الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 212/مشروع تقسيم فلسطين وأخطاره

مجلة الرسالة/العدد 212/مشروع تقسيم فلسطين وأخطاره

مجلة الرسالة - العدد 212
مشروع تقسيم فلسطين وأخطاره
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 26 - 07 - 1937


لباحث عربي كبير

جلس سكان فلسطين مساء يوم الأربعاء الواقع في 7 يوليو، أمام الراديو منتظرين سماع تقرير اللجنة الملكية. وكان السكون مخيما في معظم البيوت وفي المقاهي والأندية. وما كاد المذيع يفرغ من قراءة خلاصة التقرير واستنتاجات الحكومة المنتدبة حتى انتاب أهل البلاد ذهول دام بضعة أيام من شدة الصدمة. . وأراد فخامة المندوب السامي أن يتلطف بهم وبحالهم ويهون عليهم المصاب بدعوته أهل البلاد إلى إنعام النظر والتروي في إبداء الرأي، وأن يحكموا العقل على العاطفة في تقرير الحكم على مشروع اللجنة الملكية

اتبعنا هذه النصيحة وقرأنا بإمعان خلاصة التقرير، ثم أخذنا في قراءة التقرير نفسه. فما كان أشد دهشتنا عندما رأينا اللجنة الملكية تخالف في تقريرها جميع تقارير اللجان البريطانية، والخبراء الإنكليز، وكتب حكومة لندن البيضاء، ورأي عصبة الأمم، فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية، حتى أنها تخالف أيضاً صك الانتداب نفسه

تقول جميع هذه المستندات بأن التزامات الحكومة المنتدبة نحو العرب واليهود متساوية، فقالت لجنة اللورد بيل خلاف ذلك، وأوصت حكومة جلالة الملك بتنفيذ التزاماتها نحو اليهود أولا ثم النظر في التزاماتها نحو العرب. أي أنها توصي بإنشاء الوطن القومي اليهودي، ثم بالنظر في المحافظة على حقوق العرب!.

وصرحت حكومة جلالته وعصبة الأمم مراراً بأن ليس الغاية من تصريح بلفور إيجاد دولة يهودية في فلسطين، فقال اللورد بيل في تقرير لجنته بأن المراد من تصريح بلفور وصك الانتداب إيجاد دولة يهودية في الأراضي المقدسة عندما يصبحون أكثرية فيها

وينص صك الانتداب صراحة بأن واجب الحكومة ترقية الحكم الذاتي في فلسطين، فقالت اللجنة الملكية بأن إنشاء مجلس تشريعي مخالف لصك الانتداب!. .

ولم تكتف اللجنة الملكية بهذا، بل تهكمت في تقريرها بالعرب وزعمائهم، ولم تر فيهم إلا مثالب، ولم تر في اليهود وأعمالهم إلا محامد؛ وجمعت في تقريرها جميع الآراء والأقوال اليهودية التي تزعم أن ليس للعرب حق في فلسطين، وأن الأراضي المقدسة حق لبني إسرائيل! فكان تقريرها هذا مجموعة أضاليل يهودية. حتى أنه لو قيل للدكتور وايزمن، زعيم الصهيونية، أن يكتب تقريراً عن القضية الفلسطينية ومطالب اليهود، لما جرؤ على كتابة مثل تقرير اللجنة الملكية!. .

إن تقرير اللجنة الملكية خطة سياسية مرسومة، يراد منها أولا إزالة مفعول التقارير البريطانية السابقة التي جاءت كلها منذ الاحتلال حتى الأيام الأخيرة لصالح العرب مثنية عليهم، ومظهرة سوء السياسة الصهيونية وخطرها على أهل البلاد ووخيم عواقبها، وثانياً تحقيق إنشاء (المملكة اليهودية)

إننا لا نبالي بحكم اللورد بيل على العرب لأن حكمه فريد، وطبيعي أن هذا الحكم الشاذ لا يؤثر في رأي المنصف العادل على حكم التاريخ، ولا على الأحكام البريطانية العديدة السابقة، ولا يقلل من أهميتها ومفعولها

والذي يهمنا في هذا المقال هو إظهار أخطار مشروع تقسيم فلسطين، و (المملكة اليهودية) التي تريد الحكومة البريطانية إيجادها في قسم فلسطين الطيب

تمويه التقسيم

قسم اللورد بيل فلسطين إلى ثلاثة أقسام، أعطى الأول إلى اليهود، واحتفظ بالثاني لدولته، وأبقى الثالث لأهل البلاد. أما قسم اليهود فيشمل جميع الفضاء الشمالي وسهل الحولة ومرج ابن عامر، والسهل الساحلي حتى 10 كليومترات جنوبي رخبوت، وتبلغ مساحته حوالي ثمانية ملايين من الدونمات (الدونم ألف متر مربع)، وفيه من المدن العربية صفد وعكا وحيفا وطبرية والناصرة، ومن القرى عدد عظيم، حكم عليها أن تصبح يهودية، وقضي على سكانها العرب البالغ عددهم أربعمائة ألف عربي بأن يرحلوا من وطنهم العزيز. أما القسم الذي سيوضع تحت انتداب بريطاني جديد فيشمل القدس وبيت لحم وضواحيها وجميع الأراضي التي تسير فيها طريق يافا - القدس، وسكة حديد يافا - القدس. ويدخل في هذه المنطقة الرملة واللد وقرى عديدة كلها عربية. وعلاوة على هذه المنطقة فالحكومة المنتدبة تحتفظ لها بمنطقة لم تعين حدودها على ساحل خليج العقبة، وستكون هذه المنطقة جميع ما يدخل فلسطين من صحراء سيناء وقسم كبير من فضاء بئر السبع إن لم يكن كله لأسباب سياسية

واعتاد الإنكليز واليهود القول بأن ما بقي من فلسطين خاص بالعرب ليوهموا العرب بأن ما يبقى لهم قسم مهم عظيم. والواقع أن ما يبقى لهم من وطنهم حسب مشروع التقسيم، جبال نابلس وجبال الخليل والقسم الجنوبي من القسم الساحلي، وهذا القسم من السهل قاحل على أكثر السنين لعدم انتظام سقوط الأمطار فيه. وبعبارة أخرى إن ما يريد اليهود والإنكليز إبقاءه عربياً (مؤقتاً) جبال جرداء وصحراء محرقة. وهم يريدون إلحاق هذا القسم بشرق الأردن الفقير وتأسيس مملكة عربية منهما

أطلق على مشروع لجنة اللورد بيل مشروع تقسيم فلسطين، وكلمة تقسيم تخدع كثيرين من الذين لا ينظرون بعيداً أو الذين لا يعرفون طبيعة الأراضي في فلسطين. أما الحقيقة فهي أن مشروع اللجنة الملكية يعطي فلسطين كلها لليهود، لأن اعتبار البلاد هو بما فيها من أراض صالحة للزراعة، لا بجبالها الجرداء ولا بصحاريها الجدباء. وإذا علمنا أن مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في فلسطين لا تزيد على 6 , 544 , 000 دونم، حسب تقدير الخبير الكبير السير جون هون سمبسون، وإن هذه الأراضي الصالحة للزراعة مؤلفة من سهول فلسطين وهي: سهل عكا، وسهل الحولة، ومرج ابن عامر، والسهل الساحلي؛ وإذا علمنا أن جميع هذه السهول داخل ضمن القسم اليهودي، عدا جنوبي السهل الساحلي القاحل في أكثر الأوقات، رأينا بجلاء أن جميع فلسطين الصالحة للزراعة وهي فلسطين الحقيقية والتي من خيراتها يعتاش جميع سكان البلاد، داخلة ضمن القسم اليهودي، وما بقي من فلسطين قاحل لا يعول من فيه من السكان

إجلاء لا تبادل أراض وسكان

يريد اليهود ترحيل الشعب من فلسطين ليكونوا فيها وحدهم - فحقق لهم اللورد بيل قسما كبيراً من أمنيتهم، وذلك بقبوله هذا المبدأ، وإصراره على إرغام العرب الذين يعيشون في (مشروع القسم اليهودي) من فلسطين، على الرحيل إلى القسم الآخر منها، أو إلى حيث يشاءون، فيما لو قبل مشروع تقسيم فلسطين. ووضع اللورد بيل إصراره في عبارات كثيرة ما استعملها الدبلوماسي إلا لإخفاء الحقيقة والظهور بمظهر الشفيق العادل، فقال بأن (مصلحة الفريقين تقضي بأن يبذل أقصى ما يمكن من الجهد للوصول إلى اتفاق بشأن تبادل الأراضي والسكان).

ربما يخيل للقارئ من هذا القول أن هناك أقلية من العرب تملك أقلية من الأراضي في (مشروع التقسيم اليهودي)، لا، إن هذا خطأ مبين، إذ أن كل ما تملكه اليهود من أراض في فلسطين منذ ابتداء - حركتهم الصهيونية، مليون وربع من الدونمات، بينما مساحة القسم الذي تريد اللجنة الملكية إنشاء مملكة يهودية فيه تبلغ حوالي ثمانية ملايين دونم. فمن هذين الرقمين يظهر أن (المملكة اليهودية) ستنشأ على أراض لا يزال العرب يملكون فيها ستة أضعاف ما يملك اليهود، كما أن عدد سكان العرب في هذه المنطقة لا يقل عن أربعمائة ألف، بينما عدد اليهود فيها لا يزيد على ثلاثمائة ألف.

وفي الواقع أن لجنة اللورد بيل تريد إخراج ما لا يقل عن أربعمائة ألف عربي من (مشروع القسم اليهودي) واستبدالهم باليهود القاطنين بما يسمونه (القسم العربي) البالغ عددهم 1 , 250 فقط، والذين لا يملكون فيه إلا بضع مئات من الدونمات. فاستعمال تعبير تبادل السكان في هذه الحال غاية في الهزء والسخرية بالعرب. ليس الأمر أمر تبادل سكان، وإنما هو إجلاء العرب عن القسم الخصيب من بلادهم الذي منه يعتاشون والذي من دونه لا حياة لهم.

ويصحب جلاء العرب عن وطنهم استيلاء (الحكومة اليهودية) على أراضيهم، وهذا ما يريده اليهود. وما أوصت به اللجنة الملكية

أراد اللورد بيل مساعدة اليهود إلى أكبر حد، فقرر منع بيع الأراضي بيعاً حراً لتنزل أسعارها، وأعطي (الحكومة اليهودية) الحق في تعيين ثمن أراضي العرب ليوفر عليها مبالغ طائلة؛ وعليه سيستولي اليهود على أراضي العرب مقابل أثمان زهيدة. فالأفراد من العرب الذين لهم أراضي في (المنطقة اليهودية) ويمنون النفس بالثراء سوف لا ينالون الأسعار التي يمكن أن ينالوها فيها لو لم ينفذ مشروع تقسيم فلسطين.

الموت الاقتصادي

ربما يفكر البعض، متأثرين بما سمته اللجنة الملكية (فوائد التقسيم) وبالدعاية التي يقوم بها بعض موظفي الحكومة، في أن لا فائدة من رفض التقسيم مادام اليهود واصلين إلى أكثر من النتيجة التي يوصلهم إليها تقرير اللورد بيل، ويقولون متسائلين: ألم يحدد تقسيم فلسطين الأطماع اليهودية؟ فإذا لماذا نرفضه؟

غريب هذا المنطق! لنفرض (وهذا ليس بصحيح) أن ليس في إمكان العرب صد تيار اليهود عن فلسطين، وليس في مقدورهم المحافظة عليها عربية، وأن سيأتي يوم يصبح فيه القسم المعطي لهم الآن يهودياً إن لم يكن فلسطين كلها، ولكن ذلك لا يتحقق غدا، ولا بد له على الأقل من خمسين سنة. وسيظل اليهود خلال هذه السنين في نضال عنيف، وسيبذلون خلالها جهوداً عظيمة وأموالا طائلة، حتى يصلوا إلى النتيجة التي يوصلهم إليها الآن مشروع التقسيم. فهل من الصواب إذن أن تنيلهم اليوم ما لعلهم ينالونه بعد مشقة وبعد جهاد يدوم نصف قرن؟ أو ليس من الحكمة السياسية، إن لم يكن من الواجب الوطني، أن نصبر ونناضل بالطرق المشروعة، ونتخذ الوقت عوناً لعله يأتي لنا بما يفرج؟ وما يدرينا أن تتغير الظروف الدولية فتكون لنا عوناً على المحافظة على عروبة فلسطين وعلى نيلنا حقوقنا فيها؟ أما إن تأسست اليوم مملكة يهودية في قسم من فلسطين فيكون الأمر قد انتهى، ولا نعود بقادرين، مهما أتت الظروف على إرجاع ما ذهب منا، وما تقسيم فلسطين، وتأسيس مملكة يهودية في قسمها الطيب إلا وسيلة يراد بها تسهيل استيلاء اليهود على جميع فلسطين وشرق الأردن دفعة واحدة.

إذا نظرنا نظرة اقتصادية إلى ما يريد اللورد بيل إبقاءه (مؤقتاً) للعرب من وطنهم وجدنا أن هذا القسم قاحل لا يعيش من فيه، وخير دليل على ذلك نزوح ألوف من سكانه إلى السهل الساحلي حيث الخصب وحيث بساتين البرتقال منتشرة، ثم إن ألوفاً عديدة من سكان هذه المنطقة مزارعون يعتاشون من أعمالهم في الأراضي التي يملكونها في السهول الداخلية في المنطقة اليهودية. ومثال ذلك جميع القرى الواقعة حتى على مسافات بعيدة من السهل الساحلي ومدن طولكرم والرملة واللد ويافا، فإن هذه القرى العديدة وهذه المدن الكبيرة تعتاش بما يعمل أهلها في أراضيهم ومزارعهم الواقعة في السهل الذي يريد مشروع التقسيم أن يستولي عليه اليهود؛ فمتى حرمت هذه القرى والمدن من أملاكها، أصبح لا عمل لأهلها إلا مكافحة الجوع والشقاء (فكيف تصبح حالة سكان هذا القسم من فلسطين متى رحل إليه الأربعمائة ألف عربي سكان القرى والمدن التي سيستولي عليها اليهود إن قبل العرب التقسيم أو مكنوا الإنكليز من تحقيقه؟

حرمت مدينة يافا، بموجب مشروع التقسيم من بساتين البرتقال التابعة لها والتي منها يعتاش سكانها، فمعنى ذلك أن أهل هذه المدينة سوف لا يجدون لهم مرتزقاً يمكنهم من الاستقرار في مدينتهم. وسيأخذ اليهود الذين يحيطون بهم من كل ناحية في مضايقتهم، وستكون النتيجة حتما رحيل سكان يافا وتهويد المدينة، ومصير اللد والرملة وهما في منطقة الانتداب كمصير يافا، لأن هاتين المدينتين حرمتا أكبر قسم من أراضيها، وبغير هذا القسم من الأراضي لا حياة لسكانهما.

ستحل من غير شك (في المنطقة العربية) بل في (المملكة العربية) المنوي إقامتها في بلاد فقيرة، أزمة اقتصادية هائلة بل مجاعة شنيعة. وهذه الحالة ترغم الملاك فيها إلى بيع ما يملكون، أو رهنه، أو إيجاره على سنين عديدة، وليس في هذه البلاد من شار ولا مرتهن، ولا من مستأجر، غير اليهود. . . وهكذا يأخذ اليهود في وضع أيديهم على (القسم العربي) ويلحقوه بمملكتهم، فتصبح فلسطين برمتها في مدة وجيزة مملكة يهودية خالية من أصحابها العرب. ربما يعترض على هذا الحكم من لا يعرف السياسة وتلاعبها بأن ليس لليهود الحق في شراء الأراضي في القسم العربي من فلسطين. هذا صحيح، ولكن في إمكان من يضع هذا القانون أن يضع غيره، لاسيما وأنه غير قابل للتنفيذ، والقانون وحده لا يستطيع الحيلولة دون وضع اليهود أيديهم على البلاد بمختلف الطرق مادامت موارد البلاد الاقتصادية لا تفي بحاجة السكان.

ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن (المملكة العربية) الهزيلة سوف لا تعرف الاستقلال لأنها لا تقدر على حمل أعبائه الاقتصادية. والبلاد التي ليست مستقلة استقلالا اقتصادياً والتي تجاورها دولة غنية طامعة فيها، لا يمكنها المحافظة على استقلالها السياسي. . وستكون النتيجة التحاق الدولة العربية بالدولة اليهودية، سواء طلب العرب ذلك بدافع العوامل الاقتصادية، أم اضطروا إليه أمام حيل الدولة اليهودية، فتنتشر الملايين من اليهود في جميع أنحاء البلاد، ويصبح العرب فيها أقلية فقيرة لا شأن لهم يذكر، إن لم يرغموا على الرحيل إلى صحراء الجزيرة.

فمشروع التقسيم لا يحدد في الواقع المطامع الصهيونية، وإنما هو وسيلة لتحقيقها بمدة وجيزة، وهو حيلة يراد بها الوصول إلى تأسيس مملكة يهودية واسعة في فلسطين كلها، وفي شرق الأردن ذلك البلد العربي الذي لا يطبق عليه صك الانتداب، ولا يسري عليه تصريح بلفور، وفي ذلك ما فيه من الأخطار الفادحة لجميع البلاد العربية دولة تولد مستعبدة

أقرت اللجنة الملكية أن الدولة العربية التي تريد إيجادها لا تستطيع الحياة حياة اقتصادية وحاولت تخفيف شدة الضربة على العرب بالمال، فرددت عبارة (إعانة مالية) مراراً، كأن المال هو كل شيء في الحياة، وكأنه أعز من الأوطان والمقدسات. وقالت: (بما أن ذلك القسم من فلسطين الواقع في منطقة الدولة العربية لن يستفيد فيما بعد من قدرة المنطقة اليهودية على دفع الضرائب، وبما أن مساحة الدولة اليهودية ستكون أوسع من مساحة المنطقة الحالية التي تضم أراضي اليهود ومستعمراتهم (بما لا يقل عن ست مرات) فينبغي أن تدفع الدولة اليهودية إعانة مالية للدولة العربية)

مما لا ريب فيه أن شعب الدولة العربية المنوي إنشاؤها سوف لا يقدر على دفع ضرائب تسد الأكلاف الضرورية لمسير أعمال الدولة كما هي حال شرق الأردن الآن، فإن حكومة هذا الشرق تتقاضى إعانة سنوية من الحكومة البريطانية تمكنها من استمرار وجودها. ولتمكين حكومة (الدولة العربية) من الحياة يريد اللورد بيل أن تدفع الدولة اليهودية للدولة العربية إعانة مالية. أي أن حياة المملكة العربية تتوقف على ما تجود به عليها الدولة اليهودية. . .

إن في إمكان الدولة اليهودية أن ترفض دفع هذه الإعانة المادية بعد أن تكون قد نالت ما تبتغي. فمن يضمن دفع هذه الإعانة؟ أهي الحكومة البريطانية؟ لقد رأينا قيمة ضمانات هذه الحكومة ولاسيما تجاه العرب. لا ينبغي إن تبهر هذه الإعانة من يوطنون النفس على الاستفادة منها. إن اليهود لن يدفعوها إذا وجدوا مصلحتهم تقضي بذلك. وسيجدون ألف عذر ليتملصوا من دفعها. لقد تعهدت ألمانيا بدفع تعويضات لفرنسا ولغيرها من الدول ولم يمض على تعهدها عامان حتى أخذت في تأجيل الدفع ثم النصل منه نهائيا، ولم تستطيع فرنسا القوية على إرغامها، فهل في مقدور الحكومة العربية الضعيفة إرغام اليهود على دفع هذه الإعانة؟

ولنفرض أن اليهود سيدفعون هذه الإعانة عن طيب خاطر فإن هذه الإعانة ضرب من استعمار اليهود للدولة العربية الفقيرة، ووسيلة إلى تدخل اليهود في سياستها وفي جميع أمورها. هناك قاعدة اقتصادية سياسية بسيطة تقول بأن الذي في يده ميزانية الدولة في يده مصيرها. فلما كانت خزينة الدولة في العهد السابق في يد الملوك، كانت السلطة المطلقة في يدهم أيضاً، ولما انتقل حق فرض الضرائب من الملوك إلى البرلمانات، انتقلت السيادة معها. فأصبحت البرلمانات مصدر السلطات. ونرى في هذه الأيام، في البلاد الديموقراطية، أن نفوذ وزير المالية آخذ في الازدياد حتى أنه أصبح يتدخل في دوائر زملائه ويشرف عليها نوعا ما، لماذا؟ لأن في يده توزيع ميزانية الحكومة على دوائر الوزراء. فالإعانة المالية اليهودية ستمكن الدولة اليهودية من الحصول على امتيازات خاصة في الدولة العربية، ومن مراقبة ماليتها وسياستها. . . أي أن الدول العربية ستكون طوعا أو كرها المستعمرة الأولى للدولة اليهودية، وسوف لا يمر على ذلك مدة طويلة حتى تدمج الدولتان، ويتألف منهما دولة يهودية كبرى تهدد ما جاورها من البلاد العربية. . .

ورأت الحكومة البريطانية تحقيقاً للتقسيم صرفا لشرق الأردن عن المطالبة بحقوق العرب بأن تعده بثلاثة أمور: إلحاق القسم الباقي من فلسطين به، وتأسيس مملكة عربية (مستقلة) منهما، وإعطاء مليونين من الجنيهات لحكومة شرق الأردن بدل المنحة التي تدفعها سنويا لسد عجز ميزانيته. . .

(البقية في العدد القادم)

اقتصادي