مجلة الرسالة/العدد 208/في الحب أيضا
→ الضعف في اللغة العربية | مجلة الرسالة - العدد 208 في الحب أيضا [[مؤلف:|]] |
جهاد شعب مصر في سبيل حقوقه في القرن الثامن ← |
بتاريخ: 28 - 06 - 1937 |
وجواب بعض المسائل
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
يظهر أنني لم أحسن البيان فيما كتبته عن الحب والوقت الذي تكون فيه النفس احسن تهيؤاً له، فقد تلقيت رسائل من هنا وههنا، ومن مصر وغيرها من أقطار العرب، جملة ما استخلصته منها أني حمار طويل الأذنين، وأن لي نهيقاً عالياً ولكنه نهيق لا أكثر، وقد أكون كذلك فما أدري، ولو أني عرفت نفسي على حقيقتها لكان هذا حسي، وعزائي، إذا كنت هذا، قولُ رصيفي الفاضل أبن الرومي:
فيّ طبعٌ ملائكيُّ لديه ... عازف صادف عن الإطراب
أو حمارية فمقدار حظي ... شبعةٌ عنده بلا أتعاب
فبين الملائكية والحمارية هذه الجامعة - إن الملائكية تغري بالعزوف والزهد ترفعاً أو استنكافاً، أو لا أدري لماذا، فما ارتقيت قط إلى هذه المرتبة، وأن الحمارية تؤدي أيضاً إلى الزهد وإن كان هذا منها عن نقص الإدراك وعدم الشعور بالحاجة. ولا تعنيني الأسباب، وإنما تعنيني النتيجة وهي كما ترى واحدة والحمد لله، ولقد أطلت النظر إلى وجهي في المرآة لما وردتني هذه الرسائل ورفعت يدي إلى أذنيّ أتحسسهما ثم قلت لنفسي إن الحمارية طبيعية لا صورة، وارتددت عن المرآة ورأسي مثنىٌ على صدري وأذناي مسترخيتان - مجازاً.
وقال أحد الأفاضل الذين كتبوا إلي، إني لو قضيت يوماً على شاطئ البحر في الإسكندرية لأدركت أن الحب يجئ في وقت النشاط الجم لا الفتور كما زعمت، واعترف لي غير واحد أنهم أحبوا على الريق وذكر لي أحدهم أنه كان يلقي صاحبته كل صباح فأحبها، وقال ثان انه سمع صوتاً في الصباح فخيل إليه أنه يعرفه، فلما رآها عرف أن ذاكرته لم تخنه، وكان أن احب ذات الصوت الذي أيقضه من النوم، ولكن الله لم يكتب له الفوز بها. وذكر ثالث أن المرأة تتزين في كل وقت - في البيت وخارج البيت الخ الخ فما بي إلى الإطالة حاجة
لهذا قلت إني لم أحسن البيان، فما أردت أن أعين ساعة معلومة للحب في الصباح أو الظهر أو العصر أو الليل، وإنما أردت أن أبين أن الحب - ككل مرض - تكون فرصته حين يكون الجسم متعباً قليلاً وأن كان المرء لا يدرك ذلك ولا يفطن إليه. وهذا التعب الخفيف لا وقت له، وما أكثر ما أصبحت برأس مصدع على الرغم من النوم ساعات طويلة فأضحك وأقول لزوجتي: (يا امرأة، هل رأيت أحداً قبلي يفطر على الأسبرين؟) فتسألني: (أبك حاجة إلى الأسبرين؟) فأقول: (نعم بي حاجة إليه. . إلى صيدلية كاملة من الأسبرين. . . ولكني سأحاول الاستغناء عنه، إنما أردت أن أبين لك أن زوجك أعجوبة. . الناس غيري يصبحون وريقهم يجري على الفول المدمس والبيض والقشدة واللبن والشاي والمربيات وما إلى ذلك، أما زوجك المحترم فلا يخطر على باله شيء من ذلك كل همه قرص من الأسبرين يعفيه من وقع هذه الفؤوس التي تحطم رأسه)
فتقول: (الذنب لك. . من قال لك أفعل ما فعلت البارحة؟)
فأقول: (يا ستي أن المهم الآن هو التسكين وبعد ذلك يصح أن يجيء دور الحساب. . . ثم إني لا أذكر ماذا كنت أصنع البارحة. . كلا. . لا يختلج في ذاكرتي شيء. .)
وأما صاحبنا الذي كان يرى فتاته كل صباح فأحبها، فأقول له أن هذا ليس من الحب على الريق وقد وقع لي ما وقع له، أيام كنت تلميذاً في المدرسة الخديوية، وكان بيتي في (البغالة) وطريقي إلى المدرسة من درب (الجماميز) وكنت أرى في كل صباح فتاة على وجهها النقاب الأبيض وحولها ذلك الإزار الأسود - وكان هذا هو اللباس الشائع في ذلك الزمان - ومعها خادمها يحمل لها كتبها ويتبعها ويحرسها، وهي ذاهبة إلى المدرسة السنية، وعائدة منها إلى البيت فكنا نلتقي كل يوم، واستملحت وجهها، وأعجبني قدها، فكنت أتعمد أن اقف على أول الطريق حتى أراها مقبلة وتكرر ذلك فصار عادة.
ومضت سنوات طويلات وأصبحت مدرساً، وإني لراكب مرة إلى الجيزة وإذا بي أرى أمامي فتاتي القديمة، ومعها طفلان فعرفتها، فما تغيرت عن العهد بها، ونظرت حولي فلم أر أحداً معها سوى هذين الطفلين فتشجعت وقلت لها: (اسمحي لي. . إننا صديقان قديمان إذا كانت ذاكرتك كذاكرتي. . هل تذكرين هذا الوجه الدميم الذي كنت لا أخجل أن ألقاك به كل صباح في شارع درب الجماميز وأنت ذاهبة إلى المدرسة؟)
فابتسمت وقالت: (أظن أني أذكره).
قلت - ويداي على طفليها -: (وهذان. . . المحروسان أهما اللذان كان يمكن أن يكونا ولدي؟).
ففهمت وهزت رأسها أن نعم، فقلت: (وتسمحين لي أن اقبلهما، إذ كنت لا أستطيع أن أقبل غيرهما؟)
فهزت رأسها مرة أخرى، فقبلتهما وقلت كالمعتذر: (اذكري أنهما كان يمكن أن يكونا لي)
وقصت عليّ قصة عجيبة، فقالت: إن جاراً لها أحبها وأن أباه أبى أن يزوجه قبل أن يفرغ من المدرسة، فحاول أن يتصل بها فلم يوفق، فأنتحر، فسألتها: أين كنت تسكنين؟) فذكرت لي أسم الشارع والحارة، فإذا الذي انتحر قريب لي!
وقلت لها: أما أنا وأنت فلم ننتحر. . . آثرنا أن نتزوج. . . أظن أن الأمرين سيان. . .)
فأنا أيضاً أحببت في الصباح، كما أحب الفاضل الذي كتب إلي، ولكن الحب لم يكن على الريق بل كان بتأثير العادة وفعلها.
وصاحبنا الذي سمع الصوت في الصباح فتذكره - هذا أيضاً لم يحبب على الريق وإنما استقيظت في نفسه ذكرى، ولو كانت هذه أول مرة يسمع فيها الصوت الحلو لاستغرب ولكان قصار أه أن يستعذبه وأن يشتاق أن يرى صاحبته، ولما منعه ذلك من أن يتثاءب ويمتطي ويشتهي ويعاود النوم.
بقيت الزينة وأظن أني قلت إن المرأة تحب أن تؤكد جمالها وتبرز مفاتنها بالزينة، وأنها لا تستطيع أن تهمل زينتها حين تخرج في أي وقت. فلا خلاف بيني وبين الناقد الفاضل فما أنكرت أن المرأة تطلب الزينة، لأن طبيعتها تقضي عليها بذلك حتى ولو كان الرجال لا يرتاحون إلى هذه المساحيق المختلفة الألوان. ولو ظللت تنهي المرأة عن ذلك طول العمر لما انتهت إلا إذا كانت هي تزهد في المحسنات من تلقاء نفسها أو تضطر إلى الزهد لمرض جلدي أو نحوه. وما أكثر من قلت لهن: (أين منديلك؟) فتخرجه وترينيه وتسألني: (ماذا تريد أن تصنع به؟) فأقول: (لست أحب أن أرى فمك الجميل كالطماطة المشقوقة، فهاتي المنديل لأمسح هذا الأحمر) فتأبى وتقاوم، فألح عليها وأقول: (ثم إن هناك داعياً آخر هو أن هذا الأحمر يحول دون التقبيل) فيكون هذا مغرياً لها بالإصرار على ترك الأحمر على شفتيها، على حين كنت أظن - لغروري - أني زهدتها فيه. .!! وأحمد الله الذي أعفاني وأراحني من سخافة المساحيق، فأن زوجتي لا تتخذها، فليس في بيتي ذرة من الأحمر أو الأبيض. ومن القواعد المقررة عندنا أن على من تزورنا من قريباتنا أو من هنّ في حكمهن لتقض يوماً أو أياماً معنا، أن تجيء معها بمساحيقها، فلن تجد حتى ولا ما يُنْفَضُ على الوجه بعد حلاقة الذقن. وأحسب أن زوجتي اطمأنت إلى عجز فريستها عن النجاة فهي لا تعنى الآن بشيء من هذه المزينات. .
ولست مجنوناً حتى أقف على شاطئ البحر وأنظر إلى الفتيات الناهدات، الرشيقات، المشوقات، وهن يخرجن من الماء وقد لصق بأبدانهن القليل الذي عليها، فإني محتاج إلى عقلي كله، ولكني أحسب الفاضل الذي كتب إليّ يدعوني إلى ذلك، يدرك أن الأمر هنا أشبه بأن يكون أمر اشتهاء، لا حب، وخليق بالمرء وهو ينظر إلى هذه الفتنة المجتمعة، أن تدركه الحيرة، وأن يزوغ بصره، فلا يعود يدري أي هؤلاء الجميلات أولى بحبه، فأن لكل جسم فتنة، ولكل محيا سحره، ولو أني وقفت على البحر لكان الأرجح أن احب هؤلاء جميعاً، جملة، وأن أشتهي أن أضمهن كلهن في عناق واحد، فان الظلم قبيح، وأن نفسي لا تطاوعني على غمط الجمال في أية صورة من صوره، ومن يدري. . . لعل القدرة على أدراك معاني الجمال في مظاهره المختلفة هي التي وقتني الحب، ومنعت أن أعشق واحدة على الخصوص أجن بها.
ولكني لست واثقاً أن هذا كهذا، وأن كان يحلو لي أن أغرّ نفسي به، والأرجح إنها بلادة، وان جلدي سميك. . .
ويجب أن نفرق بين النشوة العارضة، والنشاط الصحيح وبين الإعجاب والحب؛ وأن ننسى كل ما علق بالحب من الحواشي الخيالية التي كان الفضل فيها لمبالغة الشعراء وهذيان المرضى، فليس الحب إلا مرضاً فالشأن فيه هو الشان في كل مرض. والمرء يصاب بالأمراض في حالتي الصحة والضعف ولكنه يكون أكثر تعرضاً للمرض في حالة الفتور الخفي الذي يضعف المقاومة، لأنه يغري بالاطمئنان على حين ينبغي الحذر، أو هو في حقيقته ضرب من الجوع كما قلت.
وفي الناس الشره المبطان، وفيهم القنوع الذي يكفيه اليسير الموجود. والجوع ضعف. والجائع لا يملك من القدرة على مقاومة الأغراء ما يملك الشبعان هذا جواب بعض ما وردني من المسائل. وقد مللت الحب وذكره، ولم أكن أظن أن الكتابة فيه تثير كل هذه الضجة، قاتل الله الشعر والشعراء!!
إبراهيم عبد القادر المازني