مجلة الرسالة/العدد 22/رواية الأبناء والمحبين
→ (مقرظ لا مقرطق) | مجلة الرسالة - العدد 22 رواية الأبناء والمحبين [[مؤلف:|]] |
العلوم ← |
بتاريخ: 04 - 12 - 1933 |
للكاتب الإنجليزي د. هـ. لورنس
نقد وتحليل
أراد د. هـ. لورنس في روايته أن يصور لنا فتى خيالي النزعة دقيق المشاعر في دور الانتقال الأول من حياة الصبي إلى حياة الرجل.
وليس الفتى (بول) في هذه الرواية الا فتى د. هـ. لورنس نفسه، فأبوه عامل خشن من عمال المناجم يعول أسرته بعمل ذراعيه ولا يعرف من لذات الحياة غير المأكل والمشرب ولا سيما الأخير منهما. وأما مسز موريل أمه فامرأة من أسرة من الطبقات المتوسطة، كان أبوها مهندسا وكان رجلا كبير الجثة جميلا باديالعظمة فخوراً بلون بشرته الأبيض وزرقة عينيه وفخوراً أكثر باستقامته، وقد شابهت جرترود (اي مسز موريل) أمها في ضآلة البنية ولكنها ورثت خلقها بما فيه من تكبر وشدة حساسية من أسرة أبيها.
ومع ذلك تزوجت هذه المرأة المهذبة من ذلك العامل الخشن، فقد قابلت وهي في الثالثة والعشرين من عمرها فتى من وادي أرواش في حفلة من حفلات عيد الميلاد، وكان موريل عندئذ في السابعة والعشرين من عمره، وكان جميل الجسم معتدل القامة ظاهر النشاط ذا شعر أسود متوج لامع ولحية سوداء قوية لم تحلق قط، وتلوح على خديه علائم الصحة، ويلفت النظر فمه الأحمر الرطب لأنه كان يضحك كثيرا ويضحك من أعماق قلبه، وقد وهب، تلك الموهبة النادرة أعني الضحكة القوية الرنانة، ولاحظته جرترود فسحرت به، وكان مليئا بالألوان والحياة ويتنقل صوته بسهولة إلى المضحك الغريب، وكان سريع الخاطر ظريفا مع الجميع، وكان أبوها يميل إلى الفكاهة النازعة إلى السخرية، ولكن هذا الرجل يختلف عنه، ففكاهته ناعمة بعيدة عن التعمق الذهني وحارة فيها نوع من اللعب.
أما هي فكانت على الضد من ذلك ذات عقل دائم التساؤل قابل للمعلومات يجد لذة كبيرة في الإصغاء إلى الآخرين وكانت ذكية في جر الناس إلى الكلام، تحب الآراء وتعتبر مثقفة تثقيفا كبيرا، وتحب بنوع خاص المناقشة في الدين والفلسفة والسياسة مع رجل مهذب، ولكنه لم تكن تمتع بهذه الفرصة كثيرا، لذلك تحمل الناس على أن يتكلموا معها عن أنفسهم وتجد في ذلك لذة كبرى، وكانت في شخصها ضئيلة ورقيقة ذات جبهة عريضة تتساقط عليها عناقيد من الحرير الأسمر المجعد، وعيناها الزرقاوان مستقيمتان أمينتان باحثتان، يداها جميلتان كسائر أهلها وملابسها دائما ذات لون قاتم فتلبس رداء من الحرير الأزرق الغامق، وتضع سلسلة فضية ذات شكل خاص ودبوس كبير من الذهب المجدول، هذا كل ما تتزين به، وكانت بعيدة عن الأهواء شديدة التمسك بالدين، مليئة بالصراحة الجميلة.
فتن والتر موريل عندما التقى ناظراه بناظريها فكانت عند هذا موضع غرابة وسحر إذ كانت سيدة فهي إذا كلمته نطقت في لفظ جنوبي وفي إنجليزية يرتعش لسماعها.
ليس موضوع الرواية حب ولتر موريل عامل المناجم أو تزوجه من جرترود كوبارد، وإنما موضوعها أجل من ذلك، ولكنن أردنا أن نسوق شيئا من وصف الرواية لهما كي نتعرف إليهما قبل أن نتعرف إلى أبنهما الصبي بول موريل.
وليس بول بكر أولادهما، فوليم موريل كان أكبر الأولاد واليه تحول حب الام حين حل الجفاء بينها وبين زوجها محل الحب الأول، إذ لم تلبث السيدة موريل، وهي المهذبة المثقفة أن أكتشفت حقيقة زوجها ورأت وراء ذلك الجسد الذي سحرها بفتوته روحا خشنة غير مهذبة، وأخذ زوجها كزملائه يقبل على الكأس فلا يذهب إلى البيت إلا ثملاً وإذا كان ثملا، كان جافا تبدو خشونة طباعه.
تحول حب الأم إلى الأبناء ولا سيما الابن الأكبر وليم وصممت بعزيمتها الفولاذية على أن يكون أبناؤها مثقفين بارزين في مضمار الحياة، وكان وليم فتى طموحا يميل إلى التعليم وقد تمكن من أن يجد عمل كاتب في أحد المحال القريبة من قريتهم ثم انتقل إلى عمل في لندن وصارت زيارته للأسرة عيداً من الأعياد.
واحب وليم فتاة من الكاتبات في لندن وعزم على الزواج منها فقدمها إلى عائلته وكانت فتاة كثيرة الأهواء محبة للمظاهر ورأت الام بعين الحنو أنها لا تصلح لابنها ولكن بعين الحنو أيضا سكتت على مضض.
على أن الفتى كان يكتشف حبيبته شيئا فشيئاً، ورفع الستر عن عينيه كما يدل على ذلك حديثه في زيارته الأخيرة لأسرته، وكان ذلك في مساء يوم السبت.
وقد خاطب أمه مرة واحدة ذلك المساء وكان يتكلم عن حبيبته في لهجة الحزن والألم:
ولكنك تعلمين يا أماه لو مت لتألمت شهرين ثم تأخذ في النسيان، وسترين إنها لن تأتي إلى هذا المسكن لتنظر إلى قبري لن تأتي مرة واحدة.
فقالت أمه: ولكنك لا تموت يا وليم، فلماذا تتكلم عن الموت؟) على أن القدر رسم له أن يموت، فقد عاد إلى لندن في منتصف ليل الأحد وفي يوم الثلاثاء تسلمت مسز موريل برقية بأن أبنها مريض، فأسرعت إلى القطار ولا ريب في أن الام كانت تشعر ذلك الشعور الخفي بالكارثة، ولا ريب في أنها كانت تقاوم ذلك الشعور وتغالبه فلا تستطيع، ووصلت إلى لندن لتراه يموت بين أحضانها دون أن يتعرف على أمه.
أن الصفحات التي وصف فيها د. هـ. لورنس دخول الموت إلى هذه الأسرة من أروع ما كتبه.
تحطمت آمال الأم في وليم فتحولت إلى ابنها بول ونشأ بول كما نشأ جميع أفراد العائلة على حب الأم وعلى أن يعتبر أباه خارجا عن الأسرة، ونجد صورة من ذلك في مرض حدث له وهولا يزال صبيا:
(أصيب الغلام بنزلة صدرية ولكن لم يهتم لها كثيرا، فأن ما حدث قد حدث، وليس ثمة فائدة من مقاومة الأشواك، وكان يحب المساء بعد الساعة الثامنة عندما تطفأ الأنوار ويستطيع ان يترقب لهيب نيران الموقد يبدد ظلام الحائط والسقف، ويرى ظلالاً عظيمة تتموج وتضطرب، وكأن الغرفة امتلأت برجال يتقاتلون في سكون. كان الاب يدخل غرفة المريض قبل أن يأوي إلى فراشه ومن عادته أن يكون في نهاية الرقة إذا مرض أحد في البيت ولكنه كان يعكر جو الغرفة لدى الغلام.
سأل موريل في رفق: هل أنت نائم يا بني؟
فأجاب الغلام: لا! هل أمي آتية؟
أنها انتهت الآن من طي الملابس، أتريد شيئا؟ وكان موريل يخاطب أولاده بلهجة الاحترام.
- لا أريد شيئا ولكن هل تغيب طويلاً؟
- لا تغيب طويلا يا بني
ووقف الاب برهة في تردد فوق الطنفسة المبسوطة أمام الموقد وقد شعر أن أبنه لا يريده، ثم ذهب إلى أعلى السلم وقال لزوجته: - أن الطفل يريدك! هل يستغرق عملك وقتا طويلا؟
- لن أتركه حتى أنتهي منه، قل له ينام.
فقال الوالد لابنه في لطف: أنها تقول لك نم.
فألح الغلام: أنني أريد أن تأتي.
فنادى موريل من السلملن ينام حتى يراك.
- كفي! فلن آتي حتى أنتهي من عملي، ثم كفاك صياح من أعلى السلم، فأن الاطفال الآخرين. . .
فقال الاب: لن تغيب طويلاً
وظل الاب يجول في الغرفة، وبدأ على الغلام القلق وكأن وجود أبيه زاد من نفاد صبره، وأخيراً وقف موريل أمام أبنه لحظة ثم قال في صوت رقيق: ليلة سعيدة أيها العزيز.
فأجاب بول: ليلة سعيدة ودار بجسمه إلى جانبه الآخر وقد شعر بالارتياح لأنه صار وحيدا.
وكان بول يحب أن تنام أمه معه، ومازال النوم في أكمل حالاته على الرغم من أقوال الأطباء عندما يشترك فيه المحبوب فأن حرارة الروح وطمأنينتها وأمنها والراحة الكبرى في تلامس الجسدين تربط النائم بالنوم بحيث يكون الجسد والروح في غايته وقد رقد بول إلى جانبها ونام وتحسنت حالته، أما هي والنوم لا يزورها سريعا فقد نامت بعد ذلك نوما عميقا أعاد إلى نفسها قوة الإيمان).
ولكن الأمهات لا يلبثن أن يجدن منافسات لهن في أبنائهن، ورواية الأبناء والمحبين، إن هي إلا قصة ذلك النضال الخفي الذي يقوم بين الام وبين تلك التي تريد أن تحول قلب ابنها إليها.
ففي مزرعة ويلي وجد بول حبه الأول: فتاة هي أخت لأصدقائه أولاد أصحاب المزرعة.
كانت مريم ذات نزعة خيالية وكانت كبيرة التعلق بأمها (وكان كل منهما ذات عينين عسليتي اللون، وذات نزعة صوفية؛ فكانت من أولئك النساء اللاتي يكتنزن الدين ويتنفسنه من أنوفهن، وكانت مريم تظن الله والمسيح شخصاً واحد تحبه حبا شديدا وتخشاه). . . .
(وكانت هذه المخلوقة لا تهتم لجمالها الخجل المتوحش المتوقد الحساسية بل لا تكفيها تلك الروح ذات النزعة الشعرية فكانت، تبحث عن شيء أخر يقوي ما طبعت عليه من كبرياء، لأنها شعرت بأنها تخالف غيرها من الناس، ولكنها نظرت لبول نظرة أخرى فهي بوجه عام تكره الرجال، على أنه رأته من نوع آخر، سريعا خفيفا رقيقا قد يكون أحيانا آية في اللطف ويتغلب عليه الحزن أحيانا، وهو ذكي يعرف الشيء الكثير وقد طاف الموت مرة بعائلته، ورفعه في عينيها إلى السماء ما حصل عليه من المعلومات الضئيلة. .) أحبته الفتاة وأخذ الفتى ينفتح قلبه للحب، ولكنه كان حبا غريبا خفيا ممزوجا بكل ما فيها من مشاعر الدين والتقوى، وأما حب الفتى فكان فطريا ممزوجاً بتلك العاطفة التي يمتزج بها الحب كثيراً في نفس فتى تحول قريبا من دور الصبي إلى دور الرجل، وقد رأت فيه الفتاة مثلا أعلى للرجل المتصف بأكمل الصفات، أما الشاب ذو الشفة المرتعشة بحرارة الشهوة فكان ينظر إلى الحب من ناحية أخرى. لم يلبث الفتى أن مل هذا الحب، وأراد حبا أكثر إنسانية وأقل تطلعا إلى الملائكة، ووجده عند كلارا التي كان يعمل معها في محل واحد.
تعلق الفتى بها وتعلقت به، وتجاذب النفسان تلك العاطفة تجاذبا، نقرأه بدقائقه في هذه الرواية، ولكن شيئاً واحداً كان يحول بين توافق هذين القلبين كما كان يحول بين توافق بول ومريم. الواقع ان هناك حبا آخر عنيفا محطما كان يعمل دائما على التفريق، وهذا الحب المحطم هو حب الام لولدها، فبول كان شديد التعلق بأمه وأمه شديدة التعلق به والحنو عليه، فلما أن طمحت نفسه إلى حب آخر لم يجد إلى التخلص سبيلا، إنه لم يشعر بذلك لأن هذا الحب كان يجتذبه بخيوط دقيقة خفية لا يراها ولا يستطيع إلا أن يظل فريسة، فعندما تحول حب بول عن مريم كانت الأم تجتذبه، وعندما تحول حبه عن كلارا كانت الأم تجتذبه.
ولم تكن الأم تعمل على إبعاده ولا هي تسعى لذلك سعيا ظاهرا، بل هو تود سعادته وخيره، وتود أن يصل إلى كل ما يرضيه، وإنما نفوذها القوي عليه وحمايتها الشديدة له وعنايتها به منذ صغره وإلى أن مرضت مرضها الأخير وإلى أن لفظت آخر أنفاسها أمامه، هذا النفوذ هو الذي حطمه في صباه وقد يحطمه في رجولته.
فموضوع الرواية الحقيقي قد لا يكون حياة بول وانتقاله إلى الرجولة وتفتح عينيه إلى سر الحياة، وإنما هو: نفوذ الأم وعطفها الذي قد يكون أشد خطراً على حياة الشاب من جميع الأخطار.
وتعتبر هذه الرواية من أوائل روايات (د. هـ. لورنس) ويضعها البعض في مقدمة رواياته لكن أسلوبها المصقول الحذر يتم على يد لم تكن من المران بحيث تطلق عنانها وإن كنا نرى في التحليل النفساني نبوغا لا يقل عن نبوغه في خير رواياته.
حسن محمود