مجلة الرسالة/العدد 209/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 209 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 05 - 07 - 1937 |
أغنية الدير
للكاتب الإنجليزي وليام كانتون
ترجمة الأستاذ كامل محمود حبيب
هبط جون أوف فولد إلى هيثهولم - لأول مرة - رئيساً للدير هناك وفي صحبته شتى المؤلفات النادرة الأنيقة في الفلسفة والدين والأدب، مغلفة في جلد ثمين موشى بالذهب والفضة ثم الملابس الغالية الطريفة من الحرير والمخمل؛ وعباءات من الكتان الجميل، دقيقة الصنع، وقلانس محلاة بالعسجد، أشياء تنبئ عن نعمة وترف. . .
وراح القس الجديد ينفث من روحه التواقة الصافية في جنبات الدير، فوضع في نوافذ الناحية الغربية التي يسكنها هو أصصا من البلور بها طاقات من شتى ألوان الزهور الناضرة. وزين حجرة سانت إيجون بالأصص المرصعة باليواقيت، فيها فنون وفنون من الزهر الصناعي؛ وفي سماء الحجرة طير من لجين تبدو كأنها محلقة في سماء الأرض تهفو نحو هذه الطاقات وتحوم حولها؛ ثم أمر فصففت المناضد والكراسي الخشبية الجميلة في حديقة الدير ليجلس عليها الموسيقيون كل صباح وكل مساء، يعزفون ويرتلون الأناشيد الدينية الشجية. . . لقد كان الأب جون يفور نشاطاً وقوة، في روحه الصفاء والجمال، وفي قلبه الإيمان واليقين؛ فأراد أن يبعث في الدير روح الجنة ليستروح هو وإخوانه من الرهبان نسمات الخلد من هذه الناحية النائية من الأرض. . .
وبذ هذا الدير غيره جمالا وروعة وبهاء
وكان الأب توماس وكيل الرئيس يرى ما يفعله الأب جون وفي قلبه الاضطراب والأسى، وفي نفسه الغيظ والحنق؛ وكان يجلس إلى نفسه بين الحين والحين يحدثها: حقاً، إن هذه الأشياء لا تعني الرب، وهي تبعث في العين السرور والبهجة، وتدخل إلى القلب اللذة والطرب، وتنفث في الحياة المتعة والجمال! ماذا تفيد هذه الكنوز الغالية، والطرف الجميلة، والآثار النادرة؛ وهي تجذب القلب عن العبادة، وتورث في النفس حب الحياة وحب الاستمتاع؟ ما للراهب ولهذه الأشياء وهو يريد وجه ربه مخلصاً له؟ هذا بعض عبث الشيوخ وحرفهم حين يسيطرون على بيوت الله، يجمعون شتى الطيبات، وألوان الملذات، فتلهيهم عن ذكر الله وعن الصلاة؛ وعن أناس يبيتون في العراء حفاة عراة، ويتضورون جوعاً، لا يجدون مأوى، ولا يجدون كساء ولا طعاماً، ليت هذا الشيخ الغفل ينظر بعين القس الورع إلى ما يقاسيه الفقراء وذوو الحاجة فيخفف من غلوائه، وينزع عنه بعض حماقاته!. .
وفي الحق لم يكن توماس ليستشعر في نفسه الأسى والألم لما يقاسيه بعض الناس من فاقة وعوز، ولم تكن في قلبه الرحمة والشفقة؛ ولكنه كان يحس ألم الحقد والحسد يتنزى في صدره كلما وقعت عينيه على ما أنتثر هنا وهناك في نواحي الدير منذ هبط الكاهن الأعظم جون.
لقد كان توماس على غير ما كان عليه رفاقه: كان رجلا فيه الكآبة والعبوس، فكان الرهبان والقسس يعبدون الله مخلصين وفي قلوب الطرب والسرور. وفي قلبه هو التجهم والحقد؛ في أرواحهم اللذة والقناعة، وفي روحه هو الجفاف والغلظة؛ وفي أنفسهم الرضا والاطمئنان، وفي نفسه التقلقل والاضطراب. ثم هم يرون في أرض الله مسرحاً للعين والقلب والنفس جميعاً، وهو في منأى عنهم قد شغلته فكرة تضطرب في رأسه.
واعتاد الأب توماس أن يدلف إلى المعبد كل مساء وفي يده مصباحه، وقد أرخى الليل أستاره، ونامت الحياة في كل حي، يتهجد ويتعبد، ساجداً راكعاً، قارئاً مرتلا؛ يناجي ربه في هدأة الليل وسكونه، يسأله ويستغفره، فما يبرح حتى تخونه قوته، ويهن عزمه، وتضطرب مفاصله، من أثر الاندفاع والبرد في وقت معاً؛ فيرتد إلى حجرته يتكفا في طريقه. .
وانطلق - ذات مرة - إلى حيث ينطلق كل ليلة، وقد تأججت في نفسه ثورة الحقد على رئيسه جياشة مضطرمة، تكاد تعصف بإيمانه وعقيدته. . انطلق والبرد يزلزل أعصابه ويتغلغل في أوصاله وهو في طريقه لا يتململ ولا يعبأ. . وسجد في محرابه. . . غير أن صوتاً موسيقياً عذباً هادئاً رن في مسمعيه فنزعه من أخيلته، فأنصت يتسمع. . . ثم استوى جالساً، وحدق فيما حوله يريد أن يستشف أمراً، وبدت عليه الدهشة حين رأى ضوءاً خافتاً يضطرب في أرجاء الدير يزداد سطوعه رويداً رويداً، وتعلو معه نغمات الموسيقى فتزداد حلاوة ووضوحاً.
ورنت الموسيقى الإلهية في جنبات المعبد، وارتفعت الأصوات الملائكية تنشد نشيداً عذباً يرقق القلب، ويبعث فيه الروعة والجلال وخيل إليه أن الرسوم والأحجار والسقف والحوائط. . . جميعاً تردد هذا النشيد في رنات سماوية وأحس بالناي الإلهي تحت ركبتيه تنبعث منها أهازيج يطرب لها الفؤاد وتهتز النفس.
واستولت على الراهب الحيرة فما استطاع أن يبرح مكانه. . . ثم أرهف سمعه فإذا الصوت ينبعث من ناحية المحراب أولا ثم يمسك، فيندفع كل ما حوله يرتلون الأنشودة في صوت فيه السحر والجمال، وترتفع رنات الموسيقى لتزيد النشيد طلاوة وحلاوة، وبدا له المكان يهتز طرباً كأنه يرقص مع النغم الشجي المنبعث من هنا ومن هناك.
وتراءت له صور الملائك تضطرب في هذا الضوء الإلهي الساطع، وفي أيديهم المعازف، وخيل إليه أن هذه الأشباح رسوم صورها له خياله فحسب، فانتفض من مكانه يحدق ذات اليمين وذات الشمال، ويتحسس بيديه نواحي المكان، وحين بدا له أن ما يرى حقاً لا مرية فيه، اضطرب، وزالت عنه شجاعته، وجمد في مكانه وقد سيطر عليه الفزع والخوف، غير أن صوتاً لذيذاً رن في مسمعيه يطمئن نفسه:
نحن الملائك نبتهل إليك يا رب
نحن الملائك نبتهل إليك يا رب
وأجال بصره فرأى على جانبي المحراب ملكين يترنمان: على مر الأيام والليالي ونحن نسبح بحمدك يا رب ونقدس اسمك العظيم يا رب، ما دام هذا الكون اللانهائي. ومن بين شفتيهما يتصاعد النفس فينعقد سحباً كثيفة بيضاء في أعلى المكان، فاستشعر في نفسه الخور والضعف غير أن حب الاستطلاع دفعه إلى المحراب ليرى. . .
واستطاع أن يرى رسوم الملائك والملوك على أستار المعبد تردد هي أيضاً هذه الأغنية.
والصور على زجاج النوافذ ترتل هي أيضاً الأغنية ورؤوس الملائكة المنحوتة في رخام المعبد ترتل الأغنية والأسد والدواب المرسومة هنا وهاهنا ترتل هي الأخرى الأغنية.
وتماثيل القديسين المنثورة في نواحي المكان ترتل هي أيضاً الأغنية.
والرسوم على الجدران ترتل أيضاً الأغنية.
وبدا له أن كلمات هذه الأغنية قد رسمت بحروف من ذهب يتوهج فيخطف البصر. على دروع الملوك والأمراء وذوي الجاه في سقف المعبد؛ والجميع يهزجون ويهتزون من فرح ومن سرور كأنهم أحياء، وتصاعدت أنفاسهم إلى سماء المعبد، سحبا تغطي السقف وتحيط بالأعمدة، ثم أمسك الجميع سوى رنات الناقوس العظيم في أعلى المحراب
وملأ مسمعي توماس صوت يردد الأغنية خارج المعبد في نبرات أخاذة شجية، يخترق سكون الليل وظلامه ليستقر في أذنيه هو. إنه. . . إنه منبعث من حجرة التماثيل، حيث الملوك والملكات، حيث الأمراء والعظماء، حيث الكهنة والشهداء، حيث القسس والرهبان؛ قد صففت تماثيلهم الفضية والبرنزية والرخامية والحجرية، لقد أجابوا جميعاً دعوة الداعي فانطلقوا يترنمون بالأغنية الإلهية في طرب ولذة. . . وهدأت الموسيقى خارج المعبد لتبدأ مرة أخرى داخله، ثم. . . ثم اندفعوا جميعاً بصوت فيه العذوبة والحلاوة يرددون:
على مر الأيام والليالي ونحن نسبح بحمدك يا رب، ونقدس اسمك العظيم يا رب؛ ما دام هذا الكون اللانهائي واصطرعت في رأس توماس فكرة أفكار متناقضة فما استطاع سوى أن يرفع عقيرتة:
يا إلهي، فليشملنا عفوك وغفرانك؛
فليشملنا عفوك وغفرانك يا إلهي!
ثم تراخت قوته فانطرح على الأرض ذاهلا. . .
وأفاق فما وجد إلا الظلام يشمل الأرض، وإلا السكون يسيطر على الكون، وإلا مصباحه الضئيل يضطرب في ناحية من المعبد. . . فارتد إلى حجرته وقد آلمه ما نازعته إليه نفسه من حقد على عبد من عباد الله الصالحين، حباه الله بفضل من لدنه، فبذل فضل جهده في العناية بمخلوقاته الخرساء الصماء، وفي تنسيق قطعة من أرض الله لتكون جنة الله على أرضه، ونزع ما في صدره من غل، فأيقن أنه إن لها الإنسان عن ذكر ربه ففي الكون مخلوقات ما تفتأ تردد ما دامت السموات والأرض:
. . . نحن نسبح بحمدك يا رب،
ونقدس اسمك العظيم يا رب؛ مادام هذا الكون اللانهائي.
كامل محمود حبيب