الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 217/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 217/الكتب

بتاريخ: 30 - 08 - 1937


سيرة السيد عمر مكرم

للأستاذ محمد فريد أبو حديد

بقلم الأديب توفيق الطويل

بارح الجيش الفرنسي أرض مصر بعد أن عرف الشعب مكانة ظالميه عند دفع العاديات، فرأي جيش السلطان لا يملك العودة إلى القاهرة إلا في ظلال أعوانه الإنجليز، ورأى المماليك يفرون إلى الشرق ويهربون إلى الغرب ويلتمسون صداقة الفرنسيين أو مرضاة العثمانيين أملا في العودة إلى حكم البلاد، فعرف الشعب من ذلك أن مصيره موكول إليه وأن اعتماده على غير نفسه غفلة وخداع لا ينبغي أن يطولا. وكان على يقين بأنه يستطيع أن يصمد للحرب الطاحنة وحده شهوراً وأياماً كما فعل في ثورته الثانية العنيفة على الجيش الفرنسي المنظم. وكان زعماء هذا الشعب الكريم تعوزهم التضحية وينقصهم الإخلاص، ينتفعون بتقلبهم مع الحومات على حساب الوطن المسكين سوى رجل واحد جمع الزعامة والجهاد والتضحية. كان ينزوي حين لا تنفع المقاومة، ويثور ثورة الأسد حين تمس الحاجة إلى الثورة والتمرد. . ذلك هو السيد عمر مكرم. . . فلما سمع صوت الشعب يدوي مطالباً بحكومة جديدة خرج من عزلته وتولى قيادته. واحتشدت جموع الشعب التي بلغت أربعين ألفا بجوار الأزهر على كثب من بيت القاضي الذي كان يجتمع فيه الزعماء لاختيار الوالي الجديد. وأنعقد إجماعهم على قبول (محمد علي باشا) والياً بعد أن رشحه الزعيم الأكبر (عمر مكرم) لما عرفوه عنه من الذكاء والعدل والشهامة والعطف على المصريين إزاء الطغاة من حاكمهم. . . وقبل الوالي الجديد ترشيحهم بعد تردد. . . فقام إليه السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي وألبساه الكرك والقفطان في بيته وخلعا عليه حكم البلاد باسم الشعب المصري الكريم. وكان ذلك في 13 مايو سنة 1805، فتميز الوالي القديم (خورشيد باشا) غضباً وقال: (ولأني السلطان فلن يعزلني الفلاحون) فلم يكن بد من أن ينزله هؤلاء الفلاحون بالقوة من قصره بالقلعة. وبدأ الكفاح المجيد بين شعب يفدي حاكمه الذي اختاره لنفسه بل يفدي حريته واستقلاله بالمهج والأرواح، وبين جيش يريد أن يحكمه على غير إرادته. . وكانت الثورة قائمة على مبدأ أعلنه الزعيم الأعلى لرسول السلطان الذي أحتج بقوله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) فأجابه الزعيم بأن أولي الأمر هم العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل، وأن السطلان أو الخليفة نفسه إذا سار في الناس بالجور والظلم كان لهم عزله وخلعه. . .

وأصاب الشعب النصر الحاسم داخل المدينة وخارجها. . . وبارح البلد خورشيد باشا بعد أن عرف بالتجربة أن إرادة الشعوب من إرادة الله. . .

ولبث الشعب المجيد يعين حكومته الجديدة من رد أعدائها من مماليك وأتراك وإنجليز حتى نحاه عن ذلك (واليه) وصارح زعيمه بأن واجب الدفاع والاشتراك في سياسة البلاد قد سقط عن الشعب بعد أن صارت قوة الدولة كفيلة به. . ونهض الوالي بالبلاد نهضة زاهرة شملت تجارتها وزراعتها وصناعتها وثقافتها ولكنها كانت بعيدة عن روح الشعب الذي أكره على الاعتزال ولم تكن ثمرة جهاده ولا نتيجة سعيه ولا وليدة ذهنه فذبلت وماتت بموت موجدها. .

واعتزل الزعيم، حتى إذا اشتط الوالي في ضرائبه التي أكرهته عليها كثرة إصلاحاته وحروبه خرج من مكمنه وأعلن مبدأه الذي لا يقبل فيه شكا ولا جدلا: أن ليس للباشا أن يغير نظام الحكم ولا أن يفرض ما شاء من الضرائب ولا أن يحكم الشعب بغير قانونه وعاداته. . ولكن الباشا عرف كيف يفرّق بين الزعماء وينتفع بحقدهم على زعيمهم فيأمر بخلعه من نقابة الأشراف ونفيه بعيداً عن موطن الثورات. . .

هذا موجز مشوه لسيرة البطل الذي تناوله الأستاذ الجليل محمد فريد أبو حديد في كتابه القيم الممتع الذي أصدره في هذين اليومين وأبان فيه نهاية الكفاح المجيد الذي كان الشعب المصري قد بدأه منذ قرن ونيف من الزمان. . والكتاب آية أدبية جمعت ثلاثة عناصر قل أن تجتمع في كتاب: دقة العلم، وجمال الفن، وحرارة الوطنية.

على أن في الكتاب رأياً ترددت كثيراً في التسليم به، ذلك هو تحديده للوقت الذي تحرك فيه الشعب المصري للمحافظة على حقوقه وحرياته بعام 1114هـ إذ أن الحادثة التي أيدت هذا تتلخص في شكوى رفعها العلماء إلى الديوان فاستجيبت لعدالة الحاكم (الفعلي) يومذاك لا لحرص الشعب وزعمائه على حقوقهم ولا الخوف الحاكم من عنادهم. فأما عدالة الحاكم فيشهد بها قول الشيخ حسن الحجازي شاعر العصر يرثيه:

ألا قلْ لمن في موت حاكم مصرنا ... غَدَا فرِحاً لا عشْت حلَّ بك الغمُّ

إلى أن قال:

فأرجح ميزاناً وأوفى مكايلاً ... وأخمد نيراناً وقام به سلم

وليس له من مبغض غير معرض ... عن الحق أو من في عقيدته سقم

إلى آخر ما جاء في الرثاء الذي أورده الجبرتي (107 و108ج1)

وأما الدليل على أن الشعب وزعماءه يومئذ لم يكونوا قد آمنوا بعد بالحرص على حرياتهم وحقوقهم فيشهد به مجيء فرمان من الدولة عام 1137هـ يأمر بمنع العلماء من اجتماعهم بالباشا. وكان ذلك في وقت قد اشتد فيه الظلم، وعانى الشعب أو ألواناً من التعدي على الحريات وانتهاك الحرمات ونهب الأموال، فلم يقاوم الفرمان شعب ولا زعماء. ولما تكرر الظلم بعد هذا طالب الشعب العلماء بالذهاب إلى الباشا فاعتذر هؤلاء الزعماء بأنهم ممنوعون من طلوع القلعة. . .! (131، 135ج1 من الجبرتي) فالشكوى وحدها ليست دليلاً على التحرك لدفع الظلم، وإنما الدليل أن يقاوم المظلوم حتى ينصف أو يستشهد.

والرأي عندي - إن صح أن يكون لي رأي إلى جانب رأي أستاذي المؤرخ - هو أن الشعب قد تحرك للمحافظة على حقوقه وحرياته في الثلث الأخير من القرن الثامن عشر الميلادي (أواخر الثاني عشر الهجري) إذ سمعنا في هذه الفترة سلسلة من الحوادث تقوم على دفع الظلم ومقاومة أهله والاعتزاز بالحرية. ورأينا فيه كيف يهتم الحكام - أقوياء وضعفاء وعدول وظلمة - بالرأي العام وزعامته. وسمعنا بالحفني وابن النقيب والصعيدي، وعرفنا موقف العلماء في فتنة الوقف، بل أروع من هذا كله موقفهم في فتنة الأزهر (56ج2 من الجبرتي) يوم رفضوا شيخ الأزهر الحنفي حين عينه شيخ البلد ولم يعبئوا بمنطقة يوم أصر قائلاً لهم: أليس الحنفية مسلمين كالشافعية؟ أليس مذهب النعمان أقدم المذاهب؟ أليس القاضي حنفياً والوزير حنفياً والسلطان حنفياً. . .؟ انتهى إصرارهم بالانتصار الحاسم على أكبر رأس في البلد.

ورأينا في هذه الفترة العالم الذي يغضب على الحاكم فيقول له في وجهه: لعنك الله ولعن اليسرجي الذي جاء بك ومن باعك ومن اشتراك ومن جعلك أميراً (19ج2) ورأينا العالم الذي يقول للعامة وهي تستنصره لدفع الظلم الذي يوقعه الحكام بهم: (في غد تجمع أهالي الحارات والأطراف وبولاق ومصر القديمة وأركب معكم وننهب بيوتهم كما نهبوا بيوتنا ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم) فما جاء مساء ذلك اليوم حتى ذل له الحكام واستكانوا لعناده (110ج2 من الجبرتي)

تكرر هذه الحوادث وظهور المقاومة فيها جميعاً هو الشاهد العدل على تحرك الشعب لحقوقه في هذه الفترة. . . أما مجرد الشكوى من الظلم في فترات منقطعة، والصبر عليه، والعجز عن التمرد والسكوت عن كفاح المستبد حين يصر على استبداده فهو الدليل على أن الشعب لا يحرص على حقوقه ولا يتحرك للمحافظة على حرياته. . .

هذا هو الرأي الذي خطر لي عند قراءة هذا الكتاب القيم الذي كسبته القومية المصرية وربحه الناطقون بالضاد. . .

توفيق الطويل