مجلة الرسالة/العدد 209/رسالة الفن
→ نفثة محزون | مجلة الرسالة - العدد 209 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 05 - 07 - 1937 |
ميكيلانجلو
العبقرية الملهمة
للدكتور أحمد موسى
- 4 -
تكاد تكون شخصية ميكيلانجلو من أعقد الشخصيات؛ ذلك لتعدد نواحي دراسته وتحديد مواهبه الفنية فإذا استعرضت تاريخ حياته في مختلف المصادر، وجدت أن كل مؤرخ فني تفرغ لتناوله من ناحية معينة، بغية الوصول إلى تعريف محدود له، ينتهي بوضع أساس يتفق وعظمته.
وقد قرأنا عنه الكثير، وشاهدنا من إنتاجه وأثاره ما فيه الكفاية، ووجدنا بعض مؤرخي الفن يدرس كمهندس معماري، وآخر يحلله كنحات، وثالث كنقاش، ورابع كمصور، وخامس كشاعر، وسادس كعاشق، دفع به الهوى إلى تلحين ملحمات غزلية ألفها في ساعات إلهامه.
وقد أخذنا على عاتقنا دراسة ميكيلانجلو دراسة فنية مبسطة ولكنها شاملة، وتناولناه بالبحث كنحات عظيم. ولكن لا نكون قد أدينا رسالة الفن تمام التأدية إذا لم ندرسه كمصور أيضاً، حتى تتم بذلك معرفتنا له من ناحيتيه البارزتين وهما النحت والتصوير؛ ولا سيما وهو لم يكن ليقل عظمة في الأخير عن الأول، بل إنه استطاع إظهار أدق وأعمق مشاعره النفسية، وأفكاره الملهمة في التصوير الذي أخرجه على أعظم جانب من الإجادة وحسن الانسجام.
وإذا كنا قد علمنا أن ترك بعض منحوتاته دون إكمال، فإنه يهمنا أن نعلم أنه لم يترك من مصوراته إلا ما ندر غير كامل، ومن هنا نستطيع أن ندرسه دراسة وافية كمصور، ونصل بها إلى الأعماق التي لم نستطع الوصول إليها في النحت الذي قررنا أن اتجاهه فيه كان مثلياً كما كان في التصوير، وهي ظاهرة طبيعية يحتمها التناسق في الإنتاج الفني والخلق المبتكر.
وإذا كان ميكيلانجلو قد ظهر أمامنا بعد استعراض منحوتاته، دائم الطموح نحو الكمال الإنساني، ساعياً وراء المثل العليا في التكوين الإنساني والموضوعي، مهتما تمام الاهتمام باختيار المواقف العنيفة التي خرج بها عن المألوف من ناحية الإنشاء الوضعي والتي مقتضاها أن أظهرت تفاصيل الجسم على أقوى ما يمكن ظهورها به؛ فإن هذا نفسه كان الاتجاه الذي سار فيه والهدف الذي رمى إليه في التصوير الذي لم يجمع فيه بين المناظر الشخصية مفردة كانت أو مجتمعة وبين الطبيعة إلا فيما ندر، مخالفاً في ذلك ما رأيناه عند ليوناردو دافينشي (راجع المقالين الخاصين به)
ويشعر المشاهد لمصوراته عموماً كأنه واقف يستعرض تماثيل مجسمة لا صور أو لوحات مسطحة، ومن هذا نستطيع أن نكون لفنه التصويري طابعاً مميزاً وروحاً خاصا، وهو أنه كان مصوراً نحاتياً أكثر منه مصوراً بحتاً، إذ أن كل مصوراته تمت بصلة كبيرة إلى قواعد النحت، أكثر من انتمائها إلى قواعد التصوير.
على أن مصوراته هذه لم تكن مرسومة بالزيت كما يعتقد كثير من الناس، بل كانت تصويراً على الجص الطازج، وهذه الطريقة التي تتلخص في التصوير بألوان الماء على طبقة رقيقة من الجص أو الجير قبل جفافه هي التي يعبر عنها رجال الفن بتصوير الفرسكو
وقد صور بعض مصوراته بطريقة أخرى. وذلك أنه أخذ الألوان الطبيعية من الأرض وأضافها إلى محلول الغراء والعسل، وعندما أراد التصوير بها أضاف إليها الغراء الكثيف أو بياض البيض واستعملها مباشرة ولعلنا بدرسه على ضوء أبسط أصول تاريخ الفن نضطر إلى تقسيم تراثه إلى ثلاث مراحل تستغرق كل مرحلة منها نحو ثلاثين سنة، على اعتبار أنه عاش حوالي التسعين
وتنحصر المرحلة الأولى بين سنة 1475، 1505 وهي التي قضى معظمها كنحات، وقد سبق لنا درسها، وله فيها ثلاث قطع لا تزال باقية، أولها صورته (دفن المسيح) وثانيهما (مادونا مانشيستر) وتشمل مريم ويسوع ويوحنا وأربعة ملائكة والروح الغالبة على هذه اللوحة ظهور البساطة بأجلى معانيها، مع عظمة التكوين الإنساني، وهذه سابقتها محفوظتان بجاليري لندن غير كاملتين.
وقطعته الثالثة تمثل العائلة المقدسة، وهي صورة مستديرة - ش1 - محفوظة بمتحف أوفيسين بفلورنسا، صورها سنة 1504 وتمثل مريم والطفل وخلفهما يوحنا ومجموعة أطفال في مؤخرة اللوحة.
أنظر إلى مريم وكيف أسندت الطفل بوضع أطراف يدها اليمنى تحت إبطه وإسناده له بيسراه ثم تأمل الجمال البادي على ملامحها، وحسن إخراج الملابس وثناياها. إلى جانب جلستها الرائعة، وظهور قدمها اليمنى بحالة فنية لا ترتفع إلى مثلها غير عبقرية ميكيلانجلو.
ثم شاهد ما أرتسم على وجه يوحنا من علامات الحب والإشفاق على الطفل يسوع. ولا حظ شعر الرأس والذقن إلى جانب الحياة التي تشع من عينيه.
ورسم الأطفال في مؤخرة الصورة أقوياء التفاصيل والتكوين الجسماني وهذا من مميزاته الخاصة، وميله إلى قواعد النحت أكثر من ميله إلى قواعد التصوير.
وتعطيك النظرة الشاملة للمجموع الإنشائي للصورة فكرة هائلة عن جمال الوضع الأولي والتصميم الكلي للوجه. فالرؤوس الثلاثة تكاد تكون بارتفاع واحد. ومع هذا لم تخرج عن أصول الانسجام فضلا عن بعدها عن الازدحام الذي يؤدي غالباً إلى ضعف التوجيه. هذا إلى هدوء الألوان وبعدها عن الحدة.
وله مصورات تخطيطية بين سنة 1501، 1505 منها ما مثل دراسات لرؤوس بمشاهدتها تعطيك فكرة صادقة عن مدى تأثره بليناردو دافينشي.
ولعل أبرز ما أنتجه في هذه المرحلة أيضاً الصور الكارتونية للتصوير الجصي (الفرسكو) الذي لم يتم عمله والذي كان مخصصاً لبيت البلدية في فلورنسا، وهذه تخالف في روحها وتكوينها لوحاته التي أظهرت تأثره بليوناردو وهي تمثل مذبحة كاشينا التي أنتصر فيها الفلورنسيون على محاربيهم من بيزا في 27 يوليو سنة 1364
وقد مثل في هذه اللوحة جمهرة من الفلورنسيون يستحمون وأعداؤهم من بيزا يفاجئونهم، وهي رائعة الإنشاء قوية الإخراج مليئة بالحركة والرشاقة.
وله أيضاً في هذه المرحلة (1505) كارتونات مصورة لم يبق منها للأسف إلا اثنتان، الأولى لأجوستينو فيسيانو والثانية تمثيل منظر (الصاعدين) - ش2 - ، وهي بالنظر إليها تبين رجلا عجوزا جلس على مرتفع من الأرض بينما يشير بيمناه إلى الهدف الذي يريد الوصول إليه، وأمامه ولداه وقد مد الأول منهما يسراه إلى رابع لم تظهر منه إلا أطراف أصابعه الأربعة، والطريقة التي انحنى بها الولد للأخذ بيد زميله من أطراف أصابعه هي من أقوى ما يستطيع فنان اختياره.
أنظر إلى اليد اليمنى وكيف استندت إلى حافة المرتفع، ثم تأمل الحرص البادي على يده اليسرى الممدودة لمساعدة زميله. وإذا تأملت ما تخلل الأحجار من نباتات ظهرت نهايتها ونظرت إلى الأشجار وما غلب عليها من ظل ونور، وشاهدت الكيفية التي عالج بها أوراق الشجر إلى جانب المرتفعات البعيدة في مؤخرة الصورة، ترى أن ميكيلانجلو كان عنيفاً ولكنه العنف الذي أدى إلى الخلود الفني.
أحمد موسى