مجلة الرسالة/العدد 213/إبراهيم باشا
→ للأدب والتاريخ | مجلة الرسالة - العدد 213 إبراهيم باشا [[مؤلف:|]] |
مشروع تقسيم فلسطين وأخطاره ← |
بتاريخ: 02 - 08 - 1937 |
موقعة نصيبين
- 2 -
واستقبل حافظ باشا الأمير ألاي والبكباشي الذي كان يصحبه أحسن استقبال، وأتحفهم بالهدايا وأخبرهم أنه سيرسل رده في اليوم التالي. وكانت الروح السارية في هذا الرد من أوله إلى آخره هي أن الخضوع لا يكون بالأقوال بل بالأفعال. ثم انتقل حافظ باشا من هذا المبدأ إلى قوله إنه لا يعترف بأن التهم التي يوجهها إليه إبراهيم قائمة على أساس صحيح؛ وحاول أن يثبت أن الجنود المصرية لا الجنود الشاهانية هي المعتدية، وجاء في ختام هذا الخطاب ما يأتي:
(لقد أعطيت لنفسي الحرية في كتابة هذه الرسالة الودية، لتكون دليلا على حسن نيتي؛ وقد أرسلتها مع الأمير الاي حاذق بك وبصحبته الأمير الاي أحمد بك من ضباط الجيش الشاهاني المظفر. وعندما تصلكم هذه الرسالة إن شاء الله سيتوقف العمل بما فيها على حكمتكم السامية).
وبينما كانا القائدان يتبادلان الرسائل على هذا النحو، كان رسول يستحث الخطى إلى إبراهيم، يحمل إليه رسالة من أبيه مؤرخة 9 يونية سنة 1839 يقول فيها:
(تسلمت رسالتك التي تقول فيها إن العدو يواصل زحفه وإنه احتل الآن ستين قرية وراء عينتاب، وانه وزع السلاح على الأهالي وحرض العصاة على مهاجمة عَكّار وسلب أموال حاكمها وقتله. وقد قلت بعد ذلك إنه ليس من الحكمة أن يسمح للأتراك بالسير على هذه الخطة، وطلبت إليّ أن أخبرك بما تفعل.
(إن اعتداء العدو علينا قد تجاوز كل حد معقول، وإذا ما صبرنا عليه بعد ذلك عز علينا أن نقفه، لأنه يبذر بذور الفتن ذات اليمين وذات الشمال؛ وكلما صبرنا عليه رغبة منا في عدم معارضة رغبات الدول الكبرى، زاد عدونا إيغالا في بلادنا وزادت الأمور حرجا. وتلك حال ترغمنا على العمل؛ فعلينا أن نرد هجومه بهجوم مثله. ولما كان العدو هو المعتدي فإن الدول لن تلقي التبعة علينا.
(فنصيحتي إليك أن تبادر عند وصول رسالتي إلى يديك بالهجوم على جنود العدو الذين دخلوا في أرضنا، وأن لا تكتفي بإخراجهم منها، بل عليك أن تزحف على جيش العدو الأكبر وتقاتله)
ووصلت هذه الأوامر إلى إبراهيم في غسق الليل؛ فأراد أن يهاجم العدو عند مطلع فجر اليوم التالي. ورأى سليمان باشا (الكولونيل سيف ساعد إبراهيم الأيمن، الذي طالما أشرنا إليه في هذا الكتاب) غير هذا الرأي، وأصر على أن وجود الضباط البروسيين في جيش حافظ باشا يحمله على الظن بأن مواقع العدو قوية محصنة؛ وطلب الضابط الفرنسي أن يستكشفا بنفسهما تلك المواقع قبل الهجوم عليه. ولما كان من شيمة إبراهيم أن ينصاع دائماً إلى حكم العقل، فقد قبل هذا الرأي عن رضى وطيب خاطر.
وفي صباح اليوم التالي اضطلع القائدان نفسهما بتلك المهمة الخطيرة، مهمة استطلاع مواقع الجيش التركي. ومازالا يقتربان من خط النار حتى أصاب الرصاص حصان أحد جنودهما فقتله وكانت نتيجة هذا الاستطلاع أن عرفا أن نصيبين التي اعتصم بها حافظ باشا أمنع من عقاب الجو، وأن ليس في مقدورهما أن يستوليا عليها عنوة، لأن فون ملتكه وفون ملباخ نصبا معسكر الأتراك عند سفح التل الذي يجري عنده نهر كرزين
وجعلا هذا النهر حائلا بين المصريين والجيش التركي. ولذلك اضطر المصريون أن ينسحبوا من مواقعهم ويهاجموا العدو من جهة أخرى. وأيقن إبراهيم وسليمان باشا أن الفضل في اختيار هذا الموقع المنيع الذي اتخذه الجيش التركي لنفسه يرجع إلى مهارة الضباط البروسيين وخبرتهم الفنية، ولكنهما قدرا أن الألمان لن يستطيعوا أن يتنبئوا بالحركة الجريئة التي سوف يقدمان عليها
والحق أنهما لم يخطئا التقدير، لكنهما حين أقدما على ما أقدما عليه عرضا أنفسهما لأشد الأخطار رغم أنهما بنيا خطتهما على نفسية البروسيين وعقلية الأتراك. وقد وصف تلك الخطة إيميه فنترنييه صاحب سيرة سليمان باشا بقوله:
(وكانت فكرة سليمان وميضاً من العبقرية إذا أفلحت وأوهاما من عقل مخبول إذا أخفقت. ولكنه كان مؤمناً بصوابها، واستطاع أن يبث هذا الإيمان في الجيش كله لا فرق بين قائده الأعلى وأصغر جندي فيه).
وكانت الخطة التي نفذت بإشراف إبراهيم وعلى مسئوليته هي أن يترك الجيش المصري المعسكر الذي كان يحتله وقتئذ، ويسير مخترقا قرية مزار، وأن يتم ذلك بين طلوع الفجر وغسق الليل؛ ثم يلتف حول جبل بيازار ويعود بعدئذ فيتجه نحو العدو مولياً شطر الجنوب في اتجاه قرية كرد قلعة، وكانت الفكرة التي بنيت عليها هذه الحركة كلها هي: أولا أن فون ملتكه عندما يرى أن الجيش المصري قد رفع معسكره لا يشك مطلقاً في أن قواد هذا الجيش لن يفعلوا ما كانوا ينوون أن يفعلوه، وهو تعريض جناحهم للخطر، وأنه سيمكنهم بذلك من أن ينفذوا الشطر الأول من خطتهم قبل أن يدرك حقيقتها. وثانياً أن فون ملتكه إذا ما أدرك حقيقة الموقف وأراد الانسحاب إلى مواقع خير من مواقعه الأولى ليهاجم منها المصريين قبل أن يصلوا إلى أماكن آمنة، لن يتمكن من التغلب على كبرياء القائد التركي، بل إن هذا القائد سيتغلب على المنطق الألماني الضعيف.
ويقال إنه لما فرض حافظ باشا رأيه على الضباط الألمان غضبوا أشد الغضب ورفعوا إليه استقالتهم، فلما فعلوا ذلك قال لهم السر عسكر: (إن الجندي لا يستقيل قبيل الموقعة). وكان هذا الالتجاء إلى المبادئ الخلقية العسكرية كافياً لحل المشكلة، فلم ينسحب فون ملتكه بل أفرغ وسعه في معالجة هذه الحال الطارئة، فعدل خططه ونقل مدافعه التي أصبحت عديمة الفائدة لأن المصريين أبوا أن يقدموا أجسامهم طعاماً لنيرانها، ووضعها حيث يمكنه الاستفادة منها. وأيقن أن الموقعة الحاسمة ستبدأ عند مطلع فجر اليوم التالي، وكان يخشى أن تكون نتيجتها وبالاً على الجيش العثماني، لأن إبراهيم خرج على القوانين الحربية، فأبى أن يتبع البديهيات الأولى في فن الحروب، وخرق مبادئها الأولية. ولشد ما تألم ذلك العالم الخبير بفنون الحرب حين رأى أن عدوه قد أبى أن يعمل ما يجب عليه أن يعمله. ولاشك في أنه كان يعتقد أن أمثال ماكماهون وبازين ممن يتمسكون بالقواعد والأصول، خير من رجال كإبراهيم أو سليمان باشا يضعون قواعدهم لأنفسهم.
وما أسفر صبح اليوم الرابع والعشرين من شهر يونيه حتى بدأت المعركة بهجوم المصريين. وكان جل اعتماد الأتراك على فرسانهم لأنهم ظنوا أن طبيعة الأرض تحتم عليهم اتباع هذه الخطة الحربية. وقد يكونون مصيبين في ظنهم لأننا لا ندعي لأنفسنا تلك الخبرة بالفنون العسكرية التي تمكننا من أن نبدي رأيا في هذا الموضوع. وكل الذي يعنينا هنا هو أن مشاة المصريين صدوا هجوم الفرسان العثمانيين، فولى هؤلاء الفرسان الأدبار لا يلوي أخرهم على أولهم. وعندئذ وقع الاضطراب في صفوف الجيش العثماني كله فتضعضعت أركانه ولم تأت الساعة التاسعة حتى كان إبراهيم سيد الميدان غير المنازع.
وأقبل إبراهيم على خيمة حافظ باشا. وقد وصفها فنترنييه وصفاً لا نعتقد أنه كان جاداً فيه؛ لأنه قال: (إنها كانت واسعة الأرجاء كأنها قصر مشيد، مزخرفة كأنها حجرة استقبال لأحد الأباطرة العظام، يبهر الرائي جلالها وعظمتها) يبدو على هذا القول كثير من المبالغة، ولكن الذي لاشك فيه أنه كان في هذه الخيمة المزخرفة أريكة من الأرائك التركية المطعمة بالصدف، البعيدة عن الذوق والجمال الفني بعدها عن النفع، ثمنها عظيم ولكن الجالس عليها في عناء. وقد ترك بعضهم على هذه الأريكة أوسمة حافظ باشا ورسائله.
فلما دخل إبراهيم هذا المسكن المؤقت المترف، الذي لا نشك في أن فون ملتكه كان يعده مخالفاً للسطرين الثالث والرابع من الفقرة التاسعة من القسم الرابع عشر من المادة الثانية عشرة بعد المائتين من القواعد الخاصة بنظام الجيوش في الميدان، كان يكسوه العثير ويتصبب من جبينه العرق. ولما رأى هذه الأبهة الكاذبة تبسم ابتسامة ملؤها السخرية والازدراء، ومشى من فوره إلى الأريكة غير حافل بالأوسمة التي لم تكن لها قيمة في نظره، لأنه أكبر من أن يهتم بهذه الصغائر. ولكن الوثائق المتروكة وما قد يكون فيها من أمور ذات بال استرعت نظره، فوقف يفحصها وإذا به يجد فيها فرمانا يعين حافظ باشا والياً على مصر بدل والده فأمر أن يعنى بفحص الأوراق الباقية عساه أن يجد فيها من المعلومات ما له قيمة حربية. وبعد أن وكل هذه الأمور إلى من يعنى بها، أرسل الفرسان المصريين لمطاردة الأتراك الفارين، وأعد العدة لمواصلة الزحف على مرعش وملطية وديار بكر
ويقول لنا القنصل اليوناني العام في تقريره المرسل إلى أثينا إن إبراهيم كتب إلى محمد علي من خيمة حافظ باشا نفسه ينبئه بهزيمة الأتراك، وأن الموقعة لم تدم أكثر من ساعتين، وأن البشير وصل بهذا النبأ السار إلى القاهرة في اليوم الثالث من شهر يوليه؛ ومنها أرسل بالبرق إلى الإسكندرية حيث كان الباشا مقيما في ذلك الوقت وجاء في تقرير قنصلي آخر أن مدافع الجيش لم تطلق أكثر من ساعة ونصف ساعة، وأن الأتراك زلزلت أقدامهم فجأة، فطارت قلوبهم وولوا مدبرين، وأنهم خسروا خمسة آلاف قتيل ونحو سبعة آلاف أو ثمانية آلاف أسير، أما عدد الجرحى فلم يرد له ذكر في هذا التقرير
ولم يعش السلطان محمود حتى يعرف نتيجة مغامرته العظيمة ضد أعظم أتباعه وأشدهم بطشاً، بل وافته المنية بعد يومين من واقعة نصيبين، وقبل أن يصل نبأ هذه الطامة التي حلت بالجيش التركي إلى الآستانة. ويقول الفيكونت بنسنبي في موته: (لاشك في أن العلة كانت قد نشرت جناحيها عليه منذ شهور، وأنه لم يحس بوطأتها فظل يعمل كل ما من شأنه أن يعجل يوم حمامه)
وماذا كانت علة السلطان يا ترى؟ لقد اختلف الأطباء في تشخيص مرضه، فأما الطبيب الإنجليزي الدكتور ملجن الذي عرض عليه فقال إن محموداً قضى نحبه بسبب اضطراب في المخ ناتج من إدمان المسكرات، وقال الدكتور نونر الذي كان يعالجه إنه مات بذات الصدر، ووافق الحكيم باشي التركي كبير أطباء القصر على رأي الطبيب البريطاني
(يتبع)
محمد بدران