مجلة الرسالة/العدد 212/رسالة الفن
→ الفلسفة الشرقية | مجلة الرسالة - العدد 212 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 26 - 07 - 1937 |
رفائيل
الفنان أبداً
للدكتور أحمد موسى
عرفنا من المقالات السابقة أن عصر الرفعة قد امتاز بعدد عظيم ممن توافرت فيهم الكفايات التي إذا قورنت بغيرها آمنا بإطلاق بعض المؤرخين على هذه المرحلة الزمنية (عصر النهضة)
وعرفنا بعض الشيء عن ليوناردو دافينشي، وتناولنا بالبحث ميكيلانجلو الذي اعتبرناه عبقرية ملهمة في عالم الفن، كما فحصنا اتجاهه ونواحي إنتاجه، ووصلنا إلى أنه كان أعظم فنان ظهر رغم ما بذله حاسدوه من مجهود لتدبير المكائد له حتى يقضوا على صيته وسمعته
واليوم نعالج شخصية أخرى على النقيض، غمرتها محبة الناس واستأثرت بإكبارهم وتدليلهم إلى حد بعيد. ومن تكون هذه الشخصية غير (رفايللو سانتي) الذي كان على أكبر جانب من جمال الطلعة وسمو النفس ودقة الشعور ورقة الشمائل؟
ولد رفايللو يوم 28 مارس (؟) سنة 1483 في أوربينو، وتلقى أول دروسه على والده المصور جيوفاني سانتي الذي مات عندما بلغ الابن الثانية عشرة من عمره، ثم على معلم آخر ربما كان تيموتيوفيتي الذي عاش في أوربينو في ذلك الحين أيضاً، والذي كان صديقاً حميما له فيما بعد
ولم يترك رفايللو مدينة أبيه إلا سنة 1499 عندما أراد الالتحاق بالعمل عند المصور المشهور بيروجينو في مدينة بيروجيا
وإذا رجعنا إلى مصوراته كلها نرى أن بينها واحدة أرّخها سنة 1504 وأسماها سبوساليزيو غير أن هذا لا يتخذ دليلا على أنه لم يقم بتصوير لوحات أخرى قبل هذا التاريخ، إذ المعروف أنه اشتغل بالتصوير في كنيسة بيروجيا وفي سيتا دي كاستي وفي هذه السنة أيضاً (1504) سافر إلى فلورنسا وأقام فيها بضع سنوات لم يتركها أثناءها إلا عندما كان يذهب في بعض الآونة إلى بلدته أوربينو أو إلى بيروجيا حيث يقيم معلمه
وتأثر في فلورنسا بتراث ليوناردو (راجع الرسالة) وبفن فرا بارتولوميو فدقته في التصوير وعنايته المنهجية ترجع إلى ليوناردو، على حين ترى السيمتري وجمال التناظر وإبداع التقسيم ورشاقة الحركة إلى بار تولوميو
وصور في فلورنسا لوحة لأجل سان فاتشسكو في بيروجيا تمثل دفن المسيح، وهي القطعة التي لا تزال محفوظة بجاليري بورجيره في روما
واستدعاه البابا يوليوس الثاني سنة 1508 للتوجه إلى روما حيث زخرف وصور بعض غرف بالفاتيكان، وهنا بدأ اسمه ينشر، وما كاد يعمل لدى البابوين يوليوس الثاني وليو العاشر إلا وكانت الألسنة تلهج بذكره، وعم صيته إيطاليا وغيرها من البلدان المجاورة
وكلفه فرانس الأول ملك فرنسا بأعمال فنية كما تهافت عليه كثيرون من الأكابر، والتف حوله تلاميذ عديدون من المعجبين به والراغبين في فنه
ولم يكن مظهر رفايللو ليدل على أنه فنان، بل كان أقرب إلى مظهر الأمراء منه إلى رجال الفن. فتكوينه الجسماني الرقيق وملابسه الرائعة الاختيار، وشبابه الغض، إلى جانب أدبه الجم وحديثه الخلاب، كل هذا جعل الناظر إليه أو المتحدث معه يظن أنه في حضرة أمير أرستوقراطي
وكأن المشيئة أرادت ألا يكون بين ميكيلانجلو وبين رفايللو أي تشابه أو انسجام، حتى الاتجاه الفني عند كليهما كان مختلفاً، فالموضوع الإنشائي وطريقة الإخراج والتعبير تباينت عند كل منهما
وكان في الخمس السنوات الأخيرة من حياته الرئيس الأعلى لبناء كنيسة بطرس، وتعمق في دراسة علم الآثار ومعرفة أسرار الفن القديم، وفكر في رفع الأنقاض والأتربة عن آثار روما القديمة عندما كان محافظاً للآثار فيها
وبلغ الذروة في سن مبكرة وفجأة أصيب بحمى انتهت بموته، ولم يكن قد أكمل السابعة والثلاثين من عمره حين وافته المنية في 6 إبريل سنة 1520 ودفن في البانثيون بروما
يقول بعض المؤرخين بأن حزنه على خطيبته ماريابيبينا التي ماتت قبله بقليل كان من أهم العوامل التي قربت منيته؛ فلقد كان على رقة إحساسه ودقة تكوينه الجسماني عاشقاً مخلصاً ومحباً متفانياً. فضؤلت مقاومته للمرض
وسجل جمال خطيبته في كثير من مصوراته وعلى الخصوص في لوحاته التي مثلت المادونا السكستينية ودونّا فيلاتا ولا يزال بعض هذه الصور محفوظاً في أوفيست بفلورنسا.
وأقيم له تمثال تذكاري من البرنز في أوربينو بارتفاع أربعة أمتار تقريباً، صنعه المثال الإيطالي المعروف لوريجي بللي سنة 1897، كما نحت المثال الألماني هانل تمثالاً له لا يزال من النماذج الفذة لطراز النحت الألماني.
هذه قد تكون أبسط قصة تقال عن فنان لا نظير له، عاش قليلا ولكنه أنتج كثيراً، وهو إلى جانب ميكيلانجلو لا يُعدان فقط ثروة الفن الإيطالي الحديث بل ثروة العالم أجمع.
ولم يشتغل رفايللو بالتصوير الجصي (الفرسكو) إلا بعد أن سافر إلى روما حيث قام بتصوير ثلاث غرف وردهة كبيرة في الفاتيكان، وفيها جمع بين التصوير الرمزي والديني.
وبعد أن كان البابا يوليوس الثاني عازماً على زخرفة الغرف بواسطة بعض المصورين المعاصرين أمثال بيروجينو وسودوما وغيرهما، تراه قد تحول اتجاهه إلى روفايللو بعد أن شاهد تصويره وتفوقه على معلمه، فكلفه القيام بإكمال العمل إلى نهايته.
أما عمله في الغرفة الأولى (1508 - 1511) فهو متجه في جوهره إلى الروح الفنية التي كانت لها الغلبة في ذلك الحين وهي روح من النهضة، ويتلخص موضوعها في التعبير عن قوة القوى المسيطرة على العقل الإنساني، المهيمنة على مصير الإنسان؛ فيرى المشاهد أمام عينيه صوراً رائعة للتعبير عن اللاهوت (الدين) والفن (الشعر) والفكر (الفلسفة) والقانون (الفقه)، صورها كلها على مساحات دائرية الشكل، وإلى جانب كل منها التفاسير المرتبطة بموضوع الصورة كالخطيئة والعقوبة والدنيا وحكم سالوم.
أما الصور الكبيرة في هذا المكان فقد جعلها تنطق بالحقائق التي ترمز إليها في عالمنا الدنيوي.
وفي الماكن المسمى ديسبوتا صور المسيحيين الصالحين مجتمعين حول الهيكل وقد فتحت فوق رؤوسهم أبواب السماء (النعيم). وفي بارناس صور الشعراء الأقدمين والمحدثين ملتفين حول أبولو وآلهات الشعر من حوله.
أما الفلسفة فقد صور ما يعبر عنها بمدرسة أتينا الجامعة (الكارتون محفوظ بميلانو) وهي شاملة للمشتغلين بالعلوم العقلية أمثال أفلاطون وأرسطو طاليس وحولهم تلاميذهم، واتخذ الفنان الركن الأيمن من الصورة لتصوير نفسه مع معلمه بيروجينو.
أما الدين فهو ممثل في صورته بالبابا والقيصر وهما يصرّفان الأمور والشئون بموجب الكتب السماوية.
(له بقية)
أحمد موسى