرقيين قد نجحوا ومهروا ببضعة سنين

ونحن نرى في هذا المثال صحة المقارنة وانطباقها مع تلك الموجة العربية الإسلامية كل الانطباق إلى درجة لم يبق معها مجال للحيرة والشك في سرعة قبول المسلمين لنظريات علم الكلام وفي كيفية امتزاج هذا العلم وأشباهه مع الدين الإسلامي

(العراق. النجف)

محمد علي كمال الدين