مجلة الرسالة/العدد 213/أدب المنفلوطي
→ الفلسفة الشرقية | مجلة الرسالة - العدد 213 أدب المنفلوطي [[مؤلف:|]] |
رسالة الشعر ← |
بتاريخ: 02 - 08 - 1937 |
بقلم السيد جورج سلستي
كتبت على أثر الحملة الطائشة التي قام بها بعض الأدباء على
المنفلوطي وأدبه بمناسبة ذكراه الثالثة عشرة
أحق ما يقولون من أن صاحب (النظرات) (ليس بالكاتب ولا الأديب)، وأنه صنم من أصنام الأدب (يجب علينا تحطيمه وطرحه)، وأنه خلو حتى (من ناحيةٍ واحدة خليقة بالتحليل ووجهٍ واحدٍ جدير بالدرس)؟!
أتكون نفثاته الشائقة نفاية (لا قيمة لها ولا وزن)، وكتاباته الممتعة (مزيفة جوفاء)، وأدبه الرائع (سقيماً هزيلاً)؟!
أيبلغ العقوق في هذا الجيل حدَّه الأقصى فيتهجم الأبناء على آبائهم والتلاميذ على أساتذتهم ولا يعترفون لهم حتى بالتثقيف ولا يقرون لهم بفضل ولا شبه فضل؟!
أكلما طلع كاتب جديد كان القدح أو كلماته، والنقد الجارح أول نفثاته، وكان الهدم نصيب نابغة من نوابغ الأدب العالي وقطب من أقطاب الفن الرفيع؟!
أحتم على الأديب الناشئ أن يتخذ النقد المرّ وسيلةً لبلوغ ما يصبو إليه من مكانة، والتهكم اللاذع سبيلا إلى ما يطمح إليه من مقام، كأن لا نهج إلا هذا النهج، وكأن الإنتاج ليس من مزايا التفوق والنبوغ؟!
إننا نكبر الجرأة - والجرأة من مزايا الأديب - ولكن عندما تكون محدودة، مكبوتة النزوات، مكبوحة الأهواء؛ لأن الجرأة المطلقة تهوّر وجنون.
وإننا نجلّ النقد - والنقد عماد الأدب الصحيح - ولكن عندما يكون نزيها لا تحامل فيه ولا طعن.
نود أن يكون الناقد فذّا في أدبه فذاً في رجولته لأننا نربأ به أن يكون طفيلياً يعيش على فتات سواه، لا، بل نربأ بكل من يمت إلى الأدب بصلة أو سبب أن يبني مجده على تقويض زعامة غيره وهدم بنيان سواه.
ليس المنفلوطي بالأديب الكامل، فالأديب الكامل لم يخلقه الله بعد؛ ولا هو سيد الكت إمام المنشئين ولا أمير الشعراء ولكنه من سادة الكتاب ومن أئمة المنشئين ومن الشعراء المجيدين، فعلام الإنكار؟!
وليس المنفلوطي من الروائيين الأفذاذ الأعجمية ولا القصاصين النوابغ ولكنه من خيرة من نقلوا الرواية الأعجمية إلى لغة الضاد وممن كتبوا في القصة فبلغوا فيها شأواً؛ فعلام التضليل؟!
إن في أدب المنفلوطي مآخذ، ما في ذلك ريب، ولكن ما ضعف أقله لا ينبذ جله. وعلى الناقد الحصيف ألا يجسم الأخطاء ويتعامى عن مواضع السموّ والجمال.
يقولون إن المنفلوطي لم يكن يهمه من الإنشاء غير الأسلوب وفي هذا القول غلوٌّ كثير.
فهو على افتتانه بالمظهر كان يولي (الجوهر) اهتمامه وعنايته؛ إلا أن روعة أسلوبه طغت على سواها فظهر أدبه أقرب إلى السطحية منه إلى العمق.
والتقعر لم يكن من شأنه فقد كان يلقي بآرائه في سلاسة ووضوح في ألفاظ جزلة ناعمة، فأتت ديباجته وضاءة مشرقة تغمرها العذوبة ويفيض عليها السحر. أيكون ساحر البيان سقيم الأدب هزيله، وتكون السلاسة جُرْماً والعذوبة إثماً؟!
ويقولون إن الجيد في لغة جيدٌ في كل لغة، وإن المنفلوطي إذا نُقِلَ إلى لغة أعجمية تعرِّى من بهرجه وظهر ما في أدبه من ضعف.
وهذا قول فيه نظر. فليس لقطعة من الأدب الإنكليزي جلالها ذاته لدى نقلها إلى الفرنسية مثلا، ذلك لأن لكل لغة سحرها الخاص في الأداء والتعبير لاسيما في الشعر والأدب.
وإنك عبثاً تستطيع بالغاً ما بلغت من قدرة أن تنقل شكسبير بسحره وفتنته إلى لغة أخرى؛ وما ذلك إلا لأنه كان - وهو المتضلع من لغته البصير بدقائقها وأسرارها - على عنايته بالفكرة شديد العناية بالأسلوب. ذلك الذي يفقد جل روعته بالنقل.
لندع شكسبير ولنتخذ أحد الكتاب المعاصرين مثالا. وليكن بول فاليري هذا المثل.
فهذه (مقبرته البحرية) تكاد تكون أحجية، وهي بالفرنسية معجزة في السبك، وما أحسب أن أحداً يأنس في نفسه القدرة على نقلها إلى لغة أخرى ويظل محتفظاً بقوتها وروعتها الأصيلتين، وليجرب نفسه من يشك في القول أو من يرتاب في صحته.
فتلاؤم الألفاظ في كل لغة له جرسه الخاص ووقعه الخاص، ولن يكون له مثل وقعه مثل جرسه في النقل والترجمة.
ويقولون إن المنفلوطي لم يصوّر إلا ناحية واحدة من نواحي الحياة هي البؤس، وإنه لم يوفق حتى في هذه الناحية.
وهذا قول مردود، فقد اشتهر المنفلوطي بمقالاته أكثر منه برواياته، وهذه (نظراته) في أجزائها الثلاثة طافحة بكل طريف؛ وقد عالج فيها جميعاً من فنون الأدب وشؤون الحياة الشيء الكثير
وهب أنه لم يكتب في الاجتماعيات ولا في الشعر ولا في النقد الأدبي، وأنه وقف قلمه السيال على المأساة دون الملهاة، وعلى تصوير البؤس دون السعادة، فهل يلام الحزين إن لم يفتر ثغره بالبسمات؟ وهل تلحي الكئيب إذا لم تعرف مقلتاه إلا الدموع وإذا لم تفض نفسه إلا بما تشعر به، ويجيش به صدره المجهود؟!
ثم من ذا الذي كتب في البؤس فبلغ مدى المنفلوطي فيه؛ ومن هو الكاتب العربي الذي حرك بنفثات قلمه مكامن الأشواق وهز مختلف الأحاسيس وتلاعب بالعواطف وأجرى الشؤون من العيون كما حركها وأثارها وأجراها مصطفى لطفي المنفلوطي؟!
ويقولون إن التكلف احتل كتاباته كلها وإن قلمه كان يجري بما لم تكن تشعر به نفسه. وفي هذا القول ما فيه من هراء
فلقد قال فيه عارفوه والذين لازموه في حياته إنه لم يكتب إلا عن فيض شعوره وحسه، وإن كتاباته صور حقيقية لنفسه، وإن أدبه وكرم خلقه وما تحلى به شخصه من مزايا وصفات إنما هي رسائله وكتبه لا تنقص ولا تزيد؛ أما أسلوبه فخال من التكلف وتكاد كلماته الطيعة تسيل رقة وعذوبة
والمنفلوطي إلى هذا كله شاعر مجيد وله قصائد رائعة لا تعيبها إلا قلتها. وهو في شعره شأنه في نثره متخير اللفظ متين السبك، لطيف المعاني بارع الوصف، وله في الوجديات غرر وفي الحكم آيات
. . . . وبعد فحسب المنفلوطي فضلا على الأدب العربي أنه انتقل به في مستهل النهضة من الجفاف إلى الإيراق والإيناع، وإنه حبب جمهور المتأدبين في الإنشاء الرفيع وأساغ له الاستمتاع بالسلاسة وتذوق العذوبة فيه. وحسبه فخراً أنه نسيج وحده في عصره لم يجاره في فححر بيانه منشئ في جيله
ومن كان لذ في الأدب خدمات مصطفى وفضل مصطفى، فلن يضير مجده تهجم المتهجمين ولن ينال من مكانته تشدق المتشدقين
على أنه يؤلمنا والله ألا توزن الأقوال وألا تقدر الرجال
(بيروت)
جورج سلستي