الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 216/الفلسفة الشرقية

مجلة الرسالة/العدد 216/الفلسفة الشرقية

مجلة الرسالة - العدد 216
الفلسفة الشرقية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 23 - 08 - 1937


بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 18 -

الديانة الفارسية

لا ريب أن من يلقي على الديانة الفارسية نظرة فاحصة يأخذ بلبه ما يجده بارزاً بين جوانبها من المبتدعات (الزرادشتية) التي يجزم بعض مؤرخي الحركة العقلية بأنها لم يسبق لها نظير في تاريخ الديانات القديمة، إذ لا يعرف التاريخ قبل (زرادشت) مجدداً قلب الدين القديم رأساً على عقب وأحدث فيه أحداثاً جديدة إلا (أخناتون) الفرعون المصري الذي نادى بالتوحيد في وسط معمعان الوثنية والتعدد الطاحنين؛ ولكن (أخناتون) في نظر هؤلاء المؤرخين لم يبلغ مرتبة (زرادشت) لأن دعوته كانت تجديداً سياسياً أكثر منها دينياً، ولهذا قد فشل تجديده على أثر صعود خلفه على العرش، وإذاً فزرادشت هو الفذ الأسبق في هذا التجديد.

ولكن ليس معنى هذا أن (زرادشت) قد قطع كل العلائق بالديانة القديمة وأنشأ ديانته إنشاء كاملاً، كلا، وإنما هو قد أقر منها الشيء الكثير، وهذا هو الذي يحدونا إلى أن نلقي على الديانة القديمة نظرة عجلى قبل أن نعرض للديانة (الزرادشتية).

الديانة قبل زرادشت

ليس عندنا من المصادر عن الديانة الفارسية السابقة على (زرادشت) القدر الكافي لإعطائنا صورة واضحة تمكننا من تحليلها على الطريقة العلمية القيمة، وإنما كل ما نعرفه في هذا الصدد هو أن نقوشاً أثرية يرجع تاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل المسيح وجدت في الشمال الغربي من بلاد فارس، ووجدت فيها أسماء آلهة هندية ثلاثة وهي: (ميتهرا) و (أندرا) و (فارونا) ولما كان من غير الممكن أن تصل هذه الآلهة الهندية إلى ذلك المكان دون أن تخترق البلاد الفارسية، فقد استنتج بعض الباحثين ونخص منهم بالذكر الأستاذ (دينيس سوريه) أن للديانة الهندية أثراً عظيماً على الفارسية الأولى. وقد ذهب غيرهم إلى ما هو أبعد من هذا، فزعم أن (أهورامازدا) إله (زرادشت) هو محرف عن (أور روناشول) الإله الهندي العتيق، ولكن هذه مغالاة شديدة من أصحاب هذا الرأي، إذ النظريات العلمية لا يصح أن تبنى على مثل هذه التكهنات المستنتجة من التحككات اللفظية.

ومهما يكن من الأمر، فإن تأثر الفارسية بالهندية أمر مقطوع به، إذ أننا نجد مثلاً في الكتاب الفارسي المقدس (زند أفيستا) أسطورة تحدثنا عن (ييما) أول إنسان أنه أطعم أبنائه لحماً محرماً (ولعله لحم ثور) ليصيرهم خالدين، وأنه قد فعل هذا نزولاً عند نصيحة أحد الآلهة، وقد ظلت هذه العقيدة فيما يظهر سائدة حتى جاء (زرادشت) فأعلن احتجاجه ضد هذه الخرافة وصرح بأن الخلود لا يمكن أن يتوقف على أكل لحم الثور وإنما هو شيء معنوي يمنحه (أهورامازدا) لمن يستحقه بالفضيلة.

ومن هذه الأساطير أيضاً ما يحدثنا به (هيرودوت) من أن الملكة (أميستريس) حين صارت عجوزاً أمرت بدفن أربعة عشر طفلاً من أبناء النبلاء أحياء، ليكون ذلك قرباناً عنها، ليقربها من الآلهة.

تمتاز هذه الديانة القديمة بأنها كانت تأمر بعبادة العناصر الأربعة: النار ممثلة في كوكبيها العظيمين: الشمس والقمر، والهواء والماء، والتراب، وبتقديس كل مظاهر الطبيعة، وبأنها تأمر بتضحية بعض الحيوانات كالثيران والكباش، ولكن يجب أن يكون ذلك على يد جمعية مؤلفة من رجال الدين تنعقد خصيصاً للإشراف على الضحايا. وكانت بعض الحيوانات تمتاز بقداستها على البعض الآخر، فكلب الماء مثلاً كان مقدساً إلى حد أن من يقتله يجب أن يعاقب بضربه عشرين ألف عصا، وكان المسكين يموت غالباً قبل أن يستوفي هذا العدد، غير أنه إذا نجا بمعجزة، وجب عليه أن يشكر الآلهة على هذه النجاة، وذلك بتقديمه عشرة آلاف قربان من السوائل، وأن يقتل عشرة آلاف ضفدعة، ولم تكن هذه الحماية مقصورة على كلب البحر، بل كانت القنافذ والكلاب البرية كذلك، كما كانت الثعابين والنمل والضفادع على العكس من ذلك تماماً.

وعندهم أن الميت يجب أن يدلك بالشمع ثم تعرضه جمعية رجال الدين للطيور والكلاب، لتمزق جسمه وتأكل منه ما تشاء، ثم يوارى الباقي في التراب. وقد تطورت هذه العقيدة فيما بعد فتحولت إلى عقيدة عرض الأموات في برج السكوت. ومن المحتمل أيضاً أن يكون الهنود الذين لا يزالون يعرضون جثث موتاهم لتمزيق الوحوش قد تأثروا بهذه الشعيرة.

وعندهم أيضاً أن الشعر والأظافر بعد فصلها من الأجسام الحية تصبح مدنسة، وكذلك النَّفَسُ البشري مدنس؛ ومن عقائدهم كذلك أن الجثة البشرية قد تطهر إذا قطعت ومزقت أجزاؤها ثم مر أحد الناس بهيئة خاصة من بين هذه الأجزاء.

وعندهم أن زواج الأمهات والأخوات والبنات ليس مباحاً فحسب، بل إنه مستحب وموصى به، أما الزنى فهو عندهم جريمة كبرى.

لم تمنع عبادة العناصر الفرس من اتخاذ آلهة أخرى لكل واحد منها اختصاص محدد مثل (أناهيتا) إلهة الماء والخصوبة التي صوروها بعدة أشكال وبدلوا اختصاصاتها كثيراً والتي يظن بعض الباحثين أنها أثر من (إيستار) إلهة (بابل) القديمة لا سيما وإن شمال بلاد الفرس كان خاضعاً لاستعمار البابليين في ذلك العهد.

كان بعض الشعب يعتقد أن (هاومو) - وهو اسم لشراب كحولي - هو اسم لشخصية بين الآلهة والبشر والبعض الآخر يعتقد أنه يجب أن يعبد، وقد عبدوا هذا الشراب بالفعل، ووضعوا عدة أناشيد، للتغني باسمه. وقد صرح الأستاذ (دينيس سواريه) بأنه لا مانع عنده من أن يكون لهذه الأناشيد التي تغنى بها الفرس القدماء في عبادة الخمر أثر على رباعيات عمر الخيام التي جاءت بعد ذلك ببضعة عشر قرناً.

هذا كله خاص بعقيدة العامة وجماهير الشعب؛ أما الخاصة فقد كانت لهم عقيدة أرقى من هذه العقيدة على نحو ما كانت الحال عند المصريين القدماء، إذ تحدثنا آثار ملكية وجدت في مدينتي (سوز) و (بيرسيبوليس) أن كثيراً من الملوك كانوا يؤمنون بالإلهين: (ميترا) و (أناهيتا) وغيرهما من آلهة الشعب، ولكنهم كانوا يضعون على رأس هذه الآلهة جميعاً الإله (أهورا مازدا) الذي سنتحدث عنه في ديانة (زرادشت)، ومما يلفت النظر في عقيدة الخاصة هو أن هذا الإله الرئيس كان عندهم غير مرئي وأن النار لم تكن إلا رمزاً له فحسب، وأنه لم يكن له معبد خاص، وإنما كانت جميع بقاع الأرض معبداً له.

لقد ظل هؤلاء الملوك يعبدون (أهورا مازدا) عبادة حرة غير مقيدة بتعاليم نبوة (زرادشت) حتى أخر القرن الخامس قبل المسيح حيث اعتنقوا الديانة (الزرادشتية) وطبقوا كل طقوسها.

(الديانة الزرادشتية)

حياة زرادشت

يجمع أكثر الباحثين على أن (زرادشت) قد وجد حقاً وإن كانوا جميعاً لا يجرؤون على القول بأن لديهم أي برهان علمي يدل على وجوده؛ وهم يجمعون كذلك على أنه وجد حوالي نهاية القرن الثامن قبل المسيح، وإن كان قد شذت عن هذا الإجماع الأخير شخصية من أجل الشخصيات العلمية، وهي شخصية الأستاذ (كليمان) الفرنسي الذي يرى أنه وجد في أوائل القرن العاشر قبل الميلاد.

يحدثنا أولئك الباحثون أن تاريخ هذا الزعيم الديني مفعم بالأساطير الشعبية الغريبة التي لا يخلو منها شعب من الشعوب والتي رأينا صورة منها في تاريخ (بوذا)؛ فمن هذه الأساطير أنه ولد ضاحكاً، رافعاً وجهه ويديه نحو السماء، وأنه حدثت ليلة مولده معجزات شتى رآها الخاصة والعامة؛ ومنها أنه تحدى بعض مشاهير السحرة في عصره فحاولوا أن يهلكوه بكل ما أوتوا من علم وقوة، ولكنهم فشلوا في ذلك فشلاً ذريعاً. ومن ذلك أنه كان ينسحب من البقاع الآهلة بالسكان ويأوي إلى الصحراء، ليعتكف فيها مناجياً ربه بقلبه ولسانه، وأنه كان يوحى إليه بوساطة رؤساء الملائكة، وأنه عرج به إلى حيث الإله نفسه فصار أمامه، وأنه سحر الملوك ببراهينه، وأنه كان دائماً على رأس الدعاية التي أسسها لدينه، وأنه مات في إحدى الحروب الدينية التي كان يقوم بها تبعاً لأوامر شريعته، إلى غير ذلك من الأساطير الفاتنة التي تنظمها الشعوب عادة، لتحوط بها زعماءها أو تتخذها رمزاً لمستقبلها.

أما التاريخ فيحدثنا أن (زرادشت) نشأ في بيئة ريفية متواضعة لا تستطيع أن تحمي نفسها مما ينزل بها من غارات جيرانها، ولهذا كان أكبر ما يشغل (زرادشت) في شبابه هو أن ينجو هو وأسرته من غزو القبائل الرحالة التي كانت تتهدد تلك الجهات في ذلك العهد. ويحدثنا أيضاً أن أخلاقه الشخصية كانت على أسمى ما يمكن أن يكون في تلك العصور، فقد رأينا آنفاً أنه عارض الدين القديم لحماية الأخلاق، إذ أعلن أن الخلود لا يكون إلا جزاء للفضيلة؛ وقد أعلن كذلك أن قتل أي كائن حي في الغزو والغارات المؤلفة لأجل السرقة والسلب هو من أفظع أنواع الجرائم حتى ولو كان هذا المقتول حيواناً، ولكن التبعة في ذلك واقعة كلها على المعتدين لا على المدافعين عن أنفسهم. وعنده أيضاً أن أجل الغايات هي الخلود النفساني وإن كان السمو لم يمنعه من أن يعنى بالحياة الدنيا عناية فائقة إلى حد أن يفسح في أدعيته مكاناً عظيماً لطلب متع الحياة من: مال وخيل وجمال فيقول (أنا أسألك أن تنبئني بالحقيقة يا (أهورا) هل أنت العدل حقاً؟ وهل حقاً سأنال هذه المكافأة التي وعدت بها، وهي عشرة أفراس وحصان وجمل، وأيضاً الهبة المستقبلة التي وعدتني بها وهي النعيم والخلود).

أهم مميزات الديانة الزرادشتية

قبل أن ندخل في تفاصيل هذه الديانة يخمل بنا أن نشير إلى أهم مميزاتها العامة التي تأسست عليها، وهي:

(أ) إن هذه الديانة أسست على فكرة خطيرة أحدثت في تاريخ الديانات هزة عنيفة لا عهد لها بها من قبل، وهي أن جميع الآلهة المذكورة في تاريخ الديانات كانت آلهة محلية أي كان لكل شعب آلهته، بل لكل مقاطعة آلهتها، أو لكل قرية إلهها، وأن كل التطورات التي أحدثها الزعماء الدينيون قبل (زرادشت) كانت تتناول تغييرات داخلية كما أشرنا إلى ذلك حين مثلنا لك بأخناتون، أما (زرادشت) فقد استطاع أن يعلن في جرأة أن (أهورا مازدا) ليس إلهاً فارسياً، وإنما هو إله الكون كله، وأنه هو نبي تلقى الوحي من هذا الإله العالمي الذي ليس له شريك وإنما له خصم هو دونه في الرفعة وهو (أهرمان) إله الشر الذي سينهزم على ممر الزمن وسينعدم جنده وأنصاره بانعدام الرذيلة من فوق الأرض.

(ب) إن هذه الديانة تمتاز عن غيرها من الديانات القديمة بأنها بنيت على أساس مبدأ تعميم الخير وإبادة الشر، وهي ترى أن من أهم الوسائل الضرورية لتحقيق هذه الغاية هو تقوية النوع البشري ونشر الخصوبة والعمران على سطح الأرض. ويلاحظ بعض الباحثين أنه وإن وجد الخير والعدل في غير الديانة الفارسية من الديانات القديمة، إلا أن تلك الديانات لم تتخذهما غاية لها كما فعل (زرادشت)؛ فخصومة (أوزيريس) وشقيقه (سيت) لم تكن حرباً بين الخير والشر، وإنما كانت خصومة سياسية اضطرمت نارها من أجل الاستيلاء على العرش، وإن كان أصحاب هذا الرأي لا يستطيعون أن يجحدوا أن الحق والعدل قد فازا في هذه الأقصوصة بأكبر نصيب، ولكن هناك فرقاً بين كون العدالة ممثلة في الأسطورة كما كانت الحالة في مصر وكونها غاية لها كما هي الحال في الديانة (الزرادشتية).

أما في بابل فالحالة أدهى وأمر، إذ نلفي الآلهة هناك بعيدين كل البعد عن فكرة العدالة كما تدل على ذلك أسطورة الطوفان البابلي الذي تكبت به آلهة بابل بني الإنسان دون ذنب جنوه ولا جريمة اقترفوها، وإنما كان بسبب نزاع قام بين أولئك الآلهة.

(ج) وحد (زرادشت) بين الإله (مازدا) وبين الخير توحيداً جعلهما اسمين لمسمى واحد، فسبق أفلاطون إلى هذا المزج الفلسفي والأخلاقي العظيم. وبهذا أصبح الخير قلب الديانة (الزرادشتية) الذي ينبض بحياتها، وقد أعلن أن الخير سيعم الكون كله عندما تسود الفضيلة وينهزم إله الشر (أهرمان) الذي هو العدو الأوحد لأهورا والذي هو دائم الحرب معه مستعيناً بجنوده من أنصار الرذيلة والفساد، والذي يجب على كل مؤمن أن يقوم بنصيبه من قتاله بإبادة جانب من جوانب الرذيلة.

يرى بعض العلماء أن تأسيس الديانة الزرادشتية على الفكرة من حيث هي ليس مميزاً لها، وإنما المميز هو تأسيسها على فكرة الخير، إذ كل الديانات الراقية: قديمها وحديثها قامت على مبادئ مختلفة، فالبوذية مثلاً أسست على مبدأ: الألم، والمسيحية على مبدأ: الحب، والإسلامية على مبدأ: التوحيد.

ويعلق ذلك الفريق من العلماء على هذا الرأي بقوله: (ولكن الشعوب التي ظهرت فيها هذه الديانات لم تفهم تلك المبادئ العالية التي قصد إليها زعماؤها، وإنما أحاطوها بسياج سميك من أساطير الوثنية الأولى التي بعثوها من مراقدها وأنزلوها من الاحترام العملي منزلة طغت على الغاية الأساسية للديانة؛ فأنت إذا فتشت في هذه الديانات الراقية بعد وفاة زعمائها وجدت ذلك ملموساً لا يحتاج إلى جدل، ف (بوذا) لم يتخيل قط أنه سيؤله ويعبد بعد موته، ولو تخيل هذا في حياته لانكسر قلبه حزناً وألماً؛ و (زرادشت) لم يتصور البتة أن الشعب سيرفعه بعد عشرين سنة إلى منزلة (أهورامازدا)؛ والمسيح لم يدر له بخلد أن الشعوب التي اعتنقت ديانته ستتغالى إلى هذا الحد في شخصيته البشرية؛ ومحمد لم يكن يسمح من غير شك أن تدعو أمته قوماً من البشر للشفاء أو لقضاء الحاجات كشركاء لله الذي قضى نبيهم حياته في النداء بتوحيده وإفراده بكل شئ.

أما ما تحاوله العقلية العصرية من تفسير هذه الديانات بما يلائم روح هذا العصر فهو فاشل أو قليل النجاح، لأن عامة الشعوب لا تستطيع أن تتعقل تلك المبادئ السامية التي أتت بها هاتيك الديانات.

(يتبع)

محمد غلاب