مجلة الرسالة/العدد 216/المحاكمات التاريخية الكبرى
→ الخروج من النفس | مجلة الرسالة - العدد 216 المحاكمات التاريخية الكبرى [[مؤلف:|]] |
عصبة الأمم في التاريخ ← |
بتاريخ: 23 - 08 - 1937 |
1 - الحركة النهليستية ومصرع القيصر اسكندر الثاني
صفحة رائعة من صحف الثورة على الطغيان
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت الثورة البلشفية نتيجة محزنة للمعركة التحريرية الرائعة التي اضطرمت مدى ستين عاماً بين القياصرة وبين الحركة الثورية الروسية. ولم يثل عرش القياصرة ويسحق طغيان القيصرية وتمحى نظم الإقطاع وامتيازات النبلاء إلا ليقوم مكانها طغيان جديد أشد إمعاناً في الإرهاب والسفك وثل الحقوق والحريات العامة. ومن ذا الذي يستطيع أن يقول إن الشعب الروسي يتمتع اليوم في ظل النظم البلشفية بلمحة من الحرية التي كان ينشدها في أيام القياصرة والتي اعتقد أنه ظفر بها كاملة في ثورة مارس سنة 1917 الاشتراكية ثم في ثورة أكتوبر البلشفية. كانت روسيا منذ منتصف القرن التاسع عشر مشرح نضال عنيف بين طغيان القيصرية وبين العقلية الروسية الجديدة الطموح إلى الإصلاح والتحرير؛ وكانت روسيا الجديدة تنشد الإصلاح السلمي بادئ بدء وتحاول عن طريق الإصلاحات الدستورية والاجتماعية تحطيم الأصفاد المرهقة التي تطوق القيصرية بها عنق الشعب الروسي؛ وكان رسل روسيا الجديدة يومئذ جمهرة من الشباب المستنير الذي حفزته مؤثرات الثقافة الحرة إلى التطلع إلى آفاق جديدة، كان هؤلاء هم طلائع (النهلزم) أو الحركة النهلستية كما سماها ترجنيف، وكانت هذه الدعوة الإصلاحية المتوثبة دعوة مثل ومبادئ يذكيها طائفة من الكتاب الأحرار بأقلامهم الملتهبة؛ وكان أخص ما يميز الدعوة الحديثة على قول ستبنياك مؤرخ الثورة الروسية (هو إنكار كل ما يفرض على الفرد إنكاراً مطلقاً تعززه الحرية الفردية. وقد كانت النهلستية ثورة قوية مضطرمة لا على الطغيان السياسي ولكن على الطغيان المعنوي الذي يرهق حياة الفرد الخاصة). على أن هذه الحركة الإصلاحية السلمية لم تلبث إزاء عنت القيصرية وإغضائها عن الاستماع لدعوتها، أن تطورت بسرعة إلى حركة ثورية تعتزم أن تحقق مثلها بالنضال والعنف. واحتشد الشباب المتوثب من جميع الطبقات تحت لواء الحركة الجديدة. بيد أنهم على قو ستبنياك (كانوا عزلاً إلا من النظريات والمثل، وكانوا يحاربون قوة هائلة مدججة بالسلاح والعدد، ولم يك ثمة سبيل لأن يحركوا كتلة الشعب التي ترزح في أغلال الرق والذلة). وكانت القيصرية تضاعف إجراءات القمع وتمعن في مطاردة أولئك الرجال والنساء الذي يتجاهلون حقيقة الحياة والنظم القومية الروسية.
وهنا يضطرم النضال وتنشب بين القوتين الخصيمتين: القيصرية والنهلستية - تلك المعركة الهائلة التي تقطر في كل مراحلها دماً، وتتناثر حولها الأشلاء من كل صوب، ويتساقط في حلبتها قياصرة وأمراء وقواد وحكام وشباب من كل الطبقات. كانت القيصرية وعميدها، وكل المؤيدين لطغيانها، هدفاً لطائفة من المؤامرات والجرائم التحريرية المحكمة تعصف بهم وتثل أرواحهم بين آونة وأخرى؛ وكانت هذه الجمهرة المستبسلة من الشباب الغض بين فتية وفتيات تلقي بنفسها إلى تلك الغمار المروعة وهي تودع الحياة في كل مرة أفراداً وجماعات؛ وكان العنف يذكي العنف فكلما وقع اعتداء جديد على زعيم من زعماء الطغيان حشد الطغاة في الحال حول المشانق رهطاً من الشباب المجاهد وأعدموهم بعد محاكمات مرتبة تختتم دائماً بمجازر بشرية. ذلك هو تاريخ النهلستية أو الحركة التحريرية الروسية التي سطرها التاريخ بمداد من الدم الغزير.
بدأ هذا النضال العنيف في سنة 1875 بعد أن نضجت الحركة الثورية، واحتشد حول المثل الحرة الجديدة جيش حقيقي من الفدائيين؛ وكانت القيصرية كلما اشتد ساعد الحركة الثورية واشتدت مطالب الأحرار في سبيل الإصلاح الدستوري اشتدت من جانبها في القمع والمطاردة، وازدادت حرصاً على سلطانها المطلق. وكانت سلطات الطغيان تبسط على أنحاء روسيا الشاسعة حكماً من الإرهاب المطبق، تدعمه جاسوسية بارعة خطرة؛ وكانت القيصرية هي الباغية المتجنية لأنها لم تستمع إلى دعوة الإصلاح، بل آثرت سلاح القمع الهمجي، فمالت على الحركة الثورية تحاول تمزيقها، ومالت على الأحرار تحاول إفناءهم، وأسرفت في القبض والاعتقال والنفي إلى سيبريا، وتدبير المحاكمات الصورية واتخاذها وسيلة لإعدام الزعماء والقادة والشباب المجاهد؛ وأجاب الأحرار من جانبهم بتنظيم حركة من الإرهاب الثوري ذهب ضحيتها ثبت حافل من الوزراء والقضاة ورجال الشرطة وغيرهم من أعوان الطغيان. وكانت هذه المعركة الشهيرة في صحف الكفاح الثوري ذروة الحركة النهلستية، وكان قوامها من جانب سلسلة من الجرائم السياسية المروعة، ومن الجانب الآخر سلسلة من المحاكمات الرنانة. ففي سنة 1877 قبضت الحكومة على خمسين من الأحرار النهلستيين وحوكموا في موسكو بتهمة التآمر على سلامة الدولة وهي التهمة الخالدة التي يشهرها الطغيان دائماً في وجه خصومه. وكان منهم صوفيا باردين وهي فتاة ثورية نابهة عرفت مثل النهلستية أمام قضاتها بما يأتي: (إن الجماعة التي أنتمي إليها هي جماعة الدعاة السلميين. إن غايتنا هي أن نبعث إلى نفس الشعب مثل نظم أفضل وأقرب إلى العدالة، أو بالحري أن نوقظ المثل الغامض الذي يجثم في نفسه، وأن نبين له عيوب النظام الحاضر حتى لا يعود في المستقبل إلى نفس الأخطاء التي يعانيها. أما متى تدق ساعة هذا المستقبل المنشود فهذا ما نجهله وليس علينا نحن أن نبينه).
وأسفرت المحاكمة عن القضاء على كثيرين بالإعدام والسجن والنفي. وفي العام التالي قبض على نحو مائتين منهم وقدموا إلى المحاكمة في بطرسبرج وليننجراد فهلك في بدء المحاكمة منهم ثلاثة وتسعون بالتعذيب والانتحار، وقتل النهلستيون من جانبهم عدة من الجواسيس، وأطلقت فتاة تدعى فيرا زاسولتش النار على تربيوف مدير الشرطة فجرحته جرحاً خطيراً (فبراير 1878) وقدمت إلى المحاكمة فبرئت وحملت على الأعناق في مظاهرة صاخبة، ثم فرت خيفة المطاردة والانتقام. وفي أغسطس أعدم الزعيم الاشتراكي كرفالسكي في أودسا فلم تمض بضعة أيام حتى انتقم له الثوار بقتل رئيس الشرطة مزنتزيف. وفي فبراير 1879 قتلوا في خاركوف حاكم المقاطعة البرنس ألكسي كروبتكين، وانتقمت القيصرية على الأثر بإعدام الزعيم أوسنسكي وبعض رفاقه. وهكذا لبثت المعركة على اضطرامها أعواماً طويلة تحصد أرواح الفريقين.
وكان مصرع القيصر إسكندر الثاني أعظم حوادث هذا النضال الدموي المروع وكان ذروة الحركة النهلستية؛ وكانت المحاكمة التي تلت أعظم المحاكمات السياسية التي عرفتها هذه الحركة الفياضة بالحوادث والمحاكمات الرنانة. وكان إسكندر الثاني الذي تولى العرش سنة 1855 يجنح في بداية عهده إلى نوع من الإصلاح ومسالمة الحركة التحريرية وتحقيق بعض غاياتها. وكان تحريره لرقيق الضياع في سنة 1861 فاتحة طيبة لهذه السياسة الإصلاحية؛ وكان يميل في نفس الوقت إلى إجراء بعض الإصلاحات الدستورية التي لا تؤثر في مجموعها على حقوق السلطة العليا، ولكن تتخذ في الوقت نفسه صورة المنح والمزايا الدستورية؛ وكان يعتقد أنهلا يستطيع تحقيق هذه الغاية بإنشاء المجالس المحلية (زمستفوس)، ولكن الحركة التحريرية لم تحفل بهذه المشاريع الجزئية بل اشتدت في مطالبها وضاعفت جهودها في سبيل الكفاح والنضال، وشهرت على القيصرية حربها العوان، وردت القيصرية بمضاعفة إجراءات القمح الذريع، واضطرمت بين إسكندر الثاني وبين النهلستية تلك المعركة الدموية المروعة التي أتينا على وصفها
ورأت اللجنة التنفيذية الثورية أو اللجنة التنفيذية لإرادة الشعب كما كانت تسمى، أن تقضي على الشر من أصوله فقررت إعدام القيصر (26 أغسطس 1879) ونظمت شعبها الفدائية، ودبرت تباعاً عدة مشاريع لاغتيال القيصر. فبدأت في شهر نوفمبر بوضع لغم في طريق القطار الذي يسافر فيه القيصر ولكنه لم ينفجر، وفي ديسمبر وضع الفدائيون لغماً آخر في طريق القطار الملكي إلى موسكو انفجر عند مرور القطار، ولكن القيصر وصل إلى موسكو في قطار سابق؛ وفي مساء 17 فبراير سنة 1880 نسف الفدائيون قاعة الطعام في قصر الشتاء على ظن أن القيصر كان عندئذ يتناول طعامه فيها، ولكن القيصر كان في مكان آخر من القصر، ولم يكن قد جلس إلى المائدة بعد، فقتل في الحادث وجرح سبعة وستون من الجند والحشم. ونشطت القيصرية من جانبها إلى مطاردة الجناة، فأعدم عدة من الفدائيين، ومنح لوريس مليكوف وزير الداخلية سلطة مطلقة على العاصمة لكي يستطيع السهر على حياة القيصر وأسرته، وخول له الإشراف المطلق على القضايا السياسية وعلى جميع السلطات الإدارية والمدنية. ورأى مليكوف من جهة أخرى أن يتخذ بعض إجراءات لاستمالة الشعب فأفرج عن كثير من المعتقلين وكانت تغص بهم السجون، ورد آلاف الطلبة إلى الجامعات التي أخرجوا منها. وأصدرت اللجنة التنفيذية بياناً قالت فيه (إنها لن تترك الكفاح حتى يتنازل إسكندر الثاني عن سلطانه للشعب ويترك مكانه لجمعية وطنية تأسيسية تضع مبادئ الإصلاح الاجتماعي). ولكن حدث في مساء 27 فبراير أن استطاعت الشرطة السرية أن تقبض على أندري جليابوف زعيم اللجنة الثورية في دار صديقه وزميله في اللجنة المحامي تريجوني وقبض على تريجوني في نفس الوقت، وحمل النبأ إلى القيصر وزير الداخلية مليكوف فابتهج به أيما ابتهاج، لأنه كان يعتقد أن جليابوف رأس اللجنة المدبر ولن يهدأ له بال مادام حراً طليقاً. ورفع الوزير إلى القيصر في نفس الوقت مشروع المجالس المحلية الذي اعتزمت الحكومة تنفيذه بعد أن وضع في صيغته النهائية فوعد القيصر بالنظر فيه في الغد.
وكان ذلك في مساء يوم الجمعة 27 فبراير سنة 1881 وكان القيصر يعتزم أن يشهد يوم الأحد أول مارس تمارين فرسان الحرس في ميدان ميخايلوفسكي كعادته كل أحد. فرجاه وزير الداخلية ألا يفعل لأن جليابوف صرح أمامه أن القبض عليه لا يمنع وقوع اعتداء جديد على حياة القيصر، ولكن القيصر لم يعبأ بهذا النصح وصمم على الذهاب.
وكان القبض على جليابوف ضربة شديدة للجنة التنفيذية، وكان يقيم منذ حين في بطرسبرج باسم سلاتفلسكي مع صاحبته وزميلته صوفيا بيروفسكايا بزعم أنها أخته، وكانت صوفيا ساعده الأيمن في تدبير المشاريع وإدارة الشئون؛ فلما قبض عليه ولم يعد ليلة 27 فبراير جمعت صوفيا أعضاء اللجنة التنفيذية المقيمين في بطرسبرج في الحال وكان منهم ضابط البحرية سوخانوف، والصحفي تيخوميروف، وأساييف وفرولتكو، وجراتشفكي، وحنه كوربا، واجتمعت اللجنة في دار فيرا فنجر، وبحثت الموقف الخطير الذي انتهت إليه، وكيف أخفقت مشاريعها المتوالية في الأشهر الأخيرة، واستطاعت شرطة القيصر أن تشل كل حركاتها، وأن تقبض أخيراً على زعيمها؛ وبعد مناقشات عاصفة قررت اللجنة بالإجماع أن تنفذ مشروع جليابوف لاغتيال القيصر وعهدت إلى صوفيا بيروفسكايا بالإشراف على التنفيذ، وكانت اللجنة ترمي بهذه المشاريع الجنائية المتوالية فضلاً عن الانتقام للضحايا العديدين، إلى غاية سياسية عملية هي أن تستغل ما يترتب على الاغتيالات السياسية من الاضطراب والروع وتحقيق بعض مطالبها الدستورية. ولكن هذه الخطة لم تحدث أثرها المنشود بل زادت بالعكس في سخط القيصرية وحرصها على سلطانها، وزادتها إقداماً وقسوة في تتبع خصومها.
(للبحث بقية - النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان