مجلة الرسالة/العدد 211/الفلسفة الشرقية
→ للأدب والتاريخ | مجلة الرسالة - العدد 211 الفلسفة الشرقية [[مؤلف:|]] |
حديث في سفر ← |
بتاريخ: 19 - 07 - 1937 |
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 13 -
البوذية
لما كانت البوذية ثانية الديانتين الجوهريتين في بلاد الهند، فقد كان من الطبيعي - وقد بدأنا بالبراهمة - أن نثني بها محاولين إيضاح غوامضها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، ولكن ينبغي لنا قبل الدخول في تفاصيل هذا المذهب أن نلم بشيء مما حواه لنا التاريخ الغامض عن حياة المنشئ العظيم لهذه الديانة الخطيرة التي لعبت في تاريخ الإنسانية دوراً من أهم الأدوار. وإليك هذا الموجز المضطرب من حياة هذا الزعيم الديني الكبير
ولد (جوتا ما سيرهارتها) في (كابيلا فاستو) على حدود (نيبال) حوالي سنة 560 قبل المسيح من أسرة نبيلة، إذ كان والده رئيس قبيلة (ساكيا). ولما شب زهد في نعمة والده وأخذ هذا الزهد يزداد شيئاً ًفشيئا حتى إذا بلغ من نفسه منتهاه ألقى بالحلل الفاخرة جانباً واستبدلها بثياب خشنة مرقعة ثم هجر منزل أسرته إلى الغابات والأحراش لا يلوي على شيء من مظاهر النعمة التي كانت تحدق به إحداق السوار بالمعصم، لأنه آمن بأن مصدر جميع هذه الآلام التي تكتظ بها الحياة البشرية إنما هو الهوى المنبعث من الشهوات الجسمانية، وأن المخلص الوحيد من هذا السجن المطبق إنما هو في التلاشي المادي، وهذا التلاشي لا يتحقق إلا بالزهادة والتخلي عن جميع ملاذ الحياة وشهواتها. وقد أيقن كذلك بأن اللذائذ المادية ستار من الظلام يحجب عن النفس كل معرفة حقة، فالوسيلة الوحيدة إذاً، للتخلص من الألم ولتحقيق المعرفة هي الزهادة في المادة من جميع نواحيها.
لم تكد هذه العقيدة تستولي على نفسه حتى بدأ في تحقيقها، فانسلخ عن كل مظاهر الترف وأنسحب عن المدينة إلى إحدى الغابات الموحشة، فآوى فيها إلى شجرة كبيرة اتخذ ظلالها الوارفة مقامه، ثم أخذ يحاسب نفسه على ما قدمه من خير وشر حيناً، ويتأمل في أ الكون وخفايا الوجود حيناً آخر، واستمر على ذلك زمناً طويلا لا يزاول من أساليب الحياة إلا هذا الأسلوب المماثل الذي لا فرق بين أمسه ويومه وغده. . . وأخيراً شعر ذات ليلة وهو سابح في بحار الفكر والتأمل أن المعرفة قد انقذفت إلى قلبه دفعة واحدة، وأن أداء واجبه منذ اليوم لم يعد يتحقق بالنسك والتأمل فحسب كما كان قبل ليلة المعرفة، وإنما اصبح يتناول إلى جانب ذلك شيئاً آخر، وهو التبشير بمذهبه في كل مكان، ومحاولة غرسه في كل قلب، فهب لساعته يصدع بديانته الجديدة جهراً وفي غير مبالاة، وسرعان ما تجمع حوله عدد من الشباب والشيوخ يتشربون تعاليمه تشرب الأرض اليابسة للمياه، ثم جعل عدد هؤلاء التلاميذ يزيد شيئاً فشيئاً وأخذت هذه الديانة تعم ويتسع نظامها حتى بلغ عدد معتنقيها نحو أربعمائة وسبعين مليونا من الأنفس في الشرق الأقصى
كان بدء بوذا في الصدع برسالته على رأس العام السادس والثلاثين من عمره، فظل جهاده في نشرها زهاء أربع وأربعين سنة لم ينضب أثناءها لنقاشه نبع، ولم يخفت لتبشيره بدينه صوت، ولكن لم يثبت عنه أثناء هذا الزمن الطويل الذي قضاه في نشر رسالته أنه غضب مرة واحدة مع مناقشه، بل كانت الرحمة والعطف يفيضان من أساليبه في مختلف الظروف ومتباين الأحوال لا فرق بين أن يكون مناقشه من تلاميذه المحبين أو من خصومه الحاقدين.
وأخيراً توفى هذا الحكيم حوالي سنة 480 قبل المسيح عن ثمانين عاما قضاها بين الزهد والتقشف والدعوة لديانته الجديدة، وكان موته بين جمع من تلاميذه الأصفياء - مثال البساطة البعيدة عن جميع مظاهر الجلال التي تحوط عادة آخر ساعات عظماء الرجال
شخصية بوذا بين الشك واليقين
سأل الملك (ميلاندا) أحد ملوك الهند الأقدمين الحكيم (ناجازينا) وهو أحد أتباع البوذية قائلا: (أيها الحكيم المحترم هل رأيت بوذا؟) فأجاب الحكيم: (كلا يا صاحب الجلالة). س: (وهل أساتذتك رأوه؟). ج - (ولا أساتذتي يا صاحب الجلالة) قال الملك: (إذاً، يا ناجازينا، فليس هناك بوذا ما دام لم يقم على وجوده برهان قوي). فلما سمع الحكيم (ناجازينا) هذا الاعتراض الذي وجهه الملك إلى إلهه، وكان حقا لا يملك على وجوده برهانا مباشرا، شرع يدلل عليه بآثاره الكونية فقال: (إذا غاب بوذا عن الأنظار، فهنالك آثاره التي أنشأها، ومصنوعاته التي خلقها فهي أقوى الأدلة على وجوده، هنالك هذا العالم البديع الذي خلقه وهناك هذا العدد العظيم الذي أرسى سفنه بحكمته وقدرته على شاطئ النجاة بعد أن أنقذها من خضم الألم. وإذا كان من يرى مدينة منسقة بديعة التكوين والتنظيم لا يستطيع إلا أن يعلن إعجابه بمنشئها وأن يرفع الصوت قائلا: ما أحكم هذا المهندس الماهر الذي شيد هذه المدينة وأتقن تنظيمها! فالأمر يجب أن يكون بالنسبة إلى مدينة الكون العام التي أنشأها بوذا واحكم تنسيقها.
وفي الحق أن نظرة واحدة إلى ما عليه الكون من نظام وانسجام تكفي لترسيخ الإيمان اليقيني بوجود بوذا،. فلم يكد الملك يسمع من الحكيم هذا البرهان حتى أعلن أنه مقتنع بوجود بوذا اقتناعه بوجود جده الأعلى مؤسس أسرته المالكة الذي لم يره كذلك، وصرح بأن المشاهدة ليست كل شيء، وأعلن أن كثيراً مما لا تعترف به المشاهدة له وجود واقعي يقيني
ويعلق الأستاذ (أولترامار) في كتابه (تاريخ وحدة الوجود الهندية على هذا بقوله: (أما النقد الحديث، فلا يجد في هذا البرهان ما وجده ذلك الملك الطيب القلب من الرضى والاطمئنان فهو إذ يوافق على أن مؤسس البوذية وجد تاريخياً لا يستطيع أن يؤمن بأن هذا المؤسس كان في الواقع على النحو الذي صورته عليه الأسطورة الهندية، وفوق ذلك فتاريخ الديانات يعترف في صراحة أمام النقد الحديث بأن براهين هذا الحكيم كانت مبنية على أسس ضعيفة واهية لا تستطيع الثبات في ميدان الجدل المنطقي وأن قيمة هذه البراهين تزيد ضآلة بقدر ما يكشف التاريخ أن أهم مصادرها هو الأساطير الشعبية المفعمة بالخرافات والأباطيل)
ويؤكد الأستاذ (أولترامار) أن استخلاص العناصر الصحيحة من وسط ذلك المحيط الهائل المليء بالأساطير الخيالية في ترجمة بوذا وصفاته وتعاليمه من الصعوبة بموضع، وهو لهذا يحيل القارئ إلى مؤلفات ثلاثة رجال من كبار العلماء الذين وصلوا إلى نتائج بحوث قيمة في هذا الموضوع، ليستأنس بآرائهم وهم: (كيرن) و (سينار) و (أولدنبيرج). فأما أول هؤلاء العلماء وهو الأستاذ (كيرن) فهو ينكر إنكاراً تاماً القيمة التاريخية لهذه الأساطير ويصرح بأنه لا أثر للحقيقة في كل ما نقل لنا عن (بوذا) وبأن هذه السيرة البوذية لم تكن إلا رموزاً للمثل العليا في نظر الشعب
وأما الأستاذ (سينار) فهو لا يرى في السيرة البوذية اكثر من أنها أسطورة قديمة رصعت بأبهى ما وعاه الشعب من أخلاق عدة أبطال طواهم الزمن فنسيت أسماؤهم وعلقت بالأذهان آثار بطولتهم
وأما الأستاذ (أولدنبيرج) فهو أقل قسوة على بوذا من زميليه، إذ يعترف بأن طائفة من الحقائق الحائرة منبثة في وسط هذا البحر من الأساطير وأنه ليتيسر للباحث الدقيق أن يستخلص من بين الفرث والدم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين. أما بوذا على حالته التي هو عليها الآن في الأسطورة قبل تمييز الخيال من الحقيقة فهو لا يبعد عن كونه شخصية رمزية
ويميل الأستاذ (أولترامار) إلى هذا الرأي الأخير. إذ يعتقد أن الباحث العميق يمكنه أن يصل - عن طريق الموازنة الدقيقة بين كل المصادر - إلى حقائق يقينية عن شخصية بوذا وديانته وتعاليمه وأنه هو شخصياً قد وصل إلى كثير من هذه الحقائق، وأن إحدى هذه الحقائق التي وصل إليها هي أن بوذا قد وجد حقاً، وأنه كان شخصية غير عادية لها من الميزات ما لم يفرز بها سواها في العصر الذي كانت تعيش فيه، وأن هذا الرجل - بصرف النظر عما أحكمت حوله الأساطير من سياج التألية - كان قوي الإرادة إلى حد بعيد، ولكن هذه القوة وجهت كلها إلى النضال الداخلي، فبينا كان ظاهره يدل على الوداعة ولين الجانب وخفض الجناح كانت نفسه تحوي في داخلها عراكا قويا ضد الشهوات والرغبات ولم يسمح لهذا النضال أن يتجاوز نفسه إلى الخارج إلا في ناحية واحدة وهي ناحية إقناع سائليه ومناقشيه ولكن هذا الإقناع كان دائما ممزوجا بروح السلام العام الذي يتخلل كل نواحي مذهبه
وعنده أنه كما أن الأرض تحمل ما يلقى فوق ظهرها من خبائث الأشياء دون ضجر وتتقبلها قبولها للطيبات، كذلك يجب على البوذي أن يحتمل باسما احتقار الناس وإهاناتهم وأن يتقبلها بنفس الروح التي يتقبل بها الإجلال والتشريف. وكما أن الماء يتخلص عن التراب، ليروي الظمآن، كذلك يجب على البوذي أن يشعر أعداءه بنفس الخيرية التي يشعر بها أصدقاءه وأهم ما يلفت النظر في شخصية بوذا هو أن وثوقه بنفسه وإيمانه بمبدئه، وعقيدته في نجاح رسالته لم تكن ممكنة التشبيه بأي شيء آخر، وهو لهذا يقول: (إن من المحتم أن هناك طريقاً للخلاص، وأن من المستحيل ألا توجد هذه الطريق، وسأعرف كيف ابحث عنها، وساجد حتما تلك الوسيلة التي توصل إلى الخلاص من كل وجود.
كان بوذا يجمع حوله الشباب، ليلقي عليهم تعاليمه المأثورة التي كانت تنال من نفوسهم منالا بعيد الغور، ولكن الأسطورة التي كانت كأنها إطار حول حياته زعمت أن موجة من الأيمان كانت تخرج من عيني بوذا بمجرد نظره إلى تلاميذه فتسلك سبيلها إلى قلوبهم وتحتلها احتلالا قوياً قبل أن تنبس شفتاه بأية كلمة من تعاليمه.
يتبع
محمد غلاب