مجلة الرسالة/العدد 219/الكتب
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 219 الكتب [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 13 - 09 - 1937 |
الربع الخالي
تأليف الشيخ عبد الله فلبي
للأديب محمد عبد الله العمودي
المستر سنت جون فلبي، صديق العرب وخليفة لورنس، يعدُّ من أبرز شخصيات الاستشراق في العالم العربي
اتصل بالملك ابن السعود فأحبه وأخلص له، ورافق البدو في البوادي كثيراً فبهرته عظمة الصحراء فارتادها، وتقلب في كثير من أقاليمها، وتكاد آثاره تنحصر على قلب البلاد العربية حيث الملك ابن السعود وأقوامه الوهابيون.
له مؤلفات جليلة، ومجهودات جبارة، عرف فيها عالم الغرب بشعب العرب الفتى الناهض وقائدهم الأعظم
وهذه المؤلفات هي المرجع الوحيد لمن يبتغي تاريخ نجد، وحركة (الأخوان) الأخيرة، وكلها باللغة الإنجليزية منها:
(قلب جزيرة العرب) و (بلاد الوهابيين) و (تاريخ بلاد العرب) و (الربع الخالي) أخيراً. . .
وهذا السفر الذي نحن بصدده يعد بحق من أروع الأسفار وأخلد الآثار، وأدهش الأخبار، وإلا فهل يخطر ببال أحد أن هذه الصحراء العربية التي طالما تهيبها الغزاة، وارتدت عنها أنظار المستكشفين، يقتحمها المستر فلبي فيبرز لنا عالماً مجهولاً، وبقعة مسحورة؟!
هذا الربع الخالي يقع بين حضر موت ونجد، واليمن وعمان؛ وهو عبارة عن مفازة عظيمة، واسعة الأكناف، مترامية الأطراف تتناوح فيها الرياح، وتدوي بها الأعاصير؛ وللبدو فيها خرافات وأوهام يحار المرء في صحتها كقولهم بوجود قصور قائمة، وعيون جارية، ومدن مطمورة تحت الرمال! وما إلى ذلك من غريب الأخبار. . . والمؤرخ في مثل هذه الحال لا يمكنه أن يرفض كل أخبار هذه البقاع لما عُلِم من أنها كانت آهلة بالعمران والسكان في عصور واغلة في القدم. . . وما نعلم أحداً طعن في هذه الرمال وكتب عنها تقارير قيمة، وأبحاثاً لها أهميتها في عالم الكشف سوى ثلاثة من الأوربيين هم: برترام توماس، وجيزمان والمستر فلبي أخيراً. . .
وكتبهم هذه لا تتعدى المشاهدة والملاحظة التي مرت بهم في أثناء سيرهم في طريق خاص، بل في طريق مأهول. فياليت شعري ما علم المناطق المجهولة التي لم تطأها حتى أقدام البدو من أبنائها؟؟
ومهما كانت الإحاطة محدودة وضيقة بهذه البقاع فإن المستر فلبي قد نشر لنا صفحة من صفحها المطلوبة، وصورة من صورها الغامضة، وقفنا على الشيء الكثير من أسرارها وخفاياها
وأمنيته في اختراق هذه الآفاق تعود إلى سنة 1918 حتى تحقق حلمه في عهد الملك ابن السعود بعد أن أخذ عليه إقراراً كتابياً إنه غير مسؤول إذا ما لحقه سوء في الطريق؛ فأمضى المستر فلبي وتوكل على الله. وانحدر من (الهفهوف) أو (الهفوف) بإقليم الحسا في عشرين رجلاً و32 جملاً محملة بالماء والزاد والمتاع، واستغرقت رحلته أكثر من شهرين، اخترق الجنوب ثم انعطف نحو الشمال حتى بلغ (السُّليِّل) من أعمال (نجران)
ومؤلفه هذا يقع في 400 صفحة من القطع المتوسط، ومحلى بصور رائعة تمثل مناظر ذلك العالم المجهول. وقد قسم كتابه إلى ثلاثة أقسام؛ الأول يشمل صحراء (جافوره) و (جبرين) وهاتان المنطقتان تقعان جنوب الحسا فيهما عيون ونخيل، وهِجر (للأخوان) ثم تليهما إلى الجنوب منطقة (الرمال) وهي عبارة عن مفاوز ذات سطح متموج؛ ويأتي القسم الثالث وهو (الربع الخالي) ويمضي المستر فلبي ويصور لنا شبحه المخيف كما يتصوره البدو وكيف يبتلع الأرواح، ويدفن الأشباح! وبعد هذا القسم في نهاية الكتاب تأتي شذرات قيمة، وملاحظات دقيقة، لبعض العلماء الطبيعيين في المتحف البريطاني بلندن عن النيازك التي سقطت في بقاع الربع الخالي، وعن أنواع غريبة الشكل من الطيور والحيوانات والحشرات، ومن الأخيرة جمع صناديق قدمها للمتحف البريطاني. . .
والقيمة العلمية لهذا الكتاب يلمسها المرء في ثنايا السطور، فهو يرسم لنا مناظر خلابة للصحراء، والأشياء المتصلة بمظاهر البادية تصويراً طبيعياً، قريب الانتزاع، صادق النظرة، من وصف الأطلال التي مر عليها، ومراتع الوحوش التي أبرد فيها. وآفاق البادية المجلوة التي كانت من أمتع المناظر ساعة الأصيل!
وقد أفاض في حياة الأفراد والجماعات التي تعيش في ذلك العالم المجهول وأخصهم (بني مرة) و (المناصير) فعرض لحياتهم البسيطة الساذجة، ومراعيهم المتجهمة المتناثرة في عرض الصحراء، وكيف أنهم يعتمدون في قوتهم على لحوم الغزلان والوعول والأرانب التي تكثر في تلك البراري. .
وفي هذا الكتاب يكشف لنا المؤلف عن ناحية سياسية مجهولة بين حضرموت ونجد؛ فمن المجزوم به أن القبائل الحضرمية المتاخمة لحواشي الربع الخالي من الصعب عليها الاتصال والأمتيار من بلاد نجد، لوجود هذه الفلاة الفاصلة، ولكن المؤلف يميط اللثام، ويرفع الظن، ويعلمنا أن صلات القبائل الحضرمية في الشمال وأخصها الصّيْعر والعوامر والمناهيل متينة بالبلاد النجدية، ولابن السعود سلطة نوعية على هذه القبائل، فقد روي المؤلف في ص103 حادثة (سيف ابن طناف) شيخ مشايخ المناهيل في (حضرموت) وكيف فاض إلى نجد من أقصى حدود حضرموت ومعه هجين من الأصائل ليقدمه لأبن حلوي حاكم الحسا السابق دليلاً على الولاء والخضوع!
ومن عجيب ما حدثنا به المؤلف في ص116 أنه بينما كان يجوس خلال بعض الغياض يطارد الجعلان لاحظ سائلاً قرمزي اللون يسيل على لحاء إحدى الشجيرات؛ فتبينه فوجده مادة صمغية تشبه تلك المادة التي أنزلها الله في البرية على بني إسرائيل ليقتاتوا بها عند رحيلهم من مصر وهي (المن) الواردة في القرآن الكريم في قوله تعالى (وأنزلنا عليهم المن والسلوى). وقد ذهب العالم الإسرائيلي الدكتور يهودا إلى أن هذه اللفظة مصرية قديمة بمعنى (لا نعرف) وذلك أنه لما خفي أمرها على بني إسرائيل، ولم يدركوا حقيقتها وكنهها كسوها هذا اللفظ الذي معناه في المصرية ما تقدم. ويزيد هذا العالم أن هذه اللفظة لا تزال شائعة الاستعمال في اللسان العبري الدارج: فهل لأستاذنا الدكتور ولفنسون أن يتكرم بإماطة اللثام عن أصل هذه الكلمة ومصدر اشتقاقها، وشجرة المن وما ورد عنها في الآثار اليهودية؟
ويمضي المستر فلبي ويصف لنا الشيء الكثير من القصور المتهدمة، والآثار التي تشير إلى الماضي السحيق وخاصة في منطقة جبرين، كما عثر هناك على حلق مفككة، وخرز مبعثر هنا وهناك، وشظايا خزف، وجرار مدفونة في الرمال!
ويعجبنا من المؤلف أنه كان أثناء الرحلة حركة فعالة، فقلما ترك فرصة إلا وشغلها في البحث والتنقيب، خلال الأشجار وثنايا المخارم، وادعاص الرمل؛ وكان في سيره لا يساير القافلة بل كان في اتجاه آخر يتعثر بين أنجاد الفلاة وأغوارها، عله يقع على جديد، أو يتوصل إلى شيء غريب، وقد كان له ما أراد فقد وضح لنا أن منابت الربع الخالي لا تنبت إلا العبل والعندب والعلقة والبركان والمرخ والحمض والغضا والحرمل والسمر والسرح، وهذه النباتات يقتات بها حيوان ذلك الإقليم وتساعف الجمال في رحلاتها الطويلة الشاقة. ومن أدهش ما حدثنا به المؤلف أنه توجد في تلك الصحارى الغبراء مروج مخضلة ومناضر ساحرة، لمسارح الإبل، ومراعي الشاء!
ولعل الظاهرة الطبيعية في ذلك البلقع من الأرض، هي الرياح فقد كانت شديدة الدوي، قوية الأعتكار، ومع هذا فلها موسيقى عذبة، ولحن مطرب، ترنحت لها أعطاف الشيخ عبد الله وخال نفسه في الـ وذلك عندما اعتلى قوزاً من الأقواز، وكانت الرياح تصفر حواليه، وهناك استرعى انتباهه لحن عذب، ظنه لأول وهلة صادراً عن أحد رفاقه، ولكن تبين له أخيراً أنها أغان مبعثها الرمل وقد استكتب المؤلف أحد العلماء الطبيعيين عن أسبابها في فصل أدرجه في خاتمة الكتاب
وهذه الرياح الهوج كانت من أكثر الصعاب في عرقلة سير الاستكشاف ومضايقة المؤلف في أبحاثه، فهو يحدثنا في ص188 كيف ثارت الطبيعة، فعصفت الرياح، وانبعثت الأعاصير، فزعزعت المضارب وحطمتها ثم استوى عليها الرمل وما أخرجوها إلا من بطن الأرض
وهذه الظاهرة ليس للشك فيها مجال، فكثيراً ما سمعنا في حضرموت أن الرجل يقف في وسط هذا الرمل فما تمضي عليه عشر دقائق حتى يصير مغروزاً فيها؛ والحضارمة لا يسمونه إلا (البحر السافي!)
ويمضي المؤلف ويصف لنا الآبار في هذه الأصقاع، فيحدثنا أنها كثيرة جداً، وما على البدوي إلا أن ينبش الأرض على بعد بعض قوائم، فيرى الماء وقد نزا من جوفها! وحفظ هذه الآبار من سفى الرياح غريب، فيقول إن البدو يغطون أفواهها بالجلود العريضة وأغصان الشجر، وهم على اتفاق تام على رعاية هذه المصلحة العامة في جميع تطوافهم
وعندما دخل المؤلف منطقة (شنة) ص228 تراءت له منبسطات من الرمل محاطة بكثبان تكون شكل بحيرات وأخرى منها مستطيلة، أدى بحثه إلى أنها بحيرات كانت موجودة من العصر الجيولوجي الثالث، وكانت تتدفق إليها الأنهار من شتى أنحاء الربع الخالي، حاملة الطمي معها، ثم لم تلبث هذه البحيرات أن جفت وفاضت عليها أنفاس الرياح فغمرتها بكثبان الرمل!
ويظن المستر فلبي أن بلدة (شنة) لا تبعد عن البقعة التي كان وادي الدواسر يصب مياهه فيها في الأعصار القديمة؛ ويعزز رأيه بأن حفافي تلك البحار لا تزال محسوسة حتى هذه الساعة في الأجراف التي تعود إلى العصر الميوسيني في طرقات (جيبان) وأفاض المؤلف في هذه الظاهرة الجيولوجية العجيبة التي خرجنا منها بأن بقاع الربع الخالي كانت آهلة في عصور سحيقة بالسكان والعمار، وكانت حضرموت وظفار وجبال القرا، بل الشاطئ الجنوبي من الجزيرة العربية مغموراً بالمياه؛ وكانت وديان الدواسر وتثلث وحبونة وسحبة وبيشة أنهاراً تصب مياهها في رحاب الربع الخالي؛ فلما جفت هذه الأنهار، وأضحت ودياناً كما هي اليوم أنحسر الماء عنها فخلت تلك البقاع فلم يبق فيها إلا هذه الآثار من الأصداف وأحجار البحر، وفضلات الزجاج، والصخور الغريبة التي شاهدها المؤلف وشحن منها صناديق. وقال عن وادي الدواسر إنه أعظم الأنهار القديمة ينحدر من جبال عسير واليمن فيمر على (دام) و (السُّليِّل) فيلقي بنفسه في أحضان الربع الخالي!
وهذه النظرية المحيرة لم يقل بها المستر فلبي وحده، بل فطن لها كثير من علماء الجيولوجيا كملطبرون والعالم الإيطالي كاتاني داتيانو، إذ يعتقدون استناداً إلى الأدلة الجيولوجية أن الجزء الجنوبي من بلاد العرب كان في يوم ما مزدهراً بحضارة عظيمة تعود إلى ما قبل التاريخ، أيام كانت هذه البقاع تأهل بأقدام أمم الأرض وأشدها قوة من بني عاد. . .
وهذا السفر الجليل الذي خدم فيه المؤلف العرب لم يسلم من بعض الهنات، من ذلك ما جاء في ص77 عند الكلام على قبيلة (المناصير) فقال، استناداً إلى ضعف رواية، إنها قبيلة كانت تدين بالمسيحية واسمها يدل عليها!
وفي ص78 تكلم عن أجود أنواع الإبل، فقال إنها الإبل التي تنتمي إلى قبيلة (آل بوشامس) من قبائل عمان، وهذه القبيلة لا تعد من المسلمين! بل تنتمي إلى المذهب الأباضي، ولهم صلاة عجيبة!
وهذه شطحة من (أخينا الشيخ عبد الله)، فالأباضية فرقة من فرق الإسلام!
وفي بقاع الربع الخالي يوجد حيوان من نوع الماعز يسميه الأهالي (الوضَيْحي) وقد أطلق المؤلف عليه اللفظ الإفرنجي وهذه اللفظة لا تعني إلا (الوعل) وهو يختلف عن (الوضيحي) في انتصاب قامته، وتقوس قرنيه مع انتظام عقد عليهما، وهذا الحيوان يوجد بكثرة في جبال حضرموت، أما الوضيحي فيظهر أن أسمه العلمي
وفي الكتاب نبدة عن رملة (وبار) الشهيرة إذا ساعفتنا الظروف نقلنا منها شيئاً لقراء الرسالة
وأخيراً، لا يسعنا إلا أن نهتف هتاف المعجبين بهذا المجهود الذي بذله المستر فلبي فقدم للعرب خدمة تذكر له أبد الدهر
محمد عبد اله العمودي
بدار العلوم