مجلة الرسالة/العدد 218/الظاهرة الهامة وتأويلها
→ من تاريخ الأدب المصري | مجلة الرسالة - العدد 218 الظاهرة الهامة وتأويلها [[مؤلف:|]] |
فردريك نيتشه ← |
بتاريخ: 06 - 09 - 1937 |
للأستاذ محمد أديب العامري
من الناس من يموت فجأة، فهذا يقف قلبه عن النبض لتوقف الأعصاب التي تحركه، فلا يصل الدم إلى أجزاء ألجسم، فتهبط الحرارة ويقف الغذاء ويسكن الجسم، ثم ينحل من بعد. وهؤلاء لا يعانون دور النزع الذي يسبق انقطاع المرء عن الحياة؛ ومن ثم لا يصاحبهم بالطبع هذيان النزع الأخير،
ومن الناس من يموت متدرجاً ببطء شديد؛ فإذا تقدم في السن إلى حد بعيد تصلبت أوعيته الدموية، وتيبست عضلاته، وتعب جهازه العصبي، وأضاع كثيراً من رشده. ومن المعتاد في مثل هؤلاء أن يفقدوا شيئاً من قواهم الشعورية التفكيرية قبل موتهم بأشهر، بل بسنين؛ فيصرحون بأشياء لا يصرح بها الإنسان السوي عادة، ويتحدثون أحاديث تحمل الناس على اعتبارهم مجانين، أو أشباه مجانين.
ولكن أكثر الناس يموتون في فترة، لا هي قصيرة كالفجائية، ولا هي زائدة الطول كما هو الحال في (الموت التدريجي). فهؤلاء يقعون في المرض فيؤثر المرض على بعض أجزاء أجسامهم؛ وهم أثناء ذلك يحتفظون بقواهم العقلية من شعور ووعي وتفكير؛ فإذا أستفحل المرض أثر على الجهاز العصبي فعطل قوته الواعية (الشعور) وتحكم في المريض جزء آخر من قواه العقلية، وهذا الجزء هو المسئول فيما أعتقد عما يظهر على المريض من هذيان.
وقبل أن نتوسع في شرح ما يقع للمريض في هذه الحالة وحالة (الموت التدريجي) أحب أن أتعرض قليلاً لعمليات العقل الإنساني، ففي هذه العمليات التأويل المرجح لظاهرة الهذيان التي تسبق الموت.
عقل الإنسان هو عبارة عن قواه المدركة التي يسميها علماء النفس (الشعور) مضافاً إليها قواه الفكرية الأخرى التي يسمى بعضها (شبه الشعور) ويسمى بعضها (اللاشعور) أو (العقل الباطن). فعندما تكتب مقالة فأنت تفكر تفكيراً عنيفاً مقصوداً وموجها، وهذا العمل نوع من الأعمال الشعورية وعندما تحل مسألة رياضية أو عقلية فأن عملك هذا يعتبر من نوع الشعور كذلك. والأعمال الشعورية التي يعملها الإنسان قليلة وإن ظهر أول الأمر أن كثيرة. أما المشي فمن أعمال المرء شبه الشعورية. فإنك عندما تقصد من بيتك إلى السوق تطلق رجليك دون تفكير شعوري واع في الشوارع والمنعطفات. وآية ذلك أنك تستطيع أن تقوم بعمل عقلي شعوري أثناء المشي، وعمل اللاشعور من أعمال العقل التي نظن عادة أنه أقلها أهمية ولكنه في الواقع أكثرها إشغالاً لقوانا العقلية وأكثرها دلالة على حقيقة شخصياتنا. فأنت تكون تعمل عملاً شعورياً متعباً فلا يلبث تفكيرك أن ينصرف إلى أفكار خيالية بعيدة الوقوع. فأنت ترى نفسك وقد غنيت أو امتلكت أملاكاً عريضة، أو تزوجت من فتاة جميلة، أو حصلت على شهادة عالية وأنت لابث مكانك لم تنفض يدك من عملك. وتنصرف حالاً إلى الانتقام من خصومك أو التحبب إلى أصدقائك على نحو لا يتأتى لك حين تفكر في أساليب هذا الانتقام أو التحبب ويقع ذلك أثناء اليقظة وتسمى هذه الأفكار (أحلام النهار) فإذا ما نمت تعطل معظم التفكيرين الشعوري وشبهه وأنطلق اللاشعور يعمل عمله. فأنت في النوم طائر مرة، محارب أخرى، مسافر ثالثة. وبالجملة يقع لك ما كنت ترغب في تحقيقه فأمتنع عليك فأنشغل به اللاشعور بعد أن أعرض الشعور عن حمل المرء على تحقيقه. وأهم ما يجب أن يعرف من هذا هو أن (أحلام النهار) والأحلام العادية وعمل النفس اللاشعوري إنما يكون أهمها في رغبات الإنسان المكبوتة، وما كان يعمله لو أتيحت له الوسائل. ومن هنا ترى أن أكثر أعمال المرء في يقظته ونوعه إنما هي أعمال لا شعورية
والذي يلاحظ المريض المقبل على الموت يرى أنه ينتقل من وعيه الكامل إلى هذيانه شيئاً فشيئاً، فهو يهذي بادئ الأمر شيئاً قليلاً بينا يتخلل هذيانه تفكير واع، ثم يتمادى في الهذيان حتى يطغى الهذيان عليه، فلا يكون كلامه إلا خليطاً لا يتصل بالشعور أو شبهه بسبب. والإصغاء إلى المتوفى في هذه الحالة دراسة مهمة لشخصيته وتفكيره ومتاعبه. لأنه يفكر آنئذ بلا شعوره ويعطيك نفسه غير مغلقة ولا مصطنعة. والأرجح أن جميع ما يصدر عن المريض له تعليل على هذا الأساس، أي أن هذيانه تفكير لاشعوري.
وأحسن ما تشبه هذه الحالة بالنوم، فالنوم في الواقع شبه موت مختصر، تثور فيه رغبات المرء المكبوتة ومخزونات اللاشعور العديدة على صورة أحلام. والذين تجري أحلامهم على ألسنتهم أثناء النوم يتحدثون حديثاً يشبه الهذيان. على أن هذا الهذيان نفسه أصح دلالة كما قلت على نفسيه النائم مما يصرح به أثناء وعيه الكامل عن شعور محكم مضبوط. ولهذا يعمد المحققون إلى مثل هذه الحالات ليعرفوا منها أسراراً يقصدون إليها. وهم لذلك يلجئون إلى طرق طبية خاصة توصلهم أحياناً إلى أغراضهم.
وأصغ إلى هذيان المريض تجد أنه يحدثك عن أهم المشاكل التي كانت تعترضه في حياته. ويساعدك على تحقيق هذا معرفة بالمريض تكون قد أطلعتك على أحواله الخاصة. ومع أن هنالك ما يؤيد أن المريض إذا أقبل على الموت عرف ذلك، فأن هذا لا يدل على أن المريض يرى شيئاً من الحياة الثانية ويتحدث عنه، إلا إذا كان هو من شديدي الإيمان بهذه الحياة والعناية بها والتحدث عنها بحيث أنها تشكل في عقله قسماً من أفكاره اللاشعورية التي يتحدث عنها وهو يهذي. ونحن هنا يجب أن نلتمس التأويل الممكن لحديث بعض المحتضرين عن أناس توفوا قبل.
فما قيل من أن مختضراً (كان يتحدث إلى الموتى كما لو كانوا منه على مرأى وعلى مقربة) سهّل التأويل على أساس نظرية اللاشعور. وأما أن هنالك (حالات هتف فيها المحتضر باسم شخص مات ولم يكن المحتضر يعرف أن ذلك الشخص قد مات) فقول يحتاج بعد إلى تحقيق شديد. فالمرء قد يختزن في لا شعوره معلومات لا تكون في متناول شعوره دائماً، فهو ينكر معرفتها في حال وعيه وشعوره في حين أنها ترد على خاطره حين يتيه فكره لا شعورياً، فلا يكفي قول رجل لك عن أمر إنه لا يعرفه دلالة على عدم معرفته، إذ المرء نفسه قد يجهل أنه يعرف شيئاً مختزناً في اللاشعور.
وإذا أريد الوصول إلى قرار علمي صحيح في هذه الظاهرة فلا يجب أن تحمل أقوال المحتضر على شيء خاص حين يمكن حملها على معانٍ طبيعية عادية. فقول مريضة محتضرة عن شقيقة لها سبقتها إلى الموت دون أن تعلم (انظروا هذه هي شقيقتي إنها تقول أنها ستكون معي. لماذا لم تخبروني بذلك؟) قول لا يدل دلالة قاطعة على أن الشقيقة المحتضرة عرفت قبيل موتها عن موت أختها، كما يتضح من التآويل التي يمكن أن يؤولها هذا الكلام بصورة طبيعية، أن العمْد إلى تآويل روحية غير مستندة إلى ما يعتمد عليه العلم من وسائل الإثبات لا يزيد إيضاح هذه الظاهرة شيئاً، بل يزيدها تعقيداً
هذا - ولا ريب أن المريض يعرف قبل الموت بزمن، قصر أو طال، بأنه سيموت.
والرجل المسن الذي يرى قواه العقلية تنحط وقواه الجسدية تذهب، هو رجل يموت في الواقع، وهو يعرف أن انحطاطه هذا آيل به إلى الموت. فعندما يقع خلل في أحد أجهزة الجسم المهمة يتحقق الموت ولا سيما إذا كان عالماً بشيء من طبيعة الحياة. والإنسان المريض الذي يقبل على الموت يعلم قبيل موته في الغالب أنه سيموت، لأن الانحطاط الشديد الناتج من اختلال العمل في بعض الأجهزة كما مر لابد وأن يشعر المرء إشعاراً داخلياً بيناً بأن الخيط الذي يصله بالحياة وشيك الأنبتات، فلعل هذا هو الذي ينقله إلى التفكير اللاشعوري في الحياة الثانية وفي معارفه الذين سبقوه إليها.
(عمان)
محمد أديب العامري
مدير مدرسة عمان الثانوية