الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 219/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 219/رسالة العلم

بتاريخ: 13 - 09 - 1937


مملكة النحل

عيشة النحل وتربيته الحديثة

بقلم جمال الكرداني

أفراد الخلية

كلنا لا نجهل هذه الحشرة الصغيرة التي تعطينا العسل، وقد يعدها من ليس على علم بمعيشتها من الحشرات الحقيرة مع أنها في الواقع تنشئ من جموعها مملكة هي مثال الاستقلال والرقي والنشاط. يعيش النحل معيشة اشتراكية في جماعات تقدر زنة الجماعة منها بما يقرب من خمسة إلى ستة أرطال، والجماعة تملأ ثلاثة أو أربعة أقداح، وتتميز في أفراد الجماعة الواحدة ثلاثة أنواع هي اليعسوب والذكر والشغالة

وقد يكون أوفق أن نعطي اليعسوب لقب ملكة الجماعة لجلالها وحسن سيطرتها على مثل هذا العدد الكبير - وهي وحيدة في الحالة العادية للخلية - ولكن تتعارض معيشتها بين الأفراد الأخرى للجماعة مع هذا اللقب إذ أنها تختلف عن عيشة ملوكنا بيننا، فالأجدر إذن تسميتها أم الخلية، ويعزز هذه التسمية أنها والدة كل نحلة في الخلية تقريباً

والملكة لا تترك مدينتها إلا مرة أو مرتين للإخصاب فقط بل تمضي معظم حياتها في ظلام الخلية، وإن كان هذا حكم واجبها وهو وضع البيض. وقد يشغلها هذا الواجب الدقيق عن التفات إلى شيء سواه فلها خدم بمرتبة الوصيفات لملكاتنا تحرسها وتقدم إليها الطعام وتؤدي لها غير ذلك من الخدمات. وإذا ساعدتنا الظروف على رؤية ملكة الخلية يتضح لنا جلالها إذ نجدها على القرص وحولها ما يقرب من عشرين نحلة تواجهها دائماً وتأبى أن توليها ظهرها تأدباً، وهذا الحرس ككل أفراد الجماعة يقدم حياته فداء اليعسوب إذا لزم ذلك

ويمكننا تمييز اليعسوب بطول مؤخرها لوضع البيض وقصر جناحيها، لأنها كما قلنا لا تطير خارج الخلية كثيراً. وللملكة حمة بلغ من عفافها أنها تأبى أن تلدغ بها من هو أقل منها وأضعف سلطاناً، فهي لذلك لا تستعملها إلا لمحاربة مثيلاتها الملكات إذا اقتضت الضرو والذكر ليس كبيراً كاليعسوب وإن كان منظره أضخم وليس له حمة. ولكون وظيفته تقتصر على إخصاب الملكات الصغيرة لا يوجد منه في الخلية غير بضع مئات. يعيش الذكر في الخلية عيشة رخاء وراحة، لا يشترك بقسط من العمل، فلا يجمع هباء النبات ولا رحيق الأزهار بل تطعمه العملة؛ وإذا أراد الزيادة انقض على ما هو مخزون بالخلية. ويتخذ الذكر له ركناً بعيداً عن جلبة الخلية فينام حتى منتصف النهار، ويخرج بعد تناول الطعام شاقاً صفوف العملة محدثاً حركة بين باقي النحل ولا يبالي حتى بالحراس فيطير إلى الأزهار البعيدة ليعرض جسمه لأشعة الشمس وهناك يشاكس الرعاة من النحل فيقلبها أثناء جمع قوتها. وفي الأصيل يرجع إلى الخلية بطنين عال فيتناول غذاءه وينام إلى اليوم الثاني. وهذه الحياة حياة كسل ولابد أن تنتهي ككل شيء لذيذ في وقت قريب، ففي الشتاء عند قلة الغذاء تنقض عليه العملة فتقتله وينتهي الرخاء بالفناء

أما العاملة أو الشغالة فهي أصغر أفراد النحل جسماً، وقد يكون ذلك استعداداً طبيعياً يساعدها على تأدية أعمالها الشاقة في خفة ونشاط. والشغالة أكثر أفراد النحل عدداً فقد يصل عددها 30000 في الخلية الواحدة. وكل واحدة لها واجبات خاصة وعندها استعداد طبيعي لأدائها. فمنها يتكون حرس الخلية ورعاة الحقول والمربيات إلى غير ذلك. ويخيل إلينا أن كل عاملة تنافس غيرها بالسعي والجد فهي تقضي حياتها لا تميل إلى الكسل ولا تعرف الرفاهية

وأهم عمل لشغالة تموين الخلية بالغذاء فتطير الرعاة من زهرة إلى أخرى ومن حقل إلى حقل يساعدها على ذلك زوجان قويات من الأجنحة، الأماميان منهما أكبر من الخلفيين، وإذا ما زارت زهرة تدخل لسانها الطويل المغطى بالشعر في قاعدتها وتمتص الرحيق. وأحب الأزهار إلى النحل هي ذات اللون الأزرق والأرجواني والأصفر؛ وتحب كذلك الأزهار الحمراء المشوبة بألوان أخرى زاهية مثل حنك السبع. وللنحلة غير العينين المركبتين ثلاث أخرى بسيطة على شكل مثلث (() ويختلف شكلها في الذكر هكذا (?)، وهذه العيون تساعدها على اختيار ما تريده من الأزهار. وطبيعي أن تعاود النحلة زهرة أو حقلاً عدة مرات لأن قدرتها على الحمل لا تمكنها من أخذ كل ما يروق لها من زهرة ما مرة واحدة. ويساعدها على زيارة الزهرة نفسها مرات عدة تفرزه عليها من رائحة خاصة تميز منطقة هذه الزهرة عن بقية مناطق الحقل. ومن هنا نقدر قوة حاسة الشم عند النحل. وأثناء انتقال الرعاة في الحقل وزحفها على أزهاره المختلفة يجتمع هباء النبات في شبه كيس في الرجلين الخلفيتين للنحلة، فإذا دخلت أخرى تركت بعض هذا الهباء بدون قصد، وبذلك يحدث الإخصاب بين الأزهار. وكثيراً ما يربى النحل في المزارع لهذا الغرض. وعلاوة عل جمع رحيق الأزهار تقوم الشغالة بصنع أقراص العسل الشمعية وملئها بالشهد نفسه. ومن واجبات المربيات حراسة البيض وتقديم الطعام للصغار. وعلى عاتق العملة تقع حراسة الخلية وأقراصها ومليكتها من كل معتد أو فضولي كالذباب والعثة. وألد أعداء النحل هو الزنبور الأحمر (زنبور البلح)

وينقسم النحل بحسب الجهة التي يعيش فيها إلى عدة أقسام ويتميز كل نوع من الآخر بحجمه ولونه، فالنحل البلدي أو المصري صغير مائل إلى البياض، أما القبرصي فلونه أحمر وأضخم من المصري. وهناك نوع يعيش في إيطاليا وهو أطول قليلاً من القبرصي. أما النحل الكرنيولي ويعيش في يوغسلافيا فلونه أسود وهو أطول من الإيطالي وأضخم من القبرصي

الاستعمار والخراب

نواة مستعمرة النحل ملكة ملقحة لوضع البيض، فبعد ستة أيام من خروجها من العذراء تطير إلى علو بعيد ويطير وراءها الذكور؛ وأثناء هذه المسافة الطويلة تخور قوى بعض الذكور فيسقط إلى الأرض؛ وفي النهاية تختار الملكة أحدها وهو الذكر المثابر على الطيران ويكون عادة من خلية غير التي أنتجت هذه الملكة. ويموت الذكر بعد عملية التلقيح، وتقتل العملة ما بقي من الذكور في الخلية وعند عودة الملكة ملقحة تظهر أعضاء التذكير البيضاء اللون متصلة بفتحتها التناسلية إذ تنفصل عن جسم الذكر عقب السفاد.

وإذ ما وصلت الملكة إلى الخلية استقبلتها (الشغالة) بالالتفاف حولها؛ وبعد يومين تبتدئ في تأدية وظيفتها فتضع ما يقرب من 400 بيضة كل 24 ساعة، وتستمر على نشاطها سنتين أو ثلاثا

وللملكة قدرة على وضع بيض ملقح وبيض غير ملقح؛ فالأول ينتج الملكات والخناث (العملة) تبعاً لنوع الغذاء الذي يقدم لليرقات بعد فقسها وتبعاً لشكل الثقوب التي تربى فيها، والثاني ينتج الذكور

ومدة إفراخ البيض ثلاثة أيام في جميع الأفراد. وعند خروج اليرقات الصغيرة تتغذى جميعاً بالغذاء الملكي مدة ثلاثة أيام وهو سائل يشبه اللبن تفرزه الشغالة الصغيرة من غدد خاصة في رأسها؛ وبعد هذه المدة تتغذى الشغالة بمزيج مركب من العسل وحبوب الطلع يسمى بخبز النحل. أما يرقات الذكور فتتغذى بخبز النحل مع جزء من الغذاء الملكي وتستمر الملكات على غذائها. وتمكث يرقات الملكات خمسة أيام إلى أن تشرنق، وكذاك يرقات الخناث. أما يرقات الذكور فتمكث ستة أيام، وفي هذه الأثناء تنسج حولها شرنقة تتحول داخلها إلى عذراء. وبعد مضي سبعة أيام على عذراء الملكات وثلاثة عشر يوماً على عذارى الخناث وخمسة عشر يوماً على عذارى الذكور تخرج منها الحشرات الكاملة

وتعمر الملكة زمناً طويلاً قد يصل إلى أربع سنوات، وتضع في السنوات الأولى من حياتها ما متوسطه 400 بيضة في اليوم، ثم يقل شيئاً فشيئاً في السنوات التالية؛ ولذا يستحسن تغيير الملكة بأخرى جديدة كل سنتين أو ثلاث حتى لا تضعف الخلية

وتعيش الخنثي زمناً يختلف من عشرة أيام إلى ستة أسابيع تبعاً لمقدار الشغل ودرجة صعوبته: وغالباً تقضى الخناث التي تولد في الخريف فصل الشتاء في راحة قليلة، ثم تعاود عملها في فصل الربيع الذي تنتهي فيه حياتها. والذكور لا تعمر كثيراً وليس لها منفعة معظم السنة بل أنها فضلا عن ذلك تتطفل على ما تجمعه الشغالة

وهكذا تكون المستعمرة. وتستمر الملكة في وضع البيض والشغالة تخدم الخلية، فإذا مات جيل من الشغالة حل محله جيل يعقبه وهكذا. وفي حالة عدم تلقيح الملكة، وذلك ينشأ عن عدم رؤية الذكور لها أو عدم اللحاق بها عند طيرانها، تهدأ الملكة بعد ثلاثة أسابيع وتضع نوعاً من البيض غير ملقح يسمى بالبيض الكاذب وهنا تتعرض المستعمرة للخراب

أما إذا ماتت الملكة أو ضاعت فيبتدئ الضعف يتطرق إلى الخلية، وينتهز الأعداء فرصة هذا الضعف فتظهر دودة تفتك بالشمع، وتغير الزنانير والنمل على النحل فتأكله. وإذا استمر الحال كذلك شهرين فمصير الخلية الخراب إن لم تمد بملكة جديدة. وفي أغلب هذه الأحوال تبحث الشغالة عن بيضة ملقحة من بيض الملكة المفقودة وتنقلها إلى عين ملكية، وعند فقسها تعامل معاملة الملكات في المعيشة والتربية والغذاء فتنتج ملكه حقيقية. أما عند عدم وجود بيض ملقح فتتطوع شغالة أو أكثر لوضع البيض ويكون غير ملقح طبعاً فتنتج ذكوراً فقط فتسير الخلية إلى الخراب. وتسمى مثل هذه الشغالة بالأم الكاذبة. ولا تستطيع الأم الكاذبة وضع البيض في صفوف متتالية وعيون متعاقبة كما هو شأن الملكة. كذلك تضع الأم الكاذبة أكثر من بيضة واحدة في كل عين؛ وقد يكون البيض على جدر هذه العيون وذلك لعدم وجود غريزة وضع البيض عند الأم الكاذبة لقصر بطنها. ونجد في مثل هذه الحالة طنيناً مستمراً بالخلية وهذا لأن الطمأنينة لا تدب في نفوس أفرادها. ويجب إسعاف مثل هذه الخلية ببرواز به بيت ملكي من خلية أخرى أو شراء ملكة جديدة ووضعها في الخلية، إلا أن ذلك يحتاج إلى مهارة ودراية

(البقية في العدد القادم)

جمال الكرداني