الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 210/على هامش رحلتي إلى الحجاز

مجلة الرسالة/العدد 210/على هامش رحلتي إلى الحجاز

بتاريخ: 12 - 07 - 1937


في تكية الدراويش

للدكتور عبد الكريم جرمانوس

أستاذ التاريخ الشرقي بجامعة بودابست

خاتمة

وتقع في جانب الجبل مغارة عميقة هائلة ليست كلها من عمل الطبيعة، بل أنهم اجتهدوا في توسيعها شيئاً فشيئاً، فهذه المغارة هي في الواقع مقبرة الدراويش يتوسطها مقام الشيخ الكبير أبو عبد الله المغاوري الذي يرجع الفضل إليه في تأسيس تكية القاهرة، يحف به مئات من قبور الأخوان الدراويش، وهي متناثرة هنا وهناك في جوف المغارة. وأسر الى صديقي بأن هؤلاء الأخوان إنما تحرروا من قيودهم الزمنية وانطلقوا إلى العالم الأخر ليظفروا بلمحات يكشف لهم فيها الغيب، ويروا ما لا تراه العيون. بيد أنني لم أفكر كما فكرت الساعة في أن الرجال في أية لحظة من لحظات حياتهم هم أموات بالنسبة لتلك اللحظة، فليس الوقت هو الذي يمضي سراعاً، ولكننا نحن الذين نبتعد عن الزمن الصامت الثابت.

وإذا ما أراد الزائر أن يهبط إلى جوف المغارة فعليه أن يخلع نعليه أولا ويودعهما في صندوق خشبي مستطيل الحجم بجوار الباب، كما يتحتم عليه أن يدفع بعض ما تيسر في صندوق النذور. ولقد رأيت أن المترددين لزيارة هذه القبور نفر يسير من سكان القاهرة الفقراء، وأخصهم النساء اللواتي يلتمسن شيئاً من العزاء والسلوى في وقوفهن أمام الأضرحة والقبور.

خلعت وزميلي نعلينا وتأهبنا للتوغل في داخل المغارة التي كانت شمس الصباح تنفذ من فوهتها. وبعد أن دفعنا بضعة قروش لحارس المقبرة وهو من الدراويش الأشداء، دلفنا إلى مقصورة الشيخ الكبير مؤسس الطريقة؛ وكان في خارج المقبرة عدد من العجائز يرفعن أيديهن إلى السماء ويبتهلن إلى الله بالدعوات الصالحات، وقد علمت أن في وسع الموسرات منهن أن يدخلن إلى المقصورة ويمسسن الضريح بأيديهن للتبرك - ولكن هذ نادر - أما بقيتهن فمن الفقراء اللواتي لا يملكن قوت يومهن، وهن يكتفين بالوقوف بباب المقصورة وأمامهن أحد الدراويش حاملا في يده مقرعة ليفسح الطريق للزائرين.

إن زيارة الأضرحة في مصر لا تزال من العادات المتفشية بين جميع الطبقات؛ وعلى الرغم من محاربة العلماء لها، فليس من السهل القضاء على الخرافات الكثيرة المتأصلة في نفوس العوام، لأنهم يعتقدون أن بعض الأولياء تحل بركتهم بالمرضى فيبرؤون. ولقد قضى الوهابيون على هذه البدع والنقائض كلها فحرموا زيارة الأضرحة والتبرك بالأولياء، واستطاعوا أن يعيدوا إلى بلادهم الشرائع الإسلامية خالية من كل شائبة. وهم يقولون إن قوة الإنسان في حد ذاتها محدودة، وليس في وسع أي مخلوق أن يشارك الله في قدرته؛ ويعتقدون أن وجود هذه الأضرحة يعيد إلى الذاكرة عبادة الأوثان التي قضى عليها الإسلام وحاربها بكل قوة.

ووقع نظرنا على ضريح الشيخ المغاوري يتوسط المقصورة في مساحة لا تقل عن تسع ياردات، وفي طرف الضريح رأس من الحجر ملفوف عليه قماش أخضر مطرز. وكذلك رأينا شمعتين كبيرتين الحجم موضوعتين بجوار الشاهد، حتى خيل إلينا أنهما حارسان. ولا يجب أن يفهم من هذا إن هاتين الشمعتين موضوعتان لغرض الإضاءة، كلا بل هما للزينة والتأنق، لأننا شاهدنا مصباحاً متدلياً من السقف ينشر ضوءه الشاحب المخيف على وجوه الزائرين.

جلست مع صديقي حسونه على المقعد الحجري المعاقب لضريح الشيخ، نرقب عن كثب هذا المشهد المؤلم، مشهد عشرات النسوة وهن يتمرغن في الخارج على الحجارة ويرسلن أصواتاً مخيفة مزعجة كالنباح، وأومأت إلى صديقي أنه يستطيع أن يستخلص موضوع رواية يوضح فيها بجلاء حالة المرأة المصرية، ثم يعرج على وصف حالة العامل المصري والفلاح المصري ويحلل نفسية كل منهما. فالفلاح في مصر لا يزال يكد ويشقى، ويلاقي من صنوف الهوان ومرارة العيش، كما كان يعانيه زميله أيام بناء الأهرامات دون تغيير أو تبديل في أسلوب الحياة، وما برحت الخرافات والبدع الدينية ظاهرة الأثر رغم تقدم الحضارة وانتشار العمران، وما زالت مسيطرة على نفوس هؤلاء العوام.

أجل! إنه لولا وجودي في القاهرة لما فكر صديقي حسونه في أن يقصد إلى تلك الخرائب والأضرحة، ولكني أغريته بزيارتها حتى يتمكن من أن يجمع المواد التي يتألف منها كتاب أو رواية تضم معتقدات العوام وحالتهم الفطرية.

ولا أبالغ إذا قلت إن هذه وهذا الضريح الذي يتوسطها وتلك الأضواء الخافتة المستحيية، وهذا الشيخ الذي تفد النساء لزيارته خاشعات مسترسلات في توسلاتهن الحارة. كل هذه مشاهدة كان لها تأثير خاص على مشاعري. أما حارس الضريح الذي لا يأذن لأحد بالدخول إلا إذا ناوله الجعل المخصص للزيارة فأنه قادنا إلى أقصى المغارة حيث ألفينا نحو ثماني نساء يطفن بالضريح ويلمسن الكسوة بأيديهن تبركا. ولقد حدث أن شاهدت واحدة منهن وهي واقفة كالصنم، شاخصة ببصرها نحو المصباح الذي يرسل ضوءاً خافتاً لونه أحمر، شاهدتها جامدة كالتمثال أكثر من دقائق معدودة، لا تبدي حراكا ولا يهتز لها جفن، وراعني أن ألفيت برقعها الأسود ملقى وراء ظهرها، وكان وجهها شاحباً شحوب الموتى، ولكن صديقي علل ذلك بأن الشمس قلما تسطع على هذه الوجوه، لأنهن يعشن محجبات في داخل دورهن وإذا ما خرجن أحكمن وضع البراقع السميكة التي تحجب على وجوههن ضوء الشمس فيكتسب الجلد لون الصفرة، وكانت هناك عجوز شمطاء تلقي بجسمها على جدار الضريح كأنما الشخص المدفون أحد أحفادها، وثالثة نحيلة طويلة، ترتدي السواد وتلطم صدرها بكلتا يديها، ثم لا تلبث أن ترفعهما إلى السماء وتتوسل بصوت مرتفع. ورأيت الدموع تنحدر من عينيها وقد ارتسمت على وجهها آيات الرعب والفزع، ثم سمعنا بعد ذلك صوتاً يخرج من صدرها، وبعد برهة أخذت تولول وتمزق ثيابها. وكانت هذه الصرخة نذيراً لبقية النسوة اللواتي حافظن حتى هذه اللحظة على الصمت، فأنهن أسرعن إلى تقليد حركاتها والارتماء ثم التمرغ على الثرى والتدحرج حتى يصلن إلى المحراب، وهناك تخور قواهن. أما صديقي فقد راعه هذا المشهد المؤلم الذي يصور حالة خاصة من حالات الأمراض النفسية، فأمسك بذراعي وطلب إلي أن نغادر هذا المكان سريعاً، بيد أنه نسي أن هذه المناظر الهستيرية هزتني هزة عنيفة بحيث كدت أرتمي بدوري على الأرض، لولا أنني قاومت هذه الرغبة وأقصيتها عن ذهني. ما هذا البكاء، وذلك العويل، وشق الثياب؟ لقد تمالكت رشدي ورحت أحدق في وجوهن لأحاول أن أستخلص منها قصة كل واحدة، وإليك نتيجة استنتاجي: تربى الفتاة المسلمة على الطاعة والخضوع والانقياد، لا على الحرية والصراحة في الرأي والتفكير، فالطاعة والانقياد هما الدعامة الأولى للتربية في مصر، وهذا هو السبيل للحياة المقبلة. فللوالد الحق في أن يجبر أبنته على الزواج من الشخص الذي يختاره لها ويفرضه سيداً عليها، وليس عليها سوى الامتثال لمشيئته، كما أن للزوج سلطة ضربها إذا عصيت له أمراً. وإذا أرادت المرأة أن تثأر لنفسها فليس أمامها سوى طريق واحد، هو طريق المؤامرات السرية والدسائس. والعادة أن جميع الأزواج لا ينظرون إلى زوجاتهن إلا نظرة الازدراء والتحقير، بل إن البعض منهن يعتبرن من سقط المتاع. وهذا هو السبب الذي يدعو الكثيرات منهن إلى أن يقصدن إلى تلك الأضرحة ليتوسلن إلى أصحابها ويستنجدن بكراماتهم من هول تلك الفضائع ولا يخفى ما للعواطف المكبوتة من الأثر السيئ في النفوس، وهؤلاء اللائى يدفن رغباتهن في صدورهن إنما يتعرضن لأفظع الآلام الهستيرية، فيعمدن إلى إقامة حفلات الزار والتوسل بزيارة الأضرحة للبرء مما يصيبهن من الأمراض العصبية.

- إنني لا أزال وأنا أكتب هذه السطور أتذكر صورة هذا الرجل الذي دخل علينا ونحن بضريح الشيخ المغاوري ثم أتخذ موقفه بين الشمعتين وما كاد يرى صياح النسوة حتى راح يهز رأسه عنيفاً بطريقة منتظمة، ثم ينادي بأعلى صوته: الله، الله. . . وبعد برهة كان يلتوي على الأرض التواء الحية الرقطاء وتتقلص عضلات وجهه، ويرسل صراخا كالنباح قائلاً: الله أكبر! الله أكبر! حتى خيل إلينا أن صخرة المقبرة أوشكت أن تلتقط منه لفظ الجلالة. وكدت أفقد رشدي من هول الموقف، وأحسست كأن حشرجة الموت تنشب مخالبها في حلقي، فأردت أن أستنجد بكل قواي غير أني لم أستطع إلى ذلك سبيلا؛ فجاهدت قدر طاقاتي حتى لا أسقط على مقعدي، ولكن بلا جدوى أيضاً لأنني شعرت كأن بي مسا من الجن، وأن كابوساً قد جثم فوق صدري، وأن العرق البارد يتحلب من وجهي. وأخيراً هدأت نفسي فغادرت المكان وهتفت بصديقي أدعوه إلى الصلاة. ولكنه أجابني بعدم قدرته على أدائها وهو لا يزال يرجف فزعا. فتركته ومضيت إلى القبلة، حيث عادت إلي طمأنينتي الأولى. وبعد الصلاة رحت أفتش عن صديقي فإذا به يقف بجوار المحراب باهت اللون، ينتظرني بفروغ صبر لنغادر هذا المكان الذي يرمقه بعيون مفتحة رعباً.

وتأوه صديقي ونحن نغادر باب المغارة، ثم أفضى إلي بأنه من الصعب أن يشعر بأقل ميل نحو الشرق، حيث الأضرحة والعقائد القديمة البالية والعادات المرذولة، ولكن أمه - تلك السيدة الوقور الطيبة الأخلاق - طالما شكت إلى إيمانه المزعزع واتجاهه نحو الغرب، وكانت تصلي من أجله عسى الله أن يرشده إلى الطريق السوي ويغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

وانطلقنا إلى حديقة المغارة وما كدنا نستقبل الهواء الطلق حتى وقع نظرنا على طائفة من السائحات الأمريكيات وهن يصغين باهتمام إلى شروح بعض التراجمة والإدلاء، فهتفت بصديقي قائلا:

- هذا هو الغرب الذي تتعشقه

(تمت)

عبد الكريم جرمانوس