مجلة الرسالة/العدد 214/رسالة النقد
→ البَريدُ الأدَبيّ | مجلة الرسالة - العدد 214 رسالة النقد [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 09 - 08 - 1937 |
نقد كتاب إحياء النحو
تأليف الأستاذ إبراهيم مصطفى
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 1 -
لا ريب في أن نحو اللغة العربية ثقيل عسير، يحتاج إلى كثير من التهذيب والتبويب؛ ليصبح سهل المأخذ، قريباً إلى النفوس، محبباً إليها درسه وفهم قواعده وأصوله
ولقد أخذت كتاب إحياء النحو، راجياً أن أجد فيه - كما يدل عنوانه - روحا جديدة تبعث في النحو الحياة، أو فكرة حديثة تذلل صعبه، وتجمع ما تشتت من أبوابه ومسائله، وهاأنذا، بعد القراءة، أبين رأيي في الكتاب، بالصراحة التي يتطلبها العلم، وبالأدلة التي لا تدع مجالاً للشك، آملا أن أكون قد وفيت بحق النقد البريء
وسوف أنهج في بحثي النهج الذي اتبعه المؤلف، فأذكر النتائج التي وصلت إليها بعد القراءة، ثم أتحدث بالتفصيل عن الأسباب التي أدت إليها، ويؤلمني أن تكون النتائج هي:
أولاً: أن الكتاب ليس فيه شيء جديد
ثانياً: أن الكتاب لم يحدث في دراسة النحو، أو كتبه، أو قواعده أي تغيير أو تبديل
ثالثاً: أن ما في الكتاب ليس إلا تعليلات كهذه التعليلات التي يستنبطها النحاة لشرح ما بين أيديهم، مما وقع في كلام العرب، وإنك لواجد مثل هذه التعليلات التي جاء بها المؤلف، وأكثر منها في الحواشي والتقارير
رابعاً: أن المؤلف ادعى على النحاة قضايا غير ممحصة
خامساً: أنه في الأبواب القليلة التي أراد ضم بعضها إلى بعض يزيد النحو عسراً، لا سهولة وفهماً، فضلاً عن أنه لم ينجح في هذا الضم
وسآخذ الآن في مناقشة آرائه، وتفصيل القول فيها:
تعريف النحو
يأخذ المؤلف على النحاة، أنهم يعرفون النحو بأنه علم يعرف به أحوال أواخر الكلم إعراباً وبناء؛ وهم لذلك قد ضيقوا دائرته تضييقاً شديداً، ويجب (في رأيه) أن تتسع هذه الدائرة، حتى يصبح النحو قانون تأليف الكلام، وبيان كل ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة، والجملة مع الجمل، حتى تتسق العبارة، ويمكن أن تؤدي معناها
وليسمح لي الأستاذ المؤلف أن أخبره بأن هذا التعريف غامض الغموض كله، فبيان كل ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة قول عام مبهم، يشمل بيان أن تكون هذه الكلمة مستعملة في معناها الحقيقي، أو غير مستعملة، قصد بها السجع مع كلمة أخرى أو لم يقصد، رمي بها إلى طباق أو تورية أو جناس، أو لم يُرَمَ بها، إلى غير ذلك، وعلى هذا يشمل تعريف النحو علوم اللغة العربية كلها. لأنها جميعاً ما وضعت إلا لبيان كلّ ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة؛ ثم قسمت وأصبح لكل علم اختصاص خاص؛ ولا احسبني في حاجة إلى أن أحدث الأستاذ عن اختصاص علم المعاني وعلم البيان وعلم البديع، التي ترمي جميعها مع علم النحو، كما قلت، إلى بيان ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة؛ ولا أخال المؤلف يريد أن يجعل علم النحو عاماًُ شاملاً يضمّ تحت جناحيه علوم العربية كلها.
ولكن يظهر أن المؤلف (وتعريفه لعلم النحو غير محددّ ولا واضح كما قلت) يرمي بكل ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة إلى وصف حالها من تقديم أو تأخير أو نفي أو إثبات أو تأكيد أو استفهام، وهنا أريد أن أقف وقفة قصير نستبين فيها غرض علم النحو وغايته.
لا احسبني أبعد عن الصواب إذا قلت: إن غرض علم النحو (كما هو واضح فيما بين أيدينا من كتبه) ليس إلا تكوين الجمل تكويناً سليماً، وإقدارنا على النطق الصحيح الخالي من الخطأ في التركيب. فليس صحيحاً إذاً أن ندعي على النحاة أنهم قصروابحثهم على أواخر الكلمات، بل هم قد تعرضوا كثيراً، وكثيراً جداً، أكثر مما توهم المؤلف الفاضل إلى بيان وضع الكلمة من الكلمة والجملة من الجملة، وإلى حذف بعض أجزاء الكلام لدليل أو لغير دليل، وإلى كثير مما يعرض للكلمة من النفي والإثبات. وأكبر الظن أني أجلب السآمة للقارئ إذا أنا أخذت أحدثه عما في كتب النحو من ذلك كله، ولست أكلفه إلا أن يرجع إلى كتاب من هذه الكتب ليرى بعينيه أن المؤلف كان مغالياً كل المغالاة حين ادعى على النحاة أنهم لم يعنوا إلا بأواخر الكلمات. ولأجلب الطمأنينة إلى النفوس سوف أنقل هنا مثالاً صغيراً يبين دعواي: قال ابن هشام في كتابه أوضح المسالك: وللفاعل أحكام: أحدها الرفع. . . الثاني وقوعه بعد المسند. . . الثالث أنه لا بد منه. . . الرابع أنه يصح حذف فعله. . . الخامس أن فعله يوحد مع تثنيته وجمعه. . . السادس أنه إن كان مؤنثاً أنث فعله بتاء ساكنة. . . السابع أن الأصل فيه أن يتصل بفعله، ثم يجيء المفعول، وقد يعكس، وقد يتقدمهما المفعول، وكل من ذلك جائز وواجب. . الخ فأنت ترى من هذا أن حكم آخر الكلمة لم ينل إلا واحداً من سبعة - بل أقل من ذلك كثيراً - من عناية ابن هشام؛ أما بقية أحكام الفاعل فهي علاقته بالكلمة التي قبله وبعده، وما يعرض لهذه العلاقة من تذكير أو تأنيث أو تقديم أو تأخير أو غير ذلك. وإذا شئت أن أعد الكثير من أبواب النحو التي تنقض ادعاء المؤلف طال بي القول وانتهى بي إلى الإملال
أما إذا قصد المؤلف إلى أن من غرض النحو أن يفضل أسلوباً على أسلوب، أو أن يوجب نحواً خاصاً من التعبير إذا كان الحال يستدعيه، أو أن يبين سر جمال نوع من القول - فذلك أمر قد تكفل به علم المعاني والبيان والبديع، فالنحو مثلاً يقف أمام الجمل الآتية موقف المصحح لها جميعاً وهي: مصر مستقلة، وإن مصر مستقلة، وإن مصر لمستقلة، واستقلت مصر، ومصر استقلت؛ يصحح النحو هذه الجمل كلها ويقبلها، وإذا تكلمت بواحدة منها في أي حال قبلها النحو، ولم يخطئها؛ أما علم المعاني فينظر إلى الحال التي يقال فيها الكلام، فعندما يكون المخاطب منكراً استقلال مصر مثلاً وقلت مصر مستقلة كنت مخطئاً، لأن الحال يستدعي أن تؤكد له القول، وأن تقول له: إن مصر مستقلة. فإذا أراد المؤلف أن يجعل ما يبحث فيه علم المعاني والبيان من اختصاص علم النحو، ومما يجب أن تتناوله بحوثه، فأنه لم يزد على أن ضم علمين أحدهما إلى الآخر من غير ضرورة ملحة بل ضماً يجلب معه الاضطراب والخلط.
هذا إلى أن المؤلف لم يشر إلى علاقة الكلمة بالكلمة. ولا ارتباط الجملة بالجملة من أول كتابه إلى آخره، بل قصره على حكم آخر الكلمات، ولم يعن بغيرها.
فلسفة العامل
أطنب المؤلف في ذكر فلسفة العامل وبيان أهميته لدى النحاة، ذم أخذ ينقذ مذهبهم من غير أن يذكر رأيه الصريح في العامل، فالنحاة قد اضطروا - لمذهبهم في وجوب ذكر العامل - إلى التقدير الذي سماه تقديراً صناعياً، ولم يبين لنا كيف نحلل هذه الجمل التي أضطر النحاة فيها إلى التقدير. وهل نكتفي حين نبين مكان كلمة الضيف في قولنا: الضيفَ أكرمته، بأن نقول إن الضيف لم يرد به أن يكون مسنداً إليه، ولا مضافاً إليه، ولذلك كان منصوباً، أم ماذا؟
أما أن النحاة بالتزامهم أصول فلسفة العامل قد أضاعوا معاني الكلام في باب المفعول معه، فلا إخالني في حاجة إلى بيان تحامل المؤلف مما نقله هو حين تحدث عن المفعول معه من أن النحاة قد تنبهوا للمعنى، وأوجبوا أن يتبعه اللفظ؛ فقد قال الرضي في شرح الكافية ما نصه: الأولى أن يقال: إن قصد النصّ على المصاحبة وجب النصب وإلا فلا. ففكرة النظر إلى المعنى في المفعول معه قديمة معروفة، وهي التي يقتلها العقل ويستريح إليها.
وأما ما أنتقده المؤلف من كثرة خلاف النحاة في كل عامل يتصدون لبيانه، فالمغالاة فيه ظاهرة، فهذه الخلافات لا تجدها في لباب كتب النحو، ولكنك تجدها في الحواشي والتقارير، ولا يعطى لها من العناية إلا مقدار ضئيل لا يخشى منه على دراسة لباب النحو وأصوله؛ على أن الأستاذ المؤلف قد زاد رأياً جديداً في عامل النصب وأنه وجود الكلمة في حالة لا يراد بها أن تكون مسنداً إليها ولا مضافة وسوف نناقشه في ذلك.
معاني الأعراب
جعل المؤلف الضمة والكسرة علامتي إعراب فحسب، أما الفتحة فليست علامة إعراب ولا دالة على شيء، بل هي الحركة الخفيفة المستحبة عند العرب التي يراد بها أن تنتهي بها الكلمة كلما أمكن ذلك، فهي بمثابة السكون في لغة العامة.
ذلك قول يتهدم أمام النقد:
أولاً: لأنه ليس من المعقول ولا من الواقع في شيء أن تكون المعاني التي قصد إليها العربي تدور حول اثنين: هما الإسناد والاضافة، حتى يهتم بهما العربي حدهما ولا يعنى بغيرهما فلا يضع له علامة تدل عليه، فعندنا الحال والتمييز وعندنا أنواع المفعول والاستثناء، ولا أخال واحداً مما ذكرت أقل من معنى الإضافة حظاً لدى اهتمام العربي بل إن بعض هذه الأنواع لا يتم الكلام إلا به، ولا يفهم المعنى إلا بذكره، فالكلام يكون أبتر ناقصاً إذا حذفت الحال أو المستثنى أو نوعاً من أنواع المفعول أو التمييز؛ وإذا شئت أن تلمس ذلك فهاك أمثلة توضح لك ما قلنا:
تقول: عدت المريض، واجتهدت رغبة في النجاح، وسوف أزورك الساعة الخامسة، ونجح التلاميذ إلا سعيداً، واشتريت أقتين جبناً، وما جئتك إلا زائراً؛ فانظر كيف كمل المعنى في المقال الأول بذكر المفعول به، ولو أنك حذفته لصار المعنى ناقصاً مبتوراً؛ وفي المثال الثاني إذا أنت حذفت المفعول لأجله، جعلت الكلام غير معلل ولا مسبب، فتقل فائدته ومعناه؛ أما إذا حذفت المفعول فيه في الجملة الثالثة فإنك سوف تلقي بمن تزوره في خضم من الظن والتخمين، لأنه لا يدري متى تزوره حتى يتهيأ للقائك؛ ولا أخال المستثنى في المثال الرابع يقل أهمية عن المستثنى منه، فكلاهما مقصود يهتم به القائل، ولو أنك حذفت المستثنى لفسد المعنى وأصبح خاطئاً. وقل مثل ذلك في الحال والتمييز؛ فقد بدا لك أن العربي يقصد هذه الأنواع قصداً، ويعنى بها عناية تامة، فلِمَ لَمْ يميز كلا منها بحركة، كما ميز المضاف إليه بحركة، وإذا علمت أن المضاف إليه لم يذكر في الكلام قصداً، ولم يؤت به لأنه مراد لذاته، (كما يقولون) وإنما جيء به لتعريف المضاف أو تخصيصه وتقليل شيوعه فحسب - إذا علمت ذلك أدركك العجب حين ترى أن ما يقصد في الكلام ويعنى به: من حال أو تمييز أو غيرهما، لا يهتم العربي بأن يجعل له علامة خاصة تدل عليه، أما ما يذكر عرضاً فإن العربي يحتفل به أيما احتفال، ويضع له حركة تميزه. ذلك قول لا يستطيع العقل أن يقبله.
ثانياً: لأنه ليس من الصحيح أن الفتحة هي الحركة الخفيفة المستحبة التي يراد أن تنتهي بها الكلمة، فلو كان ذلك صحيحاً ما وقف العرب بالسكون على الكلمات التي تنتهي بالفتحة، ولا انتهزوا فرصة اختتامها بالفتحة، فوقفوا بها استمتاعاً بما يحبونه من نطقها. ولست أدري كيف وصل المؤلف إلى هذه النتيجة وكيف استنبطها، مع أنه ليس في الكلام العربي كله كلمات يقف عليها المرء بالفتح إلا إذا كان آخر الاسم منوناً مفتوحاً، فلو كان العرب يحبون الوقوف بالفتحة لجعلوا وقفهم بها لا بالسكون، ولاختتموا بالفتحة كل كلمة تقع في آخر الجملة، ولما أتوا بكلمات مفتوحة في أول الكلام ووسطه؛ وذلك غير ما هو واقع بين أيدينا.
ثالثاً: لأن المؤلف أراد أن يجعل الضمة علامة الإسناد، فتكلف في سبيل ذلك عناء ومشقة، وانتحل أسباباً لا تثبت أمام الانتقاد:
فمن ذلك أنه أضطر في سلامة قاعدته إلى أن يخرج أسم (لا) من أن يكون مسنداً إليه، لأنه ليس بمتحدث عنه، ولذلك كان حقه الفتحة.
(يتبع)
أحمد أحمد بدوي