الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 209/حديث الأزهار

مجلة الرسالة/العدد 209/حديث الأزهار

بتاريخ: 05 - 07 - 1937


للكاتب الفرنسي ألفونس كار

نخاسة الأزهار

ما اجتزت سوق الأزهار مرة إلا شعرت بحزن شديد، كأنني أتجول في سوق النخاسة حيث تقوم المساومة على الأجساد وتلقى العبودية طابعها المروع على وجه الإنسان

يتمشى الأغنياء بين الأزاهر فيحدجونها بأنظارهم متفحصين أشكالها وصحتها وأعمارها. فإذا ما تمت الصفقة خرجت الزهرة المبيعة من سوق النخاسة لتتبع خطوات سيدها.

سيرى وراء من اشتراك أيتها الزهرة التعسة. اذهبي إليه لتخدمي شهواته، زيني قصره بجمالك فلسوف ينزلك ثمين الآنية ويحوطك بأطالس الأعشاب. سيكون مسكنك فخما، أيتها لزهرة، فودعي الشمس والهواء، ودعي الحرية فالعبودية فاتحة ذراعيها لتضمك إلى صدرها.

يا لشقاء هذه الأزهار! إنها تعرض أكواماً يلفحها الحر والقر فتذوي مهتوكة تحت نظرات الفاحشين من الناس

لقد مر البائع فارفعي رأسك أيتها الزهرة، ليراك منتصبة تملأك الفتوة نضارة، فأنت لنضارتك معروضة على المشترين إن أكثر الأزهار المعروضة في سوق النخاسة تحني رأسها وقد ارتخت قوائمها فتلاعبت فيها أضعف النسمات. لقد رسمت الأسفار البعيدة عليها آثار الضنى. وكتب الشقاء على تويجها آيات المذلة والاستعباد. وما تهتم هذه الزهرات بجمالها، وهي تعلم ما تحتم عليها من الخضوع لسيد مجهول يتحكم فيها.

لقد تسعد إحداها إذا اشترتها فتاة لتزين بها نافذتها فتجد الماء وتجد الهواء لتحيا وتطل عليها من وراء الأشجار أشعة الكوكب الذهبي يناجي فيها ابنته في كل صباح.

هنالك تسمع الزهرة تغريد أخيها الطير يمازجه نشيد الغادة بصوتها الحنون.

ما أسعد الزهرة التي تمر بها فتاة معلقة بذراع أمها فتحملها إلى غرفتها الطاهرة تجود بعطرها في الليل ممتزجا بأحلام العذراء أما أنت أيتها الأزهار التي ينثرك الأغنياء في قصورهم في ليلة عيد، فما أشد ويلك وما أظلم الأفق الذي تستقبلين. أملاي أجواء القصر بالعبير في ليلة واحدة لقاء اجر معين، فانك ستحملين من عيد إلى عيد حتى يرتعي السل صدرك الضعيف فتجودين بالحياة على المزابل بزفرة دامية

وأشد منك شقاء يا زهرات الأعياد زهرة تشتريها سيدة مستبدة لا تطلب من الأزهار إلا أوائل أريجها حتى إذا تخدرت منها طرحتها إلى الخدم يجهزون عليها بعيدة عن الهواء في ظلمات الليالي.

ويل لهذه الأزهار تهمس أنينها همسا فلا يسمع أحد ببلواها، فهي مستعبدة صامتة لا تعرف إلا أن تحني رأسها وتندفع إلى الفناء.

تقتطف الزهرة من حضن أمها وتؤخذ بالعنف من بين أخواتها وأصحابها، لتطرح حيث تجود بنضارتها وعبير صباها، فيا للجريمة لا عقاب عليها!

لقد منعت القوانين نخاسة السود ولكنها ما منعت نخاسة الأزهار.

ليهتف المصلحون بصوت وجدانهم فما من سميع وقد مات جان جاك روسو وبرنار دي سان يار. ولكن من نستصرخ وإلى من نتجه؟ فليس أنصار الحق نفسهم المنادون بمنع النخاسة بين الناس هم الذين ينسلون تحت جنح الليل يتلهون بدوس الأزهار واقتلاع وريقاتها الطاهرة من تويجها الضعيف. . .؟

أفليست السلطة هي التي تسمح باقتلاع الأزهار من منابتها إلى سحيق الإفطار حيث تعيش ولا أسرة لها لأن بذورها تطرح على أرض تخنقها وتواريها.

مررت يوما في تلك الساحة، فرأيت زنبقة رائعة الجمال يساوم عليها رجل ألقت السنون غشاء على عينيه، وهو يصب نظراته على الوريقات البيضاء فتختلج ويمد يده إلى ساقها ليجس بضاضته، فتتلوى خجلا وذلا، فانحدرت من أجفاني دمعة حري رأيت مثلها تنحدر على مهل من التويج الأبيض، فخيل إلى أن الزنبقة تقول لي: - اشترني أنت ولا تتركني فريسة في يد هذا الرجل فان نظراته تحرقني ولمساته تقضي علي، أنقذني فإنني إن تبعته أموت

هتفت: - سأخلصك أيتها الزهرة الطاهرة

فدهش الشيخ لهذا الهتاف، فأدار وجهه نحوي وأرسل إلي نظرة الاحتقار مشيرا إلى الخادم، فحمل الزنبقة وسار بها وعبثا حاولت إقناع البائع بفسخ البيع لأن الشيخ كان قد أدى ثمن الأمة الشقية

تبعتها وأنا أزودها نظرات الأسى والحنان فكانت تبتسم لي بدموعها من بعيد. وتوارت عن ناظري، وفي صباح اليوم التالي وقفت أمام القصر أستخبر النسيم عن زهرتي الحزينة. ففتحت النافذة بعنف ورأيت الخادم يرمي بالزنبقة الذابلة إلى مطارح الأقذار

لكم من زهرة تجود بأنفاسها على مثل هذا الفراش. . .

(ف. ف)