مجلة الرسالة/العدد 215/ظاهرة هامة
→ من تاريخ الأدب المصري | مجلة الرسالة - العدد 215 ظاهرة هامة [[مؤلف:|]] |
اتجاهات الأدب العالمي في العصر الحاضر ← |
بتاريخ: 16 - 08 - 1937 |
للأستاذ عبد المغني علي حسين
يروي كثير من الناس عن بعض الذين ماتوا من أقربائهم أو أصدقائهم، أن هؤلاء، عندما حضرهم الموت كانوا يهتفون بأسماء بعض الذين سبقوهم إلى الدار الآخرة. ويروي الراوون أن المحتضر كان يتحدث إلى (الموتى) كما لو كانوا منه على مرأى وعلى مقربة. أما قول الناس في تعليل ذلك فهو أنه هذيان نتيجة اختلال الشعور. وبعض الناس يسلم بالعجز عن تعليل هذا الأمر. والجميع يعرفون بالتجربة أن المريض إذا (نادى على الأموات) على حد قولهم، فقد تحقق دنو أجله، ولم يعد ثم أمل في تماثله.
هذه الظاهرة معروفة مشهورة في بيئتنا المصرية، ولا أحسب القارئ الكريم ألا قد سمع بها، إن لم يكن شهدها بنفسه. ولكن أرجو ألا يحسبها قاصرة على البيئة المصرية، أو على أية بيئة معينة، فالواقع أنها شائعة في العالم اجمع، ومعروفة بين بني البشر على اختلاف جنسياتهم وألوانهم ومدنياتهم ودياناتهم. وهي، بالنظر لشيوعها هذا، خليقة أن تسترعي اهتمام الباحث المفكر، سيما وأنها تتصل بذلك السر الأعظم: الموت. هذه الظاهرة قد استرعت فعلا اهتمام من اشتغلوا بالبحوث الروحية، وهي عندهم عظيمة الدلالة والخطر.
أمامي الآن كتاب أخرج في عام 1925، لأحد كبار الباحثين الروحيين الإنكليز، هو سر وليم باريت، عضو الجمعية الملكية البريطانية وفي هذا الكتاب دراسة مستفيضة لتلك الظاهرة الشائعة، ومن يتصفحه ير كيف يمكن أن يصل الباحث إلى نتائج خطيرة من ظواهر مشتتة لا تحمل في ظاهرها دلالة ولا قيمة علمية. عمد الباحث المذكور إلى دراسة هذه الظاهرة دراسة استقرائية على طريقة العلم الحديث التي بلغت به إلى ما بلغ. تلك الطريقة القائمة أولاً على شهود أكبر عدد ممكن من الظواهر، ثم وصف تلك الظواهر بدقة وتفصيل وصدق، ثم المقارنة بينها وملاحظة ما فيها من عناصر مشتركة، ثم استنتاج ما يمكن استنتاجه. ويأتي بعد ذلك استنباط التجارب للوقوف على مبلغ صحة هذا الاستنتاج.
لجأ سر وليم باريت إلى أصدقائه من أطباء ومديري المستشفيات الكبيرة في مدينة لندن، طالباً تمكينه من زيارة من يحضره الوفاة من المرضى كلما سمحت الظروف وسمح ذوو المريض، فحضر بنفسه عدداً كبيراً من الحالات، ودون ما شاهده وسمعه، وكانت تعاون في هذا العمل زوجته (ليدي باريت). وكتب أيضاً إلى أصدقائه من أطباء المستشفيات في عدد كبير من مدن العالم راجياً موافاته بوصف ما قد يعرض لهم في هذا الأمر. وبذا تم له جمع عدد كبير من تلك الحالات، رتبها وبوبها، وقدمها لجمعية البحوث الروحية بلندن ثم أذاعها على ملأ القارئين في هذا الكتاب.
في الكتاب وصف دقيق لكل حالة، وبه الأسماء والأمكنة مذكورة، وكذا الزمن باليوم والساعة والدقيقة. أما المحتضر فقد يكون رجلا أو أمرأة، شيخاً أو شاباً أو طفلاً، وقد يكون إنجليزياً أو أوربياً أو أمريكياً أو هندياً أو زنجياً، وهو في أكثر الحالات يعاني آلاماً جساماً، ووجهه متجهم، فإذا به ينسى ألمه برهة، ويتهلل وجهه ويقول: (ماذا أرى؟ هذا أنت يا فلان. لقد جئت لتستصحبني. . .) أو نحو ذلك من الكلام.
ولكن لو اقتصر الأمر على مثل هذا لما كان له كبير وزن من الوجهة العلمية، إذ من الممكن القول بأن المريض وقد برحت به العلة، وتسممت أعصابه، واضطربت دورة الدم في مخه، قد اختلط عقله ولم يعد يفرق بين الحقيقة والخيال، وصار سواء عنده الشعور الذي يصل إلى مخه بالطريق المعتاد من الخارج والشعور الذي ينبعث من عقله الباطن، فالذكريات القديمة تتمثل له في شكل حقائق راهنة مصطبغة بالمشاعر المستولية عليه، فهو من هذه الوجهة كالنائم إذ يحلم بالفكرة كأنها شيء محسوس. ولكن الكتاب لا يحوي هذا الضرب من الحالات فقط، بل به مجموعة أخرى هي بيت القصيد، وهي النقطة الدقيقة حقاً التي عندها يرغم الإنسان على التفكير الجدي في أن كلام المحتضر لا يمكن أن يكون محض هذيان.
في الكتاب حالات هتف فيها المحتضر باسم شخص مات ولم يكن المحتضر يعرف إن ذلك الشخص قد مات، فكان يبدو عليه التعجب لوجود ذلك الشخص بين (الأموات) مع أنه - في زعمه - بين الأحياء. يكون المحتضر مثلاً قد دخل مستشفى منذ شهر أو أكثر، وفي تلك الأثناء توفي فجأة واحد من أقربائه، فكتم الأهل والأطباء عنه الخبر حتى لا تسوء حاله الصحية بتأثير الصدمة والحزن، فتأتي ساعة احتضاره فإذا به يحدث بعض الذين ماتوا من قبل، وبينا هو يحدثهم إذا به يقول مندهشاً (ما هذا؟ أهذا أنت يا فلان؟! وما الذي جاء بك مع هؤلاء، وكان يجب أن تكون في جهة كذا الآن؟. . .) ثم ينظر إلى الحاضرين ويقول (لماذا لم تخبروني بأن فلاناً قد سبقني، فها هو ذا قد جاء ليستصحبني. . .) أو نحو ذلك من الكلام.
وإني أورد هنا حالة من تلك الحالات اخترتها لا لأنها مؤثرة بل لأن فيها جميع العناصر التي يطلبها الباحث: طفلة في الثامنة من عمرها تدعى جيني، لها صديقة في نحو سنها تدعى أديث. مرضت جيني ونقلت إلى مستشفى، وفي أثناء مرضها توفيت أديث فجأة، وكتم الخبر عن جيني، فلما جاء الموت يطلب جيني رجت الحاضرين أن يبعثوا بصورة من صورها إلى أديث كتذكار، مما يثبت أن الخبر كتم عنها حقيقة. وبعد دقائق من رجائها هذا قالت: (انظروا! هذه هي أديث. إنها تقول إنها ستكون معي. لماذا لم تخبروني بذلك. . .)
تدل ظواهر هذا النوع من الحالات على أن المحتضر يدرك تماماً أن في الحجرة معه طائفتين من الناس، الطائفة المعتادة من أهل هذه الدنيا، وطائفة أخرى من أهل العالم الذي هو قادم عليه، والطائفة الثانية لا تقل عنده عن الأولى وضوحاً، وليست ابعد عن حسه من الطائفة الأولى.
يقول المؤلف: (إن مثل هذه الحالات تضطر الإنسان إلى التسليم بالغرض الروحي، حتى أن البروفيسور شارل ريشيه لم يجد بداً من التسليم بأن نظريته عن الحاسة السادسة لا تكفي لتعليل هذا النوع من الظواهر. . .)
وفي الكتاب أبواب فيها وصف موسيقى سمعت ساعة احتضار بعض الناس دون أن يكون لها مصدر عادي معروف. وبهذه المناسبة أقول إن بعض من أصدقهم روى لي انه حضر موت شاب في ريعانه شبابه فسمع مع الحاضرين (زغردة) انبعثت من أحد أركان الحجرة، ولم تكن صادرة بطبيعة الظروف عن أية واحدة من الحاضرات.
وبعد فلعل القارئ الكريم يسلم معي بما لهذه الظاهرة وأشباهها من دلالة، وبأنها تفتقر فقط إلى الدراسة المنظمة. أما من وجهة الدين فهناك الأقوال بأن المحتضر يرى أرواح الموتى ويحادثهم: روي أن بلالاً كان يبتسم عند الموت، فقيل له في ذلك فقال (سنلقى الأحبة محمداً وحزبه) وروى ابن مالك عن أبي أيوب الأنصاري قال: (إذا قبضت نفس المؤمن تلقاها أهل الرحمة من عباد الله كما يتلقون البشير من الدنيا، فيقبلون عليه ويسألونه، فيقول بعضهم لبعض: انظروا أخاكم ليستريح فإنه كان في كرب شديد. قال: فيقبلون عليه ويسألونه ما فعل فلان، ما فعلت فلانة. . .) الحديث.
عبد المغني علي حسين