الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 215/الفلسفة الشرقية بحوث تحليلية

مجلة الرسالة/العدد 215/الفلسفة الشرقية بحوث تحليلية

مجلة الرسالة - العدد 215
الفلسفة الشرقية بحوث تحليلية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 16 - 08 - 1937


بقلم الدكتور محمد غلاب أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 17 -

المدرسة اليوجية

نشأت هذه المدرسة حوالي القرن الثاني قبل المسيح على أصح الأقوال وسارت في تعاليمها على منهج مدرسة (سامكهيا) ولهذا لم يكن لها في الإبداع الفلسفي شيء يستحق الذكر، وإنما يقدر مجهودها في السلوك العملي الذي بعثته من مرقده بعد أن طغت عليه عوامل أخرى شديدة التأثير. ويتلخص هذا السلوك في الزهادة التامة ومحاولة إنقاذ الروح من سلطان البدن ومحاسبة الإنسان نفسه على مقدار ما حصل عليه كل عضو على حدة من هذا التحرر من سيطرة المادة.

وعندها أن الإنسان مكون من قنوات كثيرة، وأن العلة الوحيدة في أنه لا يصل إلى مبتغاه من المثل الأعلى في الخلوص من الطبيعة هي أنه حين يتزهد لا ينجح في مراقبة جميع أعضائه، وإنما هو يسيطر على بعضها فقط. فالبعض المتروك هو سبب الرسوب في هوى الطبيعة السحيقة والرزوح تحت أنيارها الثقيلة والرسوب في أغلالها الضيقة.

أما من استطاع أن يخلص كليته بتمامها من سلطان المادة، فإنه يصير إلى نهاية المعرفة فينكشف له ما وراء الحجب ويحيط بأسرار الأقدار ويدرك كل ما تجري به أقلام الغيب وتحصل عنده القدرة الكاملة على قهر الزمان والمكان فينطويان أمامه متى شاء وكيف شاء. ويستطيع أن يختفي عن الأعين وأن يتشكل بأية صورة يشاء وأن يشكل جميع العناصر كما يريد، وأن يحيط بمكنونات أفكار غيره، وأن يظهر في عدة أمكنة في نفس اللحظة، فإذا وصل إلى هذه المرتبة فقد حصل على درجة الغيبوبة وتفانى في الكل الأول، وهذه هي عليا درجات الكون أو غاية اليوجية، ولعل ألطف رد على تلاميذ هذه المدرسة هو ما قاله أحد قواد إحدى الفرق الحربية الإنجليزية في الهند حين سمع هذه الميزات التي يعزوها (اليوجيون) إلى مدرستهم، فقال: ساخراً (إني أظن إن زهاد الهنود إن استطاعوا - كما يزعمون - التغلب على الزمان والمكان والاختفاء عن الأعين واختراق حجب الأقد ومعرفة خفايا الأسرار إلى آخر ما يدعون، فإني على يقين من أنهم لا يستطيعون التغلب على رصاص بنادقنا وقذائف مدافعنا).

غير أن نساك اليوجيين قد وجدوا لهذا الاعتراض رداً وهو أن حصول الشخص على الميزة شيء واستعمالها الفعلي الذي ينشأ عنه انقلاب نظام الكون شيء آخر.

ومهما يكن من الأمر، فإن هذه المدرسة تعتبر مثلاً أعلى في التنسك والزهادة وإن كانت تابعة لغيرها في الأفكار والنظريات. ولما كانت تعاليمها المتنسكة تتفق مع طبيعة الهنود وما فطروا عليه من روحانية وميل شديد إلى العزلة، وانعطاف قوي نحو التأمل في أسرار الكون وخفايا الوجود، فقد راجت مبادئها رواجاً عظيماً، واعتنقها خلق كثير، ولا تزال إلى اليوم حية آهلة بالمعتنقين والمريدين.

الفيدانتا

كان هذا المذهب في أول نشأته محصوراً في شرح (الفيدا) وتأويلها وتخريج آياتها المتشابهة، ولكنه بفضل تلك البحوث المستفيضة التي كان زعماؤه يخرجونها حول تلك النصوص العتيدة المغرقة في التعقد أخذ يرتقي شيئاً فشيئاً ويخطو إلى النظر العقلي خطوات واسعة حتى تحول إلى فلسفة نظرية عويصة في عهد (سانكرا) ذلك الفيلسوف العظيم الذي يؤكد الباحثون العصريون أنه لا يقل عمقاً في التفكير ودقة في النظر وغوصاً في بحر الفلسفة المنطقية عن (كانْتْ) و (هيجل) وهما أرقى فيلسوفين في العصر الحديث.

يرى هذا الفيلسوف أن العالم صدر عن الله بطريق الانبثاق، وهو يعود إليه بطريق الجذب، وهذه فكرة قديمة سبق بها الأولون هذا الفيلسوف بزمن بعيد، ولكنها أخذت تتطور بين مباحث هذه المدرسة حتى وصلت إلى حلولية من النوع الراقي، فقررت أن هذا العالم الظاهر ليس هو حقيقة الإله، وإنما هو كائن أدنى محدث، ولكن كل جزئية منه تشتمل على طرف من تلك الحقيقة الإلهية، ولهذا يجب أن يفهم الإنسان أن شخصه الخارجي الذي يشبه غيره في شيء ويختلف عنه في شيء، والذي يولد ويموت ويأكل ويشرب ليس في الحقيقة شيئاً مذكوراً وإنما الذي يجب أن ينظر إليه في شخصه هو الحقيقة الإلهية، لهذا يصح أن يقال له: أنت الإنسان والإله، أنت الخالق والمخلوق، والعابد والمعبود، أنت المشخص و (اللا مشخص). وإذا صرفنا النظر عن الناحية الدنيا فيه، قلنا له: أنت الواحد الأوحد والكل الأعلى والأول والآخر.

ولما كانت هذه المدرسة تؤسس تعاليمها على أن عالم الظاهر لا يساوي شيئاً كما أسلفنا، فقد احتقرت المعرفة الظاهرية واستخفت بالتجربة والمشاهدات إلى أبعد حدود الاستخفاف وأعلنت أن المعرفة الوحيدة الجديرة بالإجلال هي معرفة الحق الأعلى أو هي ما كان موضوعها الحقيقة الإلهية، وإنها لا تجيء غلا عن طريق الإلهام البصيري الذي يتوصل غليه بالتنسك والرياضة والخلوص من المادة. وأخيراً أعلن (سانكرا) أنه لا يصل إلى (براهمان) إلا من تحققت لديه المعرفة الكاملة وتخلص من جميع علائق المادة، إذ هو في هذه الحالة وحدها يصل إلى درجة الغيبوبة الكاملة أو التفاني في الله أو السعادة الأبدية.

غير أنه لم يكد يعلن هذه الآراء حتى هب المتعصبون من البراهمة يرمونه بأنه بوذي يتقمص جسم براهمي، أو زنديق يرتدي ثوب متدين، لأن النتيجة الأخيرة التي انتهى إليها مذهبه هي نفس زبدة تعاليم البوذية، ثم جعلوا يحاربون مذهبه بكل ما أوتوا من قوة وسلطان حتى قضوا عليه، وكان ذلك موافقاً بالمصادفة لأوان الفتح الإسلامي، فاجتمع هذان العاملان وتكاتفا على قطع هذه السلسلة الفكرية من تاريخ الهند، وعلى بدء تاريخ جديد يبرز للباحثين اثر الإسلام في تلك الأصقاع على صورته الحقيقية.

خاتمة

الطبيعة - الرياضة - المنطق

لا نريد أن نغادر الحديث عن تلك البلاد إلا بعد أن نقرر في صراحة أن الفلسفة بجميع أقسامها: الإلهية والرياضية والطبيعية قد أزهرت فيها إزهاراً فائقاً، وأن المقدمة الضرورية للفلسفة وهي المنطق قد بلغت في مدارسها الحد الكافي للتفلسف الراقي.

فأما الإلهيات فأحسب أن ما مر بك فيها كاف للتدليل على ما نقول. وأما الرياضة بجميع أقسامها فلم تصل في أي بلد آخر - إذا استثنينا مصر - إلى مثل ما وصلت غليه الهند من رفعة وارتقاء. ويكفي أن نصرح بأن الهنود هم أساتذة (فيثاغورس) اكبر رياضي اليونان على الإطلاق، وهم أساتذة العرب في الحساب والهندسة والفلك، بل إن أرقام الحساب المستعملة الآن في العربية هي هندية الأصل.

أما الطبيعة فحسبنا لنبرهن على سابقيتهم فيها أن نعلن أنهم قد وصلوا إلى نظرية (الذر) أو الجوهر الفرد قبل (ديموقريطس) و (لوسيب) أول قائلين بهذا في بلاد اليونان بزمن بعيد، وأنهم قاموا في الكيمياء بتجارب جبارة كلفت الكثيرين منهم الحياة نفسها كما روى التاريخ في عدة نواح من حديثه عن تلك البلاد.

وأما المنطق فهو قديم جداً في المدارس الهندية حتى ليرجعه بعض المؤرخين إلى القرن الثاني عشر. ولا شك أن أصحاب هذا الرأي يجزمون بأن المنطق الهندي هو أساس منطق أرسطو، ولكن البعض الآخر لا يصعد بالمنطق الهندي على سلم الماضي أكثر من عصر المدرسة اليوجية أي بعد عصر ارسطو، ولكن هذا الرأي الأخير غير صحيح، إذ أن المنطق قد وجد بلا شك في مدرسة (سامكهيا) وهي قبل أرسطو بزمن بعيد.

وعلى هذا نستطيع أن نجزم بأن الفلسفة بأكمل معانيها قد وجدت في بلاد الهند. وأن اليونان مدينة لتلك البلاد بكثير من نظرياتها التي يعتقد السطحيون أنها مبتدعة، وبالتالي نصرح أن الهند كانت ولا تزال لبنة هامة، بل حجراً أساسياً في بناء الفكر البشري الراقي ما في ذلك شك ولا ارتياب.

(يتبع)

محمد غلاب