مجلة الرسالة/العدد 217/الفلسفة الشرقية
→ فردريك نيتشه | مجلة الرسالة - العدد 217 الفلسفة الشرقية [[مؤلف:|]] |
نقل الأديب ← |
بتاريخ: 30 - 08 - 1937 |
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 19 -
الديانة الفارسية
الزرادشتية ومصدرنا عنها
ليس لدى الباحث عن الديانة (الزرادشتية) إلا مصدر واحد، وهو كتابها المقدس: (زند أفيستا) الذي وإن كان لم يتم جمعه إلا حوالي القرن السادس بعد المسيح إلا أنه قد أحتوى على جزء عظيم يدعى (جاتها ياسنا) وهو الذي يرجح جميع العلماء أنه كلام (زرادشت) نفسه ويرجعون تاريخه إلى القرن السابع أو العاشر قبل المسيح على ما اختلفوا في وجود النبي الفارسي كما أسلفنا. وما ليس من كلام (زرادشت) من هذا القسم هو - في رأي الكثرة المطلقة من الباحثين - يمثل (الزرادشتية) الأولى حق تمثيل، ويصح أن يعتمد عليه في تاريخ العصر الأول من عصور هذه الديانة. وهذا القسم قد وجد مكتوباً بلغة قديمة ترجع إلى ذلك التاريخ الذي عينه العلماء.
الميتافيزيكا
يجد الباحث في قسم (الجاتها) أن (زرادشت) أرجع جميع آلهة العهد القديم إلى إلهين أثنين: إله الخير (أهورا مازدا) أو (هور مازاد) أو (هرموز)؛ وإله الشر أو الكاذب أو الرديء، وهو الذي سيسمى فيما بعد بـ (أهرمان) في رأي المحققين. ولكن هذه التثنية ليست على علاتها، ولم تكن تثنية بمعناها الصحيح، لأن الإله الذي خلق الكون هو (أهورا) أما (أهرمان) فلم يكن له عمل إلا إيجاد شبه ظل من الشر لكل خير يخلقه (أهورا) وهو وإن كان أزلياً كمازدا، لأنه توءم رديء له إلا أنه ليس أبدياً مثله، إذ هو سيفني عندما يتغلب الخير على الشر فيمحوه من الوجود. أما رفعته عليه فهي ثابتة بنص الكتاب المقدس الذ أسلفنا الإشارة إليه. وإليك شيئاً من هذا النص:
(استمعوا بآذانكم الأشياء الجيدة وانظروا فيها بوضوح حتى تصمموا على أحد الإيمانيين، لأن كل إنسان يجب عليه أن يصمم هو بنفسه قبل الفناء النهائي لكي يتكون حظ كل واحد منكم حسب اختياره.
إذاً، فالروحان الأولان اللذان ظهرا في الوجود كتوءمين هما: الخير والشر، وهما دائماً في التفكير والقول والعمل والحكماء قد اختاروا بينهما، وحسناً اختاروا، ولكن المفاليك هم الذين أساءوا الاختيار. وعندما تقابل هذان الروحان في مبدأ الوجود أسسا الحياة و (اللاحياة). وفي نهاية الأشياء سيكون أردأ أنواع الوجود من نصيب الذين يتبعون الكذب كما يكون أحسن الفكر من نصيب الذين يتبعون الخير. . .) إلى أن يقول:
(أيها الفانون، إذا أنتم أطعتم أوامر (مازدا) الذي نظم السعادة والألم ووضع قاعدة العقاب الطويل للكذابين وبارك الأخيار فإنكم ستفوزون بالسعادة الأبدية)
قد رأيت من هذا النص سمو (مازدا) على (أهرمان) من جميع النواحي، وعلى الخصوص من ناحيتي الأخلاق والأبدية، ولكن هذا الإله مع سموه وجلاله لم يسلب القوة والإرادة من البشر حتى ولا الأشرار منهم، بل ترك لهم من الإرادة ما يكاد يساوي إرادته نفسها، ليكونوا كاملي الحرية في الاختيار. ولولا هذه الحرية لما رأينا الكذب والشر يسودان كثيراً على هذه الأرض وينتصران أحياناً على الخير؛ وهذه السيادة وذلك الانتصار كانا أحياناً يدفعان (زرادشت) إلى التشاؤم واسوداد المزاج كما يظهر ذلك في الأنشودة الآتية: (نحو أي بلد أفر أو أنجو بنفسي؟ لقد فصلت من النبلاء ومن أمثالي، والشعب ليس مسروراً مني ولا الكذابون الذين يحكمون البلاد أيضاً. ماذا أعمل لأرضيك أنت يا (مزدا أهورا)؟
أنا أعرف جيداً لماذا لم أحز أي نجاح: ذلك لأني ليس لدي مال ولا رجال. أنا أدعوك يا (أهورا) أن تمنحني مساعدتك كما يساعد الصديق صديقه.
يا (مازدا) متى تشرق شمس انتصار الخير في العالم بوساطة الحكمة السامية الممثلة في المحررين الذين سيجيئون؟.
لم تقبل هذه التثنية (الزرادشتية) إلا أثناء حياة مؤسسها، أما بعد موته فقد دار حولها الجدل ولم يفهم الناس هذه الموازنة المعقدة التي وضعها زرادشت بين الخير والشر. وما زال هذا الجدل يعمل عمله حتى انتهى حوالي القرن الرابع بعد المسيح بأحداث تغيير جوهري في هذه الديانة، فذهب فريق من رجال الدين إلى إنكار التثنية بتاتاً وإعلان التوحيد حيث صرحوا بأن (مازدا) هو الإله الأوحد، وأن (أهرمان) ليس خصماً له وإنما هو خصم روح القدس في (مازدا) إذ هذا الأخير يحتوي على روحين: أحدهما خيّر والثاني شرير.
الملائكة والأرواح الخفية
يتحدث كتاب (زند أفيستا) عن عدد من كبار الملائكة كانوا وزراء لأهورا مازدا، وقد حددهم القسم المتأخر من هذا الكتاب بستة وزراء، كل واحد منهم له اختصاص معين وعمل محدود؛ ووزاراتهم هي كما يأتي: (1) الفكرة الخيرة. (2) الفضيلة الجُلَّى. (3) الإمبراطورية المشتهاة (4) التنازل الكريم. (5) الصحة. (6) الخلود.
هؤلاء هم رؤساء الملائكة الذين يكونون الهيئة العليا التي تلي (أهورا) مباشرة. وهناك عدد عظيم من صغار الملائكة ومن الأرواح والجن، لكل واحد منهم أيضاً مهمة يقوم بها ومنزلة يشغلها. وهذه المهمات تختلف في جواهرها كما تختلف في قيمتها، فبعضها أخلاقي كصغار الأعمال الخيرية، وبعضها مادي كالعناصر والنباتات المختلفة. ولقد أخذ هذا العدد الأخير يتضاعف وتزداد سلطته حتى طغى أو كاد على الديانة الزرادشتية ولو في البيئات العامية على الأقل حيث عاد بالجماهير إلى عبادة العناصر كما كانت الحال في الديانة القديمة. وقد بعث (ميتهرا) من جديد وأصبحت النار والشمس والقمر والنجوم ملائكة ثم آلهة، واستردت أهميتها الأولى في تلك الأوساط وعاد إلى الوجود من جديد (أهوما) إله الخمر الذي رأيناه في الديانة الأولى كما حدثت خرافات أخرى لم يكن للفرس عهد بها من قبل كذلك العملاق ذي الأرجل الثلاث والذي له أهمية في إدارة العالم. ولكن ينبغي أن نلاحظ أن مازدا هو الذي كان لا يزال الإله الرئيس على جميع هؤلاء، ولم يكن الآخرون إلا آلهة ثانويين أو ملائكة أو أرواحاً.
هؤلاء جميعاً هم أعوان (مازدا) أو هم الحزب الأعلى؛ أما الحزب الأدنى أو أنصار إله الشر فهو يتألف طبعاً من (أهرمان) رئيساً، وقد كان الشعب في أول الأمر يتمثله في ثعبان أو في ذكر الضفدع أو في حيوان رديء مزعج أو في حصان جمح وتوحش ثم استطاع أحد الملوك أن يقبض عليه ويخضعه، ولكن لما تقدم الشعب وارتقت عقليته لم يعد يتمثل إله الشر على هذه الصورة المادية الساذجة، وإنما خطا به نحو التصوير المعنوي فرفعه إلى عالم المدركات العقلية وجعل له وزراء ستة كأهورا يختص كل واحد منهم بعمل من أعمال الشر والسوء، وعلى رأس هؤلاء وضعوا (أندرا) الإله الشعبي القديم، ولكن تحت أسم وزير سابع خاضع لأهرمان. ودون هؤلاء الوزراء وضع رجال الدين أيضاً ملائكة شر وأرواح سوء وشياطين وسوسة وضلال، وذلك مثل ملك الرعد وملك العواصف المدمرة، وكالأرواح الحالة في الحيوانات المؤذية والحشرات الضارة؛ وهناك أيضاً من هذا الحزب شياطين موكل كل واحد منها برذيلة من الرذائل، عليه أن ينميها وينشرها ويعلي شأنها
لم يكتف رجال الدين بهذا التقسيم، بل ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك فعينوا شمال بلاد فارس كمستقر لأرواح الشر وشياطينه، وعلموا الشعب بعض تعاويذ سحرية إذا قرأها المؤمن فرت من أمامه أرواح الشر وتضعضعت قوتها وهوت إلى مكان سحيق. وكان أهم هذه التعاويذ ما أخذ من الكتاب المقدس ثم قريء بطريقة خاصة ولهجة معينة ورنة مُوَقَّعَة.
الإنسان أو الشخصية البشرية
لم يوجد في القسم القديم من (زند أفيستا) ما ينبئنا برأي زرادشت في الشخصية البشرية من: جسم وروح من حيث المبدأ أو المصير، وإنما كل ما لدينا في هذا الشأن قد وجد في الأجزاء الأخيرة التي كتبت بعد عصر زرادشت بزمن غير يسير، أي بعد ما ارتقت المعارف الإنسانية نوعاً ما وبدأ الخاصة يفكرون في ثنائية الإنسان ويحللونه إلى جسم وروح.
يجد الباحث في هذه الآيات المتأخرة أن الإنسان يتألف من جسم وروح وأن الجسم يتكون من أربعة أشياء: اللحم والعظم والقوة الحيوية والصورة أو القالب، وهذا الأخير هو وحده الذي يعود إلي الحياة في حالة البعث دون الثلاثة الأول التي لا تبقى
وأما الروح، فهي عندهم خمسة أنواع، بين كل واحد منها وبين الأربعة الأخرى شيء من الترادف أو التقارب يجعل التحديد الدقيق صعباً أو كما يقول أحد الباحثين الأوربيين (إن مفردات لغاتنا لا تستطيع التعبير الصحيح عن هذه المعاني). وهاك هذه الأقسام الخمسة للروح: (1) النفس والإلهام والعقل (2) الدين والضمير الخلقي والوحي (3) الوجدان النفسي والشعور والإحساس (4) الروح بأدق معاني الكلمة (5) الفرافاشي. وهو عبارة عن شبح سماوي هو في نفس الوقت ملك حارس وروح جوهرية، وعلى الجملة هو الإنسان الحقيقي الذي ليس الكائن البشري إلا مظهراً له، وهو وحده الذي يستطيع أن يتصل بأهورامازدا ويحيا في حضرته، ولهذا عند الموت يفني الإنسان كله في هذا (الفرافاشي)
مصير الروح
عندما يموت الميت تظل الروح ثلاثة أيام وثلاث ليال معلقة إلى جانب الجسم، منعمة بنعيمه أو معذبة بعذابه، وفي فجر اليوم الرابع تهب عليها ريح إما معطرة إذا كان الميت خيراً، وإما نتنة إذا كان شريراً فتحملها إلى موضع تلتقي فيه إما بفتاة جميلة، وإما بعجوز مفزعة، وليست الأولى فتاة حقيقية ولا الثانية عجوزاً حقيقية، وإنما هي صورة أعمال الميت، وهي ضميره نفسه الذي سيقوده إلي حيث معبر الحساب والحكم الأخير. وعلى باب هذا المعبر يوجد ثلاثة قضاة بينهم (ميتهرا) وهناك ينصب ميزان توضع في إحدى كفتيه حسنات الميت وفي الأخرى سيئاته. وبناء على صعود إحدى الكفتين يصدر الحكم على مصير هذا الميت.
ويلاحظ أن الثواب والعقاب لم يكونا ينْصبَّان على كل حسنة أو كل سيئة على حدة، بل على مجموعة النوعين، فإذا رجحت الحسنات كفرت السيئات مهما كانت كل واحدة منها في ذاتها جسيمة؛ كما يلاحظ أن الندم والتوبة لم يكونا معتبرين، وأن الغفران في الحساب لا وجود له البتة لأنه مؤسس على العدل لا على الرحمة.
وعلى أثر انتهاء الوزن وصدور الحكم يؤمر المحاسب بالمرور فوق هذا المعبر أو الصراط الممتد فوق الجحيم، الذي يتسع أمام الأخيار ويضيق حتى يكون أدق من الشعرة وأحد من الشفرة أمام الأشرار.
فهؤلاء الأخيرون يهوون في جحيم مظلم ظلاماً كثيفاً إلى حمو يستطاع معه لمسه باليد، فإذا هوَ وافي الجحيم كانوا متزاحمين كأنهم كمية من الشعر في مَعْرَفة حصان، ومع ذلك فكل واحد منهم يشعر في وسط هذا الزحام بوحدة قاسية وعزلة ممضة.
أما الأخيار، فيذهبون إلى النور حيث يستقبلهم (أهورمازدا) بعد أن يمروا في وسط العمل الصالح والقول الخير والفكر الطيبة، وهناك يستمتعون في كنف (مازدا) بالسعادة الأبدية.
هذا كله بالنسبة لمن ثقلت موازينهم أو خفت؛ أما من استوت حسناتهم وسيئاتهم، فهم يوضعون في مكان فسيح بين السماء والأرض، يقاسون فيه آلام الحر والبرد، ويحسون بجميع التغيرات الجوية، ويظلون ينتظرون في أمل ورهبة الحكم الأخير على مصيرهم الذي يظل مظلماً ما داموا في هذا المكان. وأشهر أهل هذا الموضع هو: (كيريزاشيا) الذي قتل وحشاً مرعباً فحسب له ذلك حسنة، ثم دنس النار المقدسة فحسبت عليه سيئة مساوية للحسنة الأولى فظل بين النعيم والجحيم
(يتبع)
محمد غلاب