الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 216/علاقة مصر ببلاد النوبة في الجنس والدين

مجلة الرسالة/العدد 216/علاقة مصر ببلاد النوبة في الجنس والدين

مجلة الرسالة - العدد 216
علاقة مصر ببلاد النوبة في الجنس والدين
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 23 - 08 - 1937


للأستاذ فهمي عبد الجواد حبيب

تمهيد

بلاد النوبة من البلاد القديمة تقع جنوب مصر وعلى بعد خمسة أميال من مدينة أسوان. ويحدها من الشرق البحر الأحمر ومن الغرب صحراء ليبيا، وتمتد جنوباً حتى ملتقى النيل الأبيض بالنيل الأزرق، غير أن هذا التحديد جغرافياً أكثر منه سياسياً إذ لم يكن لها حدود سياسية ثابتة. وقد كان ملوك الدولة المصرية القديمة يسمونها (خنت) أي الأراضي الجنوبية كما كانت تسمى - أي أرض القوس (أي المشهورون برمي النبال) ولهذا سماهم العرب رماة الحدق.

وقد أخطأ بعض الكتاب في إطلاق كلمة كوش على جميع بلاد النوبة، والصواب أن إقليم (كوش) يمتد من الجندل الثاني تقريباً حتى ملتقى النيل الأبيض بالأزرق، وأما الإقليم الواقع بين الجندلين الأول والثاني فكان يعرف (بالواوات)

هذا ويطلق أيضاً بعض الكتاب خطأ كلمة (أثيوبيا) على بلاد النوبة معتمدين في ذلك على خريطة سريدوت ومن نحا نحوه من المؤرخين. فينسبون للنوبين ما ليس لهم إذ أن هؤلاء المؤرخين كانوا يعنون بكلمة (أثيوبيا) جميع البلاد الواقعة جنوب مصر كالسودان والحبشة وغيرها. ومما زاد الطين بلة في تعزيز هذا التعريف الخاطئ ما وقع فيه رهبان سوريا من الخطأ عند ترجمتهم الإنجيل من اليونانية حيث ترجموا كلمة (كوش) بأثيوبيا ويعنون بها بلاد الحبشة.

وكانت النوبة على عهد العرب تنقسم قسمين: النوبة السفلى وتمتد من الجندل الأول إلى الرابع وعاصمتها دنقلة، والنوبة العليا وتمتد من الجندل الرابع حتى بلاد الحبشة وعاصمتها سوبة على النيل الأزرق.

وقد كانت لهذه البلاد في وقت ما عزة ومناعة ثم اعتورها ما يعتور كل موجود حتى صارت حالها إلى ما هي عليه الآن.

العلاقة بينه أجمع المؤرخون على أن المصريين والنوبيين من أصل واحد مدللين على صحة قولهم هذا بأن كلا الشعبين ينتسب إلى الجنس الحامي فضلاً عن تشابه لون بشرتهم. والواقع أن سكان مصر العليا والنوبة حتى الآن متشابهان، وأما الوجه البحري فنظراً لأن حدود مصر من جهة القنطرة سهلة الغزو فكان عرضة للغارات الخارجية ولذا سار منها الغازون أمثال الرعاة والاسكندر وقمبيز وغيرهم؛ ومن ثم تأثر الوجه البحري بدم هؤلاء الغزاة فتغير كثيراً عن مصر العليا. وهناك عامل آخر أثر في جنسية سكان شمالي مصر وبشرتهم نوعاً ما، ذلك أنه رحل إلى شمالي أفريقيا قبل بناء الأهرام بعض الأوربيين، وهؤلاء المهاجرون انتشروا في شمالي أفريقيا حتى جزائر كناريا. وقد وجدت ابنة لخوفو شرق الهرم الأكبر من الجنس الأبيض ذي الشعر الأشقر وتعليل ذلك أن خوفو تزوج واحدة من هؤلاء البيض، كما أنه وجد في العوينات رسوم لفريقين من المتحاربين السمر والبيض

وقد حدث في عهد الأسرة العشرين حادث ذو بال: ذلك أنه في عهد هذه الأسرة قل دخل الحكومة لفقد مصر كثيراً من البلاد الآسيوية فنقص ما كان يتقاضاه كهنة آمون في عهد الأسرة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة فضلاً عن ضعف الملوك، فدعا ذلك إلى ازدياد سلطة هؤلاء الكهنة حتى تمكن أحد رؤسائهم المسمى (حرحور) من اغتصاب العرش وأسس الأسرة الحادية والعشرين، ولكن المصريين اعتبروا كهنة آمون مغتصبين للملك فصار عهدهم فوضى ولم يستطيعوا حفظ سلطانهم ولا القيام بما تتطلبه عظمة آمون من النفقات؛ ورأوا أن معبودهم يعبد في (نبتة) عاصمة النوبة في ذلك الوقت وأن له المقام الأول بين آلهة النوبيين فلهذا اختاروا (نبتة) لتكون قبلتهم في هجرتهم فهاجروا إليها من طيبة بعد أن حكموا بها 121 سنة من 1100 - 979 قبل الميلاد.

وقد رحب بمقدمهم النوبيون نظراً لأن المدنية التي نشرها المصريون في النوبة كانت لا تزال قوية الدعائم، وكان هؤلاء الكهنة على جانب كبير من العلم فساعدهم هذا على أن يكونوا رؤساء كهنة آمون في نبتة وتدخلوا في السلطة الزمنية كما سبق أن تدخلوا في مصلا وتزاوجوا مع النوبيين.

وفي عهد الأسرة 23 تزوج أمير نوبي يسمى (كاشتا) أميرة مصرية، ثم خلفه على ملك النوبة ابنه (بعنخي) وهنا يجب علينا أن نشير إلى ما لهذا التزاوج من أهمية إذ لو كان النوبيون ممتزجين بدم زنجي لما قبل الكهنة على ما هم عليه من المقام الرفيع أن يتزاوجوا بهم، ولما تزوج نوبي بأميرة مصرية.

الديانة

كان النوبيون كالمصريين يعبدون آلهة عدة مثل تيتون وملول، ولما استولى المصريون على بلادهم احترموا آلهتهم ثم أدخلوا عبادة آمون بها وأقاموا له المعابد، وأخذ النوبيون يعبدون آمون حتى أصبح أكبر آلهتهم وصارت آلهتهم الأصلية في مقام ثانوي

وكان النوبيون يعبدون من الآلهة المصرية غير آمون إزيس وأوزيريس.

دخول المسيحية إليها

لا يعلم بالضبط كيف ومتى دخلت المسيحية بلاد النوبة؛ ويقول البعض إنها دخلت من جهة الجنوب، ولكن ليس هناك دليل يثبت صحة ذلك. والمرجح أنها دخلت في هذه البلاد من جهة الشمال عن طريق مصر في أول القرن السادس حيث كانت الوثنية هي دين أهل البلاد (فأليمبيدوس) الذي زار النوبة فيما بين 407 - 425م يقول إن البجة وقبائل أخرى من سكان الصحراء الشرقية كانوا وثنيين، كما أن كتاب شيود وسيوس يثبت أن عبادة إزيس وأوزيريس كانت منتشرة في بلاد النوبة في هذا الوقت؛ وحتى بعد ذلك بثلاثين سنة كانت إيزيس تعبد في جزيرة فيلة. ويؤيد دخول المسيحية إليها من الشمال عن طريق مصر أن المسيحية لما انتشرت في الإمبراطورية الرومانية أخذ الأباطرة يضطهدون معتنقيها ففر بعضهم من مصر التي كانت تحت سيطرتهم في ذاك الوقت إلى الجنوب كما فر البعض إلى الواحات الغربية ليكونوا في مأمن من أذى الرومان وبطشهم. وهذا هو بعينه ما حصل مع الفارق لكهنة طيبة، فإنهم لما أرادوا الهجرة ذهبوا إلى النوبة كما ذهب إليها المماليك في عهد محمد علي باشا فراراً منه.

ولما زاد اضطهاد الإمبراطور دقلديانوس للمسيحيين وأوقع بهم وقعته المشهورة كثر التجاء الرهبان وغيرهم إلى الجبال والصحراء فنزح إليها الكثيرون وأقاموا بها يبشرون بدينهم ما استطاعوا، حتى إذا ما أتى زمن قسطنطين وترك للمسيحيين حريتهم واستأمن الرهبان وغيرهم أخذوا في الظهور وفي إعلان الديانة المسيحية يعملون لها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

وكان لسلكو زعيم سكان الصحراء الغربية والنوبة أكبر نصيب في انتشار المسيحية في هذه البلاد فقد وجد في معبد كلابشة كتابة ترجمتها (أنا سلكو زعيم سكان الصحراء الغربية والنوبيين كافة قد أتيت إلى كلابشة مرتين وحاربت سكان الصحراء الشرقية (البجة) ونصرني الله عليهم واقسموا لي بآلهتهم إزيس وأوزيريس فصدقتهم) والإله الذي نصر سلكو هو بلا شك إله المسيحيين. ومن هذه الكتابة أيضاً تعلم أن سكان الصحراء الشرقية كانوا إلى آخر القرن السادس الميلادي يعبدون الآلهة المصرية. وقد كان من نتيجة المودة بين سلكوا وجستيتيان (527 - 565م) أن أرسل الأخير أسقفاً وهدايا إلى سلكو فعمد هذا الأسقف الملك سلكو الذي أخذ ينشر المسيحية في بلاده. وفي عهد خلفه أربانوم تحولت معابد كلابشة والسيوع وعمدة وأبو سمبل وفيلة إلى كنائس، وقد تم ذلك قبل نهاية القرن السادس واتخذ المسيحيون دنقلة عاصمة للمملكة المسيحية.

دخول الإسلام إليها

أرسل عمرو بن العاص بعد أن استتب له الأمر في مصر عبد الله بن سعد لغزو بلاد النوبة عام 21هـ فحاربهم وهزمهم وقرر عليهم الجزية ولكنه لم يتعرض لدينهم

وفي عام 31هـ غزاهم عبد الله بن سعد في خلافة سيدنا عثمان رضي الله عنه لثاني مرة وهزمهم ثم كتب لهم عهداً جاء فيه: (وعليكم حفظ المسجد الذي بناه المسلمون بفناء مدينتكم (دنقلة) ولا تمنعوا منه مصلياً ولنا عليكم بذلك أعظم ما تدينون به من المسيح وذمة الحواريين وذمة من تعظمونه من أهل دينكم وملتكم).

ومن هذا العهد يتضح لنا أمران:

الأول - أن النوبيين حتى عام 31هـ كانوا يدينون بالمسيحية

والثاني - أنه كان يوجد بدنقلة عاصمتهم بعض المسلمين مما أدى إلى بناء مسجد لهم، ولكن من هم هؤلاء المسلمون؟ إني أرجح أنهم من المصريين أو العرب الذين نزحوا إلى العاصمة - دنقلة - بعد الغزوة الأولى بقصد التجارة.

وفي خلافة المأمون ثار البجة، فسار إليهم عبد الله بن الجهم وهزمهم وعقد صلحاً مع ملكهم كانون الذي تعهد بالمحافظة على أرواح المسلمين وأملاكهم.

ومن هذا يتضح أن المسلمين كانوا عدداً قليلاً وكان لهم ممتلكات في بلاد النوبة.

وفي عام 969م أرسل جوهر الصقلي رسلاً إلى جورج ملك النوبة ليستلموا الجزية وليدعوه إلى الإسلام فسلم الجزية ولكنه امتنع عن اعتناق الإسلام.

وفي النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي انتشر الإسلام في الجهات القريبة من دنقلة وما أتت نهاية القرن الرابع عشر حتى كان الإسلام قد عم هذه البلاد.

فهمي عبد الجواد حبيب

المدرس بالمدارس الأميرية