مجلة الرسالة/العدد 208/هكذا قال زرادشت
→ الفلسفة الشرقية | مجلة الرسالة - العدد 208 هكذا قال زرادشت [[مؤلف:|]] |
رسالة الفن ← |
بتاريخ: 28 - 06 - 1937 |
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
الانتصار على الذات
ليست إرادة الحق في عرفكم، أيها الحكماء، إلا تلك القوة التي تحفزكم وتضطرم فيكم، تلك هي إرادتكم التي أسميها أنا (إرادة تصور الوجود) فأنكم تطمحون إلى جعل كل موجود خاضعاً لتصوركم، وأنتم تحاذرون بحق أن يكون هذا الوجود قد أحاط به التصور من قبل فتريدون أن تخضعوا لإرادتكم كل كائن لتتحكموا فيه بالصقل ليصبح مرآة تنعكس عليها صورة العقل.
هذا ما تطمحون إليه، يا أحكم الحكماء، وتلك هي إرادتكم تجاه القوة والخير والشر وتقدير قيم الأشياء.
إنكم تريدون خلق عالم يمكن لكم أن تجثوا أمامه، تلك هي نهاية نشوتكم وآخر أمنية لكم. ولكن البسطاء الذين يدعون شعباً يشبهون نهراً تخوضه أبداً ماخرة تقل الشرائع، وقد جلسن عليها بعظمة وأنزلن على وجوههن الحجاب.
لقد أرسلتم إرادتكم وشرعتكم على نهر الزمان، ولكن إرادة القوة مثلت أمامي وكشفت لي حقيقة الخير والشر في اعتقاد الشعوب.
وهل سواكم، أيها الحكماء، من أنزل بإرادته المتسلطة هذه الشرائع في هذه الماخرة وقد حليتموهن بالجواهر وأسبغتم عليهن أروع الأسماء.
لقد سار النهر يحملن بانسيابه وسهم الماخرة يشق أمواجه ومن يبالي بالموجة تقاوم عبثاً في إرغائها وإزبادها.
إن الخطر الذي يتهدد خيركم وشركم لا يكمن في النهر، أيها الحكماء، بل الخطر في إرادة القوة نفسها لأنها الإرادة الحية الدائمة المبدعة.
أن ما سأقوله عن الحياة سيوضح لكم اعتقادي في الخير والشر عندما أتناول ببياني ما تفعل العادات في الأحياء.
لقد سايرت الكائن الحي على معابره وأشواطه لأتعرف إلى عاداته، وعندما كانت الحياة صامتة نصبت أمامها مرآة بألف ضلع لأستنطق عينيها فكلمتي لحاظها.
في كل مكان عثرت فيه على حي، طرقت أذني كلمات الطاعة فما من حي يتعالى عن الخضوع، وعرفت أيضاً أن ليس من محكوم في الحياة سوى من لا قبل له بإطاعة نفسه. . . تلك هي عادة كل حي. .
وهذا ما سمعت أخيراً: إن تولي الحكم أصعب من الطاعة لأن الآمر يحمل أثقال جميع الخاضعين له وكثيراً ما ترهق هذه الأثقال كواهل الآمرين.
إن في أمر خطراً ومجاذفة، وكل مرة يصدر الحي فيها أمراً يقتحم خطراً.
وإذا ما تحكم الحي في ذاته فأنه يؤدي جزية لسلطانه إذ يصبح قاضياً ومنفذاً وضحية للشرائع التي يستنها.
وتساءلت عن علة هذه الأمور وعن القوة التي ترغم الحي على الانقياد والتحكم فتجعله خاضعاً حتى إذا حكم. ولعلي توصلت إلى سبر قلب الحياة إلى الصميم، فأصغوا إلى قولي أيها الحكماء
لقد تيقنت وجود إرادة القوة في كل حي ورأيت الخاضعين أنفسهم يطمحون إلى السيادة لأن في إرادة الخاضع مبدأ سيادة القوي على الضعيف، فإرادة الخاضع تطمح إلى السيادة أيضاً لتتحكم فيمن هو أضعف وتلك اللذة الوحيدة الباقية لها فلا تتخلى عنا.
وبما أن الأضعف يستسلم للأقوى والأقوى يتمتع بسيادته على هذا الأضعف فإن الأقوى يعرض نفسه للخطر في سبيل قوته فهو يجاذف بحياته مستهدفاً للأخطار.
أن إرادة القوة كامنة حتى في مجال التضحية والخدمة المتبادلة وبين نظرات العاشقين لذلك يتجه الأضعف إلى السبل الملتوية قاصداً اجتياز الحصن والتربع في قلب الأقوى مستولياً فيه على قوته
لقد أودعتني الحياة سرها قائلة: لقد تحتم علي أن أتفوق أبدا على ذاتي. وأنكم لتحسبون هذا الاندفاع إرادة إبداع أو غريزة تحفز بي إلى الهدف الأسمى والأبعد منالاً بعديد جهاته، في حين أن ليس هنالك إلا وجهة واحدة وسر واحد. وأنني لأفضل العدم على التحول عن هذه الوحدة.
والحق أنكم حيث تشهدون انحداراً وسقوط أوراق من الأدواح، فهنالك تشهدون تضحية الحياة من أجل القوة.
لقد وجب علي أن أكون أنا الجهاد والمستقبل والهدف وأن أكون في الوقت نفسه الحائل الذي يعترضني في انطلاقتي إلى هدفي
لذلك لا يعرف الإنسان الطريق المتعرجة التي عليه أن يسلكها إذا هو لم يدرك حقيقة إرادتي.
مهما كان الشيء الذي أبدعه ولي ومهما بلغ حبي له فإن عليّ أن أنقلب له خصماً، وأتحول عن حبي وحناني، ذلك مل قضته إرادتي عليّ
وأنت، أنت يا من تطلب المعرفة ليس لك من سبيل غير سبيلي فعليك أن تقتفي أثر إرادتي، وما تقتفي إرادتي إلا آثار إرادة الحق
ما عثر على الحقيقة من قال بإرادة الحياة، لأن مثل هذه الإرادة لا وجود لها، وليس للعدم إرادة كما أن المتمتع بالحياة لا يمكنه أن يطلب الحياة
ولا إرادة إلا حيث تتجلى حياة، ومع هذا فإن ما أدعو إليه إن هو إلا إرادة القوة لا إرادة الحياة
أن هنالك أموراً كثيرة يراها الحي أرفع من الحياة نفسها، وما كان ليرى أشياء أفضل من الحياة، لو لم تكن هنالك إرادة القوة.
هذا ما علمتني إياه الحياة يوماً، وأنا بهذا التعليم أهتك أسرار قلبكم، أيها الحكماء، فأقول لكم: إنه ليس هنالك من خير دائم وشر دائم، لآن على الخير والشر كليهما أن يندفعا أبداً إلى التفوق والاعتلاء
وأنتم أيها الواضعون للقيم أقدارها بمقاييسكم وأوزانكم وبما تقولونه عن الخير والشر هل كان لكم أن تفعلوا هذا لو لم تكن لكم إرادة القوة؟ وما تطمحون في أعماق ضمائركم إلا إلى الشهرة والشعور بتأثركم وفيضان أرواحكم. ولكم تجهلون أن في الأمور التي تخضعونها لتقديركم قوة أعظم من تقديركم تنمو وتتفوق على ذاتها لتحطم غلافها وقشورها، فمن أراد أن يكون مبدعاً سواء أكان في الخير أو في الشر فعليه أن يبدأ بهدم ما سبق تقديره وبتحطيمه تحطيماً. وهكذا فأن أعظم الشر يبدو جزاء من أعظم الخير، ولكن هذا الخير لم يعط إدراكه إلا للمبدعين
لقد حق القول علينا أيها الحكماء، مهما كلفنا الجهر به فأن الصمت أشد وطأة علينا، لأن كل حقيقة نكتمها إنما تتحول إلى سم زعاف فينا، فلنحطم الحقائق التي نجهر بها ما يمكنها أن تحطم فأن هنالك أبنية عديدة يجب علينا أن نرفعها
هكذا تكلم زارا. . .
العظماء
إن في بحراً هدأت أعماقه، فمن يظن أنه يخفي مسوخا دأبها المزاح؟ إن أغواري صامدة لا تتزعزع، غير أنها تتماوج بالمعميات وتجاوب فيها من الضحك نبرات وأصداء.
رأيت اليوم رجلا من العظماء الإجلاء الذين يكفرون من أجل الروح. فاستغرقت روحي في ضحكها هازئة بقبحه. غير أن هذا العظيم لم يبد ولم يعد. بل أنتفخ صدره كمن يتنفس الصعداء، فلاح لي بحقائقه المروعة وبأثوابه الممزقة غصناً كله أشواك وليس فيه ورد.
ما تعلم هذا القناص الضحك ولا عرف الجمال، فأنه راجع من غاب المعرفة أغبر الوجه بعد أن صارع فيها الوحوش فانطبعت صورهم على سيمائه، فهو كالنمر يتحفز للوثوب، وما أحب مثل هذه الأرواح المنقبضة على ما تضمر.
تقولون، أيها الصحاب، إنه لا جدال في الذوق وفي الألوان فكأنكم تجهلون أن الحياة بأسرها نضال من أجل الأذواق والألوان.
ما الذوق إلا الموزون والميزان والوزان. . . فويل لكل حي يريد أن يعيش دون نضال من أجل الموزونات والموازين والوازنين
ليت هذا الرجل العظيم يتعب من عظمته ليظهر الجمال فيه فأنه في ملاله من هذه العظمة يستحق أن أتذوقه فأجد له طعماً.
إذا لم يتحول العظيم عن نفسه فلا يمكنه أن يقفز فوق خياله لتغمره أشعة شمسه. لقد تفيأ الظل طويلا، هذا المفكر من أجل الروح، فشحب وجهه وكاد في انتظاره أن يموت جوعاً، وهذه عيناه تشعان بالاحتقار وشفتاه تتبرمان بالاشمئزاز، أنه يلتمس الراحة الآن ولكنه لم ينطرح تحت الشمس بعد.
ليت هذا الرجل يتمل بالثور فيفوح من سعادته عبق الأرض لا احتقار الأرض. ليته كالثور الأبيض يعج أمام المحراث فيرتفع عجيجه تسبيحاً للأرض وما عليها.
لقد أكفهر وجه هذا العظيم إذ تلاعبت على خديه إظلال يده فاخفت عيناه. وأعماله نفسها لم تزل كالخيال تلوح ولا تبدو عليه. فإن اليد ترسل ظلا قاتماً على العامل إذا هو لم يتفوق على عمله
إنني أقدر احتمال هذا الرجل لنير الثور ولكنني أتمنى أن تشع نظرات الملاك في عينيه، ولن تشع هذه النظرات ما لم ينس ما فيه من إرادة الأبطال. لأن ما أريد له هو أن يصير رجلاً سامياً لا أن يبقى في مربية الرجل العظيم حيث يفقد الإنسان إرادته فتتلاعب به أضعف النسمات.
لقد تغلب هذا العظيم على الجبابرة وتوصل إلى حل الرموز ولكن عليه الآن أن ينقذ هذه الجبابرة وهذه الرموز ليحولها إلى طفولة الألوهية.
إن معرفة هذا الرجل لم تتعلم الابتسام ولا الترفع عن الحسد كما أن موجة شهواته لم تكن في خضم الجمال. وما عليه أن يدفع بهذه الشهوات إلى سكون الشبع بل عليه أن يغرقها في الجمال لأن اللطف لا ينفصل عن مكارم من بلغوا الأوج بتفكيرهم
على البطل ألا يستسلم للراحة ما لم يضع يده على رأسه ليتفوق على راحته، وما يصعب على البطل شيء كإدراكه الجمال، لأن الجمال لا يستسلم لأبناء العنف.
أن بين الإفراط والتفريط قيد أنملة، فلا تحتقروا هذا المدى لأنه بعيد وإن قصر وفيه الأهمية الكبرى. ولكن عضلات العظماء لا تلجأ إلى السكون وأرادتهم لا تنضب. وما من جمال إلا في تنازل القوة إلى الرحمة وحلولها في المنظور.
أنني لا أطالب بالرحمة سواك، أيها المقتدر، فلتكن الرحمة آخر مرحلة تقطعها في انتصارك على ذاتك. وما كنت لأفرض الخير عليك لولا أنني أراك قادراً على ارتكاب كل الشرور. ولكم أضحكني أولئك الصعاليك يعدون أنفسهم رحماء وقد شلت يدهم ولا حول لهم ولا طول
عليك أن تتمثل في فضيلتك بفضيلة الأعمدة التي تزداد بها دقة وصلابة في لبابها كلما ازداد ارتفاعها
أجل أيها الرجل العظيم إنك ستبلغ الجمال يوماً فترفع المرآة إلى وجهك لتتمتع برؤية جمالك وعندئذ تختلج روحك بالشهوات وعندئذ تتجلى العبادة في غرورك
لا يقترب البطل في أحلامه إلى مرتبة البطل الكامل ما لم يغفل الروح ويتحول عنها.
هكذا تكلم زارا. . .