مجلة الرسالة/العدد 218/للأدب والتاريخ
→ من تاريخ الأدب المصري | مجلة الرسالة - العدد 218 للأدب والتاريخ [[مؤلف:|]] |
الفلسفة الشرقية ← |
بتاريخ: 06 - 09 - 1937 |
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
ملكة الإنشاء
بلغ الرافعي الشاعر مبلغه بعد سنة 1905، ونزل منزله بين شعراء العصر، وجرت ريحه رُخاءً إلى الهدف المؤمل، فامتد نظره إلى جديد. . . .
وأخذ الرافعي يروض قلمه على الإنشاء، لعله يبلغ فيه مبلغه في الشعر، فأنشأ بضع مقالات مصنوعة فتنتْه وملكتْ إعجابه فتهيأ لأن يصدر كتاباً مدرسياً في الإنشاء، سماه (ملكة الإنشاء) يكون نموذجاً للمتأدبين وطلاب المدارس يحتذون فنَّه وينسجون على منواله، ووعد قراءه أن ينتظروه في غلاف الجزء الثاني من ديوانه؛ وأحسبه كان جاداً فيما وعد، لولا أمور نشأت من بعد وصرفته عن وجهه، فظل الوعد قائماُ بينه وبين قرائه حتى نسيه ونسوه.
ولا أحسب أن شيئاً ذا بال قد فات قراء الرافعي بعدم نشر هذا الكتاب؛ وحسْب الأدباء والباحثين في التاريخ الأدبي أن يقرءوا من هذا الكتاب الذي لم ينشر مقالات ثلاثاً نشرها الرافعي في الجزءين الثاني والثالث من ديوانه، وفي الجزء الأول من ديوان النظرات؛ إعلاناً ونموذجاً لكتابه؛ فإن في هذه المقالات الثلاث كل الغَناء للباحث، تدله على أول مذهب الرافعي في الأدب الإنشائي، وطريقته ونهجه
الجامعة المصرية
قلت: إن الرافعي كان جاداً فيما وعد بإصدار كتابه (ملكة الإنشاء) لولا أمور نشأت من بعد وصرفتْه عن وجهه؛ فهذا كان يوم إنشاء الجامعة المصرية في سنة 1907، وكان أمرها هو ما يشغله.
كان قد مضى على الرافعي يومئذ عشر سنين في مدرسته التي أنشأها لنفسه، وكان فيها المعلمَ والتلميذ، يدرس ويطالع ويتعلّم، لا يرى أنه انتهى من العلم إلى غاية؛ وما كان يدرس ليكون عالماً في الأدب، أو راوياً في التاريخ، أو أستاذاً في فرع من فروع المعروفة؛ إنما كان يدرس ليتزوّد للشعر زادَه، وليبلغ من العلم مبلغاً يعينه على أن يقول وينشئ. فلما أنشئت الجامعة المصرية، تطلع إلى ما يقال هناك في دروس الأدب، لعله يجد فيه الجديد الذي يتشوّف إليه ويطلبه؛ فماذا وجد هناك؟
لقد مضى على إنشاء الجامعة سنتان وما استحدثت شيئاً في الأدب يفتقر إليه الرافعي، وما تحدث أساتذتها حديثاً في الأدب لا يعرفه الرافعي. ماذا؟ أهذا كل ما هناك؟ وأيقن الرافعي من يومئذ أنه شيء، فلبث يتربص. . .
وطال انتظار الرافعي وما استطاعت الجامعة أن تثبت له أن فيها دروساً للأدب، وما استطاع الرافعي أن يقنع نفسه بأن في الجامعة أساتذة يدرسون الأدب، فكتب مقالاً في (الجريدة) يحمل على الجامعة، وعلى أساتذة الجامعة، وعلى منج الأدب في الجامعة. ورنّ المقال رنينه وأحدث أثره، فاجتمعت اللجنة الفنية للجامعة، ونشرت دعوة على الأدباء إلى تأليف كتاب في (أدبيات اللغة العربية) جعلت جائزة الفائز فيه مائة جنيه، وضربت أجلاً لتقديمه إليها سبعة أشهر.
وقرأ الرافعي دعوة الجامعة، فما رضى ولا هدأت نفسه؛ لقد كان أمله يومئذ أكبر من ذاك؛ إن مائة جنيه شيء مغْرٍ لمثل الرافعي الأديب الناشيء، الموظف الصغير، الزوج العائل، أبي وهيبة وسامي ومحمد؛ ولكن. . . ولكنه يطمع في أكثر من مائة جنيه، يطمع في أن يكون هو أستاذ الأدب بالجامعة. (إنهم على الأغلب سيعهدون بتدريس الكتاب لغير مؤلفه، فيكون الحاضر لديهم كالغائب عنهم، ولا فضل لدارهم إلا أنها مصدر التلقين؛ فإذا طبع الكتاب صارت كل مكتبة في حكم الجامعة، لأن العلم هو الكتاب لا الذي يلقيه، وإلا فما بالهم لا يعهدون بالتأليف لمن سيعهدون إليه بالتدريس؟ وهل يقتصرون على أن يكون من كفاية الأستاذ القدرة على إلقاء درسه دون القدرة على استنباط الدرس واستجماع مادته حتى لا يزيد على أن يكون هو بين تلامذته التلميذ الأكبر. . .؟
لِمَ تنفض إدارة الجامعة يدها من قوم هم رؤساء الصناعة، وظهور مناصبها العالية، وألسنة الحكم فيها؛ ثم تلتمس من ضعف الأفراد ما لم تؤمله في قوة الجماعة وهي تعلم أن الحمل الذي تتوزعه الأكف يهون على الرقاب؟) وما سبعة أشهر لمن يريد أن يؤلف في تاريخ آداب العرب؟ إنه لفن لم يتناوله أحد من قبل، وإن مراجع البحث لكثيرة وإن من وراء ذلك جهداً لا يطيقه إنسان.
وكتب الرافعي مقاله الثاني في (الجريدة) ينعت الجامعة ولجنة الجامعة، ويتأبى على الدعوة التي دعت، ويقرر أن الذين دعوا الدعوة إلى وضع الكتاب وجعلوا لذلك العمل إلى فِصاله سبعة أشهر، إنما مست بهم الحاجة إلى كتاب وأعوزهم مؤلفه فالتمسوه بتلك الدعوة يفتشون عنه في ضوء الجائزة. . . . ومضى الرافعي يتجنى ويتدلل، وعادت الجامعة تفكر في الأمر.
وأعادت نشر المسابقة لتأليف الكتاب، وزادت المدة إلى سنتين، والجائزة إلى مائتين، وتعهدت بطبع الكتاب المختار.
ووجد الرافعي ما يشغله، فعاد إلى نفسه، وأغلق دار كتبه عليه. . .
تاريخ آداب العرب
إن كثيراً من الأدباء لا يرضيهم أن يعترفوا للرافعي بيد على العربية أو يروا له صنيعاً في الأدب يستحق الخلود، إلا حين يذكرون كتابه (تاريخ آداب العرب)، وإنه لكتاب حقيق بأن يذكر فيذيع فضل الرافعي على الأدب والأدباء.
أنقطع الرافعي لتأليف كتابه من منتصف سنة 1909، إلى آخر سنة 1910، وفي سنة 1911 أتم طبع الكتاب على نفقته قبل أن يحل الأجل الذي عينته الجامعة.
لم يكن الرافعي طامعاً في جائزة الجامعة. ولذلك لم يتقدم إليها به قبل طبعه، ترفعا عن قبول الحكم فيه لجماعة ليس منهم من هو أبصرُ منه بالمحكوم فيه.
كان أسبق المؤلفات ظهوراً إلى دعوة الجامعة، الجزء الأول من كتاب العلامة جورج زيدان، ثم الجزء الأول من تاريخ آداب العرب. (سبقه ذاك بشهر أو شهرين سبقاً مطبعياً)
وكانت مقالات الرافعي في (الجريدة)، وكتابه (تاريخ آداب العرب) من بعد، هما السبب في تدريس الآداب العربية وتاريخها في الجامعة المصرية، وهما السبب كذلك في وضع ما وضع من الكتب في هذا العلم.
وأعان الرافعي على جمع ما جمع من وسائل البحث لكتابه مكتبات ثلاث كلها حافل بالنادر من كتب العربية، مطبوعها ومخطوطها، هي: مكتبة الرافعي، ومكتبة الجامع الأحمدي، ومكتبة القصبي بطنطا.
وكان من وسائل تشجيعه على إتمامه وطبعه، ما أعانه به مدير الغربية الأديب المرحوم محمد محب باشا من معونات أدبية ومادية. . .
ليس من همي هنا أن أتحدث عن القيمة الأدبية لكتاب الرافعي تاريخ آداب العرب؛ فقد فرغ الأدباء من الحكم عليه، وما منهم إلا له فيه رأي محمود وثناء مستطاب؛ وما ناله أحد بنقد إلا الأديب طه حسين الطالب بالجامعة المصرية، إذ يقول في مقال نشرته له (الجريدة) سنة 1912: (. . . هذا الكتاب الذي نشهد الله على أننا لم نفهمه. . .) لكنه عاد فصحح رأيه فيه سنة 1926، فأعترف بأنه لم يعجبه أحد ممن ألفوا في الأدب إلا الأستاذ مصطفى صادق الرافعي (فهو قد فطن لما يمكن أن يكون من تأثير القصص في انتحال الشعر وإضافته إلى القدماء، كما فطن لأشياء أخرى قيمة وأحاط بها إحاطة حسنة في الجزء الأول من كتابه تاريخ آداب العرب. . . .)
نال الرافعي بكتابه هذا مكاناً سامياً بين أدباء عصره، وشغل به العلماء وقتاً غير قليل، وحسبك به من كتاب أن يقضي الأستاذ الكبير أحمد لطفي السيد بك (باشا) أسبوعاً يخطب عنه في مجالس العاصمة ويكتب عنه مقالاً ضافياً في الجريدة جاء فيه: (قرأنا هذا الجزء؛ فأما نحوه فعليه طابع الباكورة في بابه، يدل على أن المؤلف قد ملك موضوعه ملكاً تاماً وأخذ بعد ذلك يتصرف فيه تصرفاً حسناً؛ وليس من السهل أن تجتمع له الأغراض التي بسطها في هذا الجزء إلا بعد درس طويل وتعب ممل. . . وأما أسلوب الرافعي في كتابته فأنه سليم من الشوائب الأعجمية التي تقع لنا في كتاباتنا نحن العرب المتأخرين، فكأني وأنا أقرؤه أقرأ من قلم المبرد في استعماله المساواة وإلباس المعاني ألفاظاً سابغة مفصلة عليها، لا طويلة تتعثر فيها ولا قصيرة عن مداها تودي بعض أجزائها. . .)
وكتب عنه الأمير شكيب أرسلان - وهو أشهر كتاب العربية في ذلك الوقت - مقالة في صدر المؤيد جاء فيها: (لو كان هذا الكتاب في بيت حرام إخراجه للناس منه، لكان جديراً بأن يُحَجَّ إليه؛ ولو عكِف على غير كتاب الله في نواشيء الأسحار، لكان جديراً بأن يعكف عليه. . .)
وقال عنه المقتطف: (إنه كتاب السنة. .) وما كتب المقتطف مثل هذه الكلمة من قبل ومن بعد لغير هذا الكتاب.
وأسلوب الرافعي في هذا الكتاب أسلوب العالم الأديب، يجد فيه كل طالب طلبته من العلم والأدب والبيان الرفيع. وكان الرافعي يومئذ قد أتم الثلاثين. . .!
في السنة التالية، أصدر الرافعي الجزء الثاني من تاريخ آداب العرب، وموضوعه أعجازُ القرآن، والبلاغةُ النبوية؛ وهو الذي أصدره من بعد في طبعته الثانية باسم (أعجاز القرآن)، وباسمه الثاني يعرفه قراء العربية، وقد طبعه على نفقته المرحوم الملك فؤاد رحمه الله. وفي مكتبة الرافعي الآن أصولُ الجزء الثالث من تاريخ آداب العرب، ومعها تعليقات كان المرحوم الرافعي ينوي إضافتها إلى الجزء الأول في طبعته الثانية فعاجلته المنية؛ فهل للعربية في هذا البلد أوفياء مخلصون يعرفون للرافعي منزلته ولكُتًبه مكانها فيطبعوا هذه الأجزاء الثلاثة وينشروها على الناس؟ وهل يسمعني معالي وزير المعارف وهو القائم على شئون العلم في هذا البلد، وهو هو الذي كان يعرف الرافعي صديقاً وجاراً مواطناً فوق معرفته إياه أديباً وعالماً وشاعراً كان في الأدباء والعلماء والشعراء خير داعية لمصر الزعيمة بين الناطقين بالضاد. . .؟
لقد قلُتها مرة، فهل أظلّ حياتي كلها أهتف بهذه الأمة التي لا تعرف الجميل فلا تجيب. . .!
أيها الناس! لقد أوشكت أن أومن بأن الرافعي مات. . .!
حاشية: قلت: إن من المكتبات التي استعان بها الرافعي في تأليف كتابه، مكتبة القصبي بطنطا، وهي المكتبة التي أنشأها وجمعها المرحومان الحسيبان الشيخ إمام القصبي وولده الشيخ محمد القصبي شيخا الجامع الأحمدي قبل المرحوم الشيخ الظواهري الكبير
وقد حدثني عنها أبي، كما حدثني عنها المرحوم الرافعي، أنها مكتبة حافلة، مشحونة بفرائد العلوم والفنون، زاخرة بنوادر المخطوطات والمطبوعات من كتب الدين والعربية؛ وهي الآن محبوسة في حجرة رطبة لا ينفذ إليها الهواء من حجرات زاوية القصبي بطنطا، لم يفتح بابها منذ ربع قرن أو يزيد لعدم عناية القائمين عليها وجهلهم بقدرها، فإذا لم يكن السوس قد أتى عليها فإن هناك فرصة لا تزال لإنقاذ ما يمكن إنقاذه منها، وحسْب العربية ما لقيت من أهلها في عصور الجهل والانحطاط يا أولي الألباب. . .!؟ (شبرا)
محمد سعيد العريان