مجلة الرسالة/العدد 218/المحاكمات التاريخية الكبرى
→ مصير الحضارة | مجلة الرسالة - العدد 218 المحاكمات التاريخية الكبرى [[مؤلف:|]] |
خذ الحق واترك الباطل ← |
بتاريخ: 06 - 09 - 1937 |
3 - الحركة النهلستية
ومصرع القيصر اسكندر الثاني
صفحة رائعة من صحف الثورة على الطغيان
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تلك هي الوثيقة التاريخية المؤثرة التي وجهتها اللجنة التنفيذية إلى القيصر الجديد؛ ولكنها لم تحدث أثراً. ولم تكن الدوائر القيصرية تفكر في النزول عند نذير المرهبين ولما يجف دم الجريمة الرنانة التي كانت في الواقع ذروة الإرهاب السياسي؛ ومن ثم فقد ردت القيصرية بمضاعفة إجراءات القمع والإمعان في مطاردة المرهبين والثوريين، وقبض خلال شهر مارس في بطرسبرج على عشرات منهم، ولكن لم يقدم في النهاية إلى المحاكمة القضائية سوى ستة هم أندري جليابوف وصوفيا بيروفسكايا ونيكولا كالبالتشش وجسيا هلفمان وتيموتي ميخايلوف ونيكولا ريساكوف وبدات المحاكمة في 26 مارس سنة 1881 أمام محكمة عليا ألفت من ستة من الشيوخ وعضوين يمثلان النبلاء هما الكونت بوبرنسكي والبارون كورف، وممثل للتجار، وممثل للفلاحين، وعمدة موسكو، وممثل لبطرسبرج؛ وتولى الرياسة الشيخ فوكس، وتولى إجراءات الاتهام النائب مورافييف الذي غدا فيما بعد وزيراً للعدل.
وكان أهم المتهمين في تلك القضية الشهيرة هما بلا ريب جليابوف وصوفيا بيروفسكايا عضوا اللجنة التنفيذية لحزب إرادة الشعب وهما في الواقع مدبرا الجريمة ورأسا الحركة الإرهابية يومئذ؛ وكان جليابوف من أقطاب حزب إرادة الشعب وأعظمهم نفوذاً وكان يومئذ فتى في الثلاثين من عمره؛ وكان مولده في أسرة من الأرقاء، ولكن الرقيق حرر وهو طفل فتفتحت أمامه آفاق جديدة، وتلقى تربية حسنة، وتخرج في مدرسة الحقوق في أودسا وشغف منذ حداثته بالأدب الثوري والنظريات الاشتراكية والتحريرية، ولم يلبث أن لفت أنظار السلطات، وأعتبر في سلك المحرضين الخطرين ونفي في أودسا. فذهب إلى كييف وهنالك أتصل بأسرة غنية كان يعطي لولدها درساً وتزوج من أبنتها (أولجا) وعاش حيناً في هدوء وعزلة، ولكنه لبث مع ذلك متصلاً بالأوساط الثورية، ولما اضطرمت الحركة الثورية في سنة 1874 ونزل إلى ميدانها ألوف من الفتية والفتيات الذين ألهبت عقولهم وأراحهم النظريات التحريرية الحديثة، نظمت القيصرية من جانبها حملة القمع الذريع وقبض على ألوف من الدعاة والمحرضين وعقدت المحاكمات الرنانة تباعاً؛ وكان منها المحاكمة الشهيرة التي عقدت في بطرسبرج سنة 1877 وقدم فيها إلى المحكمة 193 متهماً بينهم جليابوف وبيروفسكايا، ولكن جليابوف بريء؛ وما كان يغادر سجنه حتى أجتمع مع أقطاب زملائه وأسسو حزب (إرادة الشعب) وقرر الحزب أن يلجأ إلى سلاح الإرهاب السياسي. وفي أغسطس سنة 1879 قررت اللجنة التنفيذية إعدام القيصر أسكندر الثاني حسبما قدمنا؛ ودبرت لذلك عدة محاولات متوالية ولكنها أخفقت. وكان جليابوف رأس اللجنة المدبر وكان يوجه الحزب بنفوذه القوي إلى ميدان النضال العنيف وكان شجاعاً لسناً قوي العزم والإرادة لا يحجم عن شيء. وكان وقت المحاكمة كما قدمنا فتى في الثلاثين من عمره، مديد القامة، قوي البنية. وسيم الطلعة، حلو الحديث، يميل إلى الدعابة ويتدفق حين الجدل فصاحة وبياناً.
وكانت صوفيا بيروفسكايا تنتمي إلى أسرة عريقة شغل كثير من أعضائها مراكز كبيرة في الدولة؛ وكان والدها حاكماً لمقاطعة سنت بيترسبرج، ولكنها آثرت منذ حداثتها حياة الحرية والمغامرة، فغادرت منزل الأسرة إلى العاصمة وتلقت تربيتها في إحدى مدارس المعلمات، ثم عينت بعد ذلك معلمة في إحدى مدارس الأقاليم؛ ولكنها لم تنجح إلى السكينة والعزلة بل اتصلت بالحركة الثورية، وقبض عليها لأول مرة بتهمة التحريض وهي دون العشرين. ولما أفرج عنها اشتغلت مدى حين ممرضة في أحد المستشفيات ثم قبض عليها مرة أخرى في قضية بطرسبرج الكبرى مع جليابوف وزملائه فبرئت، ولكنها نفيت إلى إحدى المقاطعات الشمالية. بيد أنها تمكنت من الفرار وعادت إلى العاصمة حيث التحقت عضواً بحزب (إرادة الشعب). وكانت حينما قبض عليها في مارس سنة 1881 في السابعة والعشرين من عمرها ولكنها كانت تبدو بنظراتها الساحرة وعينيها الخضراوين ومحياها الوسيم أصغر بكثير من عمرها. وكانت صوفيا تحب جليابوف حباً جماً وتترسم خطاه ومغامراته بعزم مدهش؛ وان هذا حبها الأول والأخير. وكان جليابوف يبادلها هذا الحب المضطرم وكانا يعيشان معاً في أفق ساحر من الجوى والمثل الثورية.
أما عن باقي المتهمين فكان كالبلتشش مهندساً في نحو الثلاثين من عمره؛ وكان ميخايلوف عاملاً فتى من عمال المعادن؛ وكانت جسيا هلفمان فتاة من أسرة متوسطة تخرجت في مدرسة القابلات ولم تكن حسناء ولكنها كانت مخلصة مطبوعة، وكانت تعمل في مطبعة اللجنة السرية وتدير المنزل الذي يجتمع فيه الأعضاء.
بقي ريساكوف، وقد كان فتى حدثاً في التاسعة عشرة ينتمي إلى أصل متواضع؛ وكان وقت القبض عليه طالباً بمدرسة المناجم يعني ببث المبادئ الثورية بين العمال؛ وكان أهم متهم في القضية بعد جليابوف وصوفيا بل كان مفتاح القضية في الواقع ذاته أنه قبض عليه متلبساً بجريمته على أثر إلقائه القنبلة الأولى على موكب القيصر، وقد رأى فيه النائب المحقق دبرجنسكي منذ الساعة الأولى فريسة سهلة، فمال عليه بالإغراء والألفاظ المعسولة واستطاع أن يحمله على الاعتراف بكثير من الوقائع والمعلومات الهامة المتعلقة بالجريمة وحزب إرادة الشعب، وكان ريساكوف فتى هائم الذهن، مضطرب الأعصاب، فكان تارة يدون اعترافاته للمحقق وتارة يحاول تأييد مسلكه؛ وقد نشرت أقواله فيما بعد في كتيب صغير ضمن ما نشر من وثائق هذا العهد، وهي أقوال روح فتى هائم يتخبط بين الرغبة في التمسك بمبادئه ومثله، وبين الروع الذي يثيره فيه شبح الموت، ويقص ريساكوف في مذكراته كيف كانت مشاعره الحساسة التي شحذتها طفولة بائسة تتأثر أيما تأثر بما يراه بين الفلاحين والعمال من مناظر البؤس المطبق، وكيف ترك لقاءه الأول لجليابوف في نفسه أعظم أثر، وكيف أذكي لجليابوف في نفسه عاطفة الكفاح، فأنضم إلى جماعة المرهبين، وأرتكب جريمته على أنها عمل مجيد.
- 4 -
ودام التحقيق زهاء ثلاثة أسابيع، وفي يوم 26 مارس سنة 1881 بدأت المحاكمة الشهيرة أمام المحكمة العليا التي ألفت كما قدمنا من ستة من الشيوخ وعضوين من النبلاء وعضو عن التجار وعضو عن الفلاحين اختارتهم المحكمة وعمدة موسكو؛ وتولى رآستها الشيخ (السناتور) فوكس وتولى مهمة الاتهام النائب مورافييف؛ وأعترف جميع المتهمين بانتمائهم إلى حزب إرادة الشعب واشتراكهم في تدبير المؤامرة وتنفيذها، ما عدا جسيا فأنها أنكرت قيامها بأي عمل إيجابي، وميخايلوف فأنه أعترف بانتمائه إلى فرقة المرهبين ولكنه أنكر اشتراكه في تنفيذ الجريمة.
وكان اعتراف جليابوف بالأخص رناناً مؤثراً؛ فذكر أنه عضو في اللجنة التنفيذية وأنه أنضم إلى الحزب نزولاً على إيمانه وعقيدته، وأنه وهب حياته منذ أعوام لخدمة قضية الحرية. ثم قص في بلاغه وقوة على المحكمة تاريخ أعمال اللجنة التنفيذية وما دبرته من مختلف المشاريع لإزهاق القيصر، وأعترف بأنه هو الذي دبر مؤامرة أول مارس، وأنه هو الذي أختار المنفذين لها من بين المتطوعين الفدائيين، ولكنه حاول جهده أن يبرئ ميخايلوف من تهمة الاشتراك.
وسمعت المحكمة عدة شهود من الشرطة وحجاب المنازل التي كان يتردد عليها المتهمون وعدداً كبيراً من الضباط والمخبرين الذين شهدوا مصرع القيصر، وبعض زملاء ريساكوف وأساتذته، فنوهوا جميعاً بذكائه ورقة خلاله، وسمعت تقارير الخبراء عن خواص القنابل والمفرقعات التي استعملت في الجريمة ووقفت المحكمة بذلك على كثير من تفاصيل الحادث وسير الحركة الثورية.
وألقى النائب مورافييف ممثل الاتهام مرافعة قوية عنيفة، فقدم المتهمين في صورة مجرمين من أروع طراز، وأبالسة من البشر ظمئين إلى الدم، وحمل على الحركة الثورية وعلى مثلها ودعاتها بشدة، وقال إن هؤلاء القتلة لا محل لهم بين مخلوقات الله وإنهم من عناصر الهدم والفوضى يُعَبدون طريقهم بالقتل، وإن الوطن الروسي الذي خضبوه بدم القيصر الثمين قد عانى كثيراً من أعمالهم، فعلى روسيا أن تصدر حكمها عليهم في شخص هذه المحكمة وليكن مصرع أعظم الملوك خاتمة حياتهم الإجرامية.
ثم جاء دور الدفاع؛ وكان الدفاع مهمة شاقة أمام هذا القضاء المسير وهذه المحكمة التي عقدت لأداء مهمة معينة. وكان شاقاً بالأخص أمام اعتراف المتهمين الشامل؛ ولم يكن للبواعث المعنوية والمثل العليا اعتبار في هذا الجو الخانق. ومع ذلك فقد قام الدفاع بمهمته التقليدية، فتولى الأستاذ أونوفسكي الدفاع عن ريساكوف وصور للمحكمة عقلية المتهم الفتية الساذجة ورجا المحكمة أن تراعي في تقديرها لجرمه حداثة سنه واضطراب أعصابه. ودافع الأستاذ خارتولاري عن ميخايلوف ففند أدلة اتهامه، وبين أنها فيما عدا أقوال ريساكوف لا تنهض دليلاً على اشتراكه. وأن ريساكوف لم يكن متزناً ولا متفقاً في أقواله. ودافع الأستاذ جركي عن جسيا هلفمان وبين أنها لم تقم قط بأي دور إيجابي في هذه المحاولات الإجرامية، وأن كل ما قامت به هو أنها كانت تؤجر المكان الذي أعتاد المهتمون أن يعقدوا فيه اجتماعاتهم. ودافع الأستاذ حيراردي عن كبالتشش وشرح للمحكمة العوامل والظروف القاسية التي دفعته إلى سبيل الإجرام.
وتولى الأستاذ كدرين الدفاع عن صوفيا بيروفسكايا؛ وكانت مهمة فادحة لا تبعث إلى شيء من الأمل، فقد لبثت صوفيا حتى آخر لحظة متمسكة بأعترافاتها، وأضطر الأستاذ كدرين أن يلجأ في دفاعه إلى ضروب من البلاغة المؤثرة؛ فصور صوفيا فتاة وديعة هادئة تجيش بأعظم حب لوطنها، وتعتقد بإيمان راسخ أن المثل الثورية هي سبيله الوحيد إلى الخلاص والمجد؛ وأستعرض نشأتها النبيلة، وحياتها المضطربة، ومثلها العليا؛ وبين أنها لم تنزلق إلى الجريمة إلا مدفوعة بحبها للوطن.
أما جليابوف فقد آثر أن يتولى بنفسه الدفاع عن نفسه. وكان دفاعاً رناناً تردد صداه خارج روسيا، ووصفه مكاتب (التيمس) في بطرسبرج بأنه أعظم ظاهرة في القضية. وكان جليابوف يتدفق منطقاً وبياناً؛ وكانت أقواله محاضرة فلسفية وسياسية مؤثرة، وأستهل جليابوف دفاعه بقوله: إن المبادئ بالنسبة لأولى المبادئ أثمن لديهم من الحياة، وفند مطاعن النائب العام في مبادئ حزب إرادة الشعب، وبسط مثل الحركة الثورية وغاياتها. ثم عطف على المسائل العنيفة التي تلجأ إليها الحركة الثورية، فذكر أنها ليست إلا مهمة من المهام العديدة التي يتطلبها تطور روسيا، وأنه يحب لكي تفهم غايات الحزب ووسائله أن يدرس ماضي هذا الحزب، وهو ماض قصير ولكنه حافل بالتجارب. وسترى المحكمة متى استعرضت كتاب حياته المفتوح أن أصدقاء الشعب الروسي لن يعمدوا دائماً إلى إلقاء القنابل، وإننا قد عرفنا خلال نشاطنا أحلام الشباب الوردية. وإنه ليس خطأنا أن يكون هذا العهد قد انقضى.
(وإن حياتنا القصيرة التي قضيناها بين الشعب قد كشفت لنا عن حقيقة آرائه وآماله، وعرفنا من جهة أخرى أن هنالك ضمير الشعب كثيراً من العناصر التي يجب تأييدها. وقد عولنا على أن نعمل باسم المصالح التي أخذ الشعب يشعر بها؛ وليس باسم النظريات الخالصة. وقد رأينا سبيلنا العملية إلى ذلك أن ندبر مؤامرة لأحداث انقلاب حكومي؛ ونظمنا لذلك القوى الثورية أتم تنظيم. وقد كانت مهمتي الشخصية ومقصد حياتي أن أخدم الصالح العام. وعملت لذلك طويلاً بالوسائل السلمية ولكني أيقنت في النهاية أن الالتجاء إلى العنف أمر محتوم).
(للبحث بقية - النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان