مجلة الرسالة/العدد 208/على هامش رحلتي إلى الحجاز
→ واجبنا الثقافي نحو الآداب والفنون | مجلة الرسالة - العدد 208 على هامش رحلتي إلى الحجاز [[مؤلف:|]] |
موانع الابتكار في أدبنا الحديث ← |
بتاريخ: 28 - 06 - 1937 |
ليلة في مكة
بقلم الدكتور عبد الكريم جرمانوس
أستاذ التاريخ الشرقي بجامعة بودابست
تتمة ما نشر في العدد الماضي
ولا بد أن هذا الأمر كان مقصوداً من الله جلت قدرته وهي بعض صفاته العليا. فالعلماء الذين يتجردون من المادة ويصعدون بأفكارهم إلى أعلى عليين، والصوفيون الذين يحاولون التوحيد بين ذاتهم وذات الله وفنائهم فيها، والفلاسفة الذين ارصدوا أنفسهم في سبيل البحث عن الحق المطلق الذي لا يلمس وليس له زمان. ألم يكن هؤلاء جميعاً يحاولون الوصول من طرق مختلفة، إلى غرض واحد، هو الأشراف الباطني؟ تلك هي نعمة التجرد التي ترد الظلام كما يرده المشعل في الليل، وفي الوقت ذاته يعمي حامله إلا عن نفسه.
ولا يخفى أن النفس العربية نبتت في الصحراء القاحلة - أجل - لقد رأت ذلك النور المتألق في تلك الصحراء التي تحدها بحار من الرمال، ويعلوها أفق لا شائبة فيه حيث يستطيعون حتى في ضوء القمر أن يميزوا بين الظل والنور، بين الأسود والأبيض. ولكنهم قلما يدركون شيئاً من أسباب هذا التطور، ولا يعرفون ما تخفيه لهم الأقدار في رحلاتهم البعيدة وهم يجتازون مفاوز الصحراء، إنهم يستخفون بمظاهر هذا العالم الفاني لأنهم يعتقدون اعتقاداً جازماً بحياة أطيب وأنقى من تلك التي يعيشونها الآن، وللدار الآخرة خير وأبقى.
لقد راعني جلال الحفلة، فرأيت الرجال يضطجعون على الأرائك المبعثرة في أركان الثوى يتمتعون بلذة التدخين في ظل المصابيح ذات الضوء الشاحب، وعلى الرغم من أن التدخين محرم في الأراضي السعودية فقد ألفيت بعضهم يدخن النارجيلة ويسبح مع دخانها في عالم الخيال.
وقابلني رب الدار بكل بشاشة وترحاب وكذلك بقية الضيوف، وكان السرور يطفح من وجوههم والبشر يتألق على محياهم، وكانت أول تحية سمعتها من صاحبي قوله: - على الرحب والسعة، الله سبحانه وتعالى يوليك برحمته ويمنحك بركته.
فأجبت: شكراً لك وللرفاق، وفي الحقيقة إنني مستأنس لوجودي بينكم، فلا حرمنا الله منكم.
ثم اتكأت على إحدى الأرائك ووضعت وسادة تحت ذراعي. وفي الحال أحضر صاحب الدار نارجيلة مزخرفة بالنقوش بيد أني اعتذرت عن التدخين لعدم تعودي عليه من قبل، وأنني أخشى أن يصيبني دوار منه، مع اعتقادي بأن في تدخين النارجيلة لذة وتنشيطاً للقريحة، وهو مظهر من مظاهر العز الشرقي البائد، حيث تظل رافعاً رأسك، محدقاً في غيرك وأنت ممسك بقبضة خرطوم النارجيلة.
في ذلك الثوى المثقل بدخان التبغ والذي كانت حرارته تكاد تصهر الوجه، رأيت لأول مرة منظر الجواري وهن يدخلن علينا بأكواب الشاي المعطر، وكانت إحداهن المسماة فريدة، عذراء في ريعان الصبا، وهي من جنوب بلاد العرب، صبوحة المحيا، بسامة الثغر، رشيقة في حركاتها، تخطو كخطو الغزال الوحشي. وكانت تحلي جيدها ومعصميها ببعض الحلي، وترتدي من الملابس أفخرها، وكانت عندما تصل إلى موضع الضيف تحني رأسها بابتسامة ثم تقدم إليه الشراب المثلج.
هذه الجارية كانت مملوكة لصاحب الدار الذي يسيطر عليها سيطرة تامة، فمن حقه مثلاً أن يبيعها أو يعتقها أو يهبها إلى غيره وعلى الرغم من أن الفتاة كانت تدرك ذلك فقلما كانت تأبه بهذه الأحمال الثقيلة، بل كانت تتنقل من مكان إلى مكان دون خوف أو وجل، كعصفور موضوع في قفص يحوي طيوراً جارحة. أما الرجال فأنهم يتسامرون في خلواتهم بأحاديث الهوى والعشق ويلتمسون في ذلك عزاء وسلوى. لآن المرأة في كل البلاد العربية لا يمكنها أن تشترك في الحفلات والمجتمعات، بل أنهن يكتفين بالنظر خلسة إلى الرجال أثناء سمرهم، وهن لا يعلمن شيئاً من مجريات الأمور الخارجية إلا ما يصل إلى سمعهن من الأحاديث التي تدور حول الموائد
ولقد أفضى إليَّ أحد الضيوف المسمى الغرابي بحادث زواجه للمرة الثانية وما لاقاه من زوجه الجديد من عنت وقسوة عندما أراد التبني بها، فالزواج في تلك الديار موكول إلى أهل الزوجة، وعليهم أن ينتخبوا بأنفسهم الزوج الصالح لأبنتهم، أما القبائل البدوية التي ترابط خارج مكة فهم لا يتزوجون إلا من عشيرتهم. وذكر صاحبي الغرابي، أنه بعد إتمام مراسيم حفلة العرس، تلك الحفلة التي يحتفل بها الرجال والنساء كل على حدة، يدلف العريس إلى مخدعه حيث تكون العروس في انتظاره، ومن البديهي أن ذلك السيد الذي فرضوه عليها، لم يقع نظرها عليه قبل الساعة.
يدخل صاحبنا المخدع الذي يكون مضاء بمسرجة باهتة اللون، وهناك يقع نظره على كومة منزوية في أحد الأركان وما تلك الكومة إلا عروسه ملفوفة بين الوسائد، ومشدودة بالحبال، وتشعر بدخول عريسها فتخرج رأسها من بين تلك الوسائد - كما يخرج القنفذ رأسه - فيتقدم إليها بلطف محاولاً أن يصافحها، ولكن عوضاً عن أن تمد يدها إليه، فأنها تلطمه على خديه بكل قواها، بحيث تبعده عنها. ثم يحاول أن يقترب منها للمرة الثانية فيكون نصيبه مثل ما أصابه في المرة الأولى
وربما أحدثت في يده جروحاً من أظافرها الطويلة - أما هو فيجد نفسه غير قادر على معاملتها بالمثل. وبفرض أنه حاول أن يضربها، فأنها لا تحس بتأثير تلك الضربات التي لا تقع إلا على الوسائد. وفي هذه الحالة ليس من وسيلة أمامه سوى أن يشرع في تمزيق هذه الوسائد، الواحدة بعد الأخرى.
وهو في خلال هذه الفترة معرض لكل ضروب اللكم والعض والخربشة. ولا يكاد يفرغ من هذه العملية الشاقة حتى يضنيه الإجهاد فتهدأ ثائرة العروس وتبدأ تسلم نفسها إليه).
وضحكنا ضحكا عالياً من هذا الحديث ثم أخذنا نتمتع باحتساء القهوة العربية وأكل شرائح البطيخ. وكانت هذه القصة الطريفة بداءة السمر لأنهم استحضروا بعد ذلك حاكياً كان مخبأً في إحدى الزوايا، وشرعوا يضعون عليه أقراصاً بها قصائد وأغاني تسودها مسحة من الحزن والكآبة. وأرتفع صوت بعض الضيوف بأغان من نوع الرومبا، وكان في ركن من أركان الثوى رجل يغني بواسطة عود يحمله، وكان هذا الرجل قد تعلم هذا النوع من الضرب الموسيقي المصحوب بالغناء في فترة إقامته بالديار المصرية ولما رآني مهتماً بالأغاني التي يذيعها اقترب مني وطلب إلي بإلحاح أن أندمج معهم في هذا اللهو البريء، فلبيت الطلب وتناولت العود فضممته إلى صدري، كما تضم المرضعة فطيمها، وسرعان ما تحركت أصابعي فوق الأوتار وانبعثت من حلقي أنشودة مجرية، من نوع تلك الأغاني التي تعلمتها في البراري فسر المدعوون من تلك النغمات التي لم تألفها آذانهم وأقبلوا يصافحونني بحرارة. وهنا دخلت الجواري حاملات في أيديهن الصواني الطافحة بأنواع شتى من المرطبات، ثم تقدمت إحداهن فتصدرت الثوى وبدأت تطربنا بصوت عربي جميل يسيل رقة وليونة على حين كنا نتلذذ بالشراب المثلج سكارى من رائحة التبغ ومسرات الغناء.
والواقع أن هذه الأغاني الشعرية الرائعة هي إحدى عوائد العرب القديمة التي ما برحت نافذة إلى عصرنا الحاضر دون تغيير ولا تبديل. فالعرب عن بكرة أبيهم ميالون بفطرتهم إلى الشعر، ففيه الحكمة التي تأخذ بمجامع اللب، وله تأثير خاص على الحواس والمشاعر. مع أنهم في أحاديثهم الخاصة يلجأ ون إلى استعمال اللغة الدارجة، وهي لهجة معقدة ليس في وسع كل إنسان أن يتفهمها بمجرد سماعها. وقد يتعذر على كثير من الناس أن يتذوقوا طلاوتها لأول وهلة، رغم أنها حافلة بالألفاظ العذبة والنكات السمحة، أما الشعر العربي فيدور كله حول الغزل، ويرجع الفضل في ازدهار حركة الشعر الغزلي إلى عمر بن أبي ربيعة الملقب (بدون جوان جزيرة العرب).
وكانت الفتاة قد انتهت من غنائها فنهضت وغادرت الثوى ثم تقدمت أخرى وأنشدت قصيدة غرامية تفيض بالعواطف الذاتية، وبعد ذلك خيم الصمت والسكون، ولم يعد يسمع غير أصوات تقلب المياه في جوف النارجيلة، وأصوات التنهدات والزفرات وهي تخرج قوية حارة من صدور الرجال وراعني هذا الصمت العميق الشامل، وأحسست أني تحت تأثير قوة مغناطيسية لا قوة لي على دفعها أو ردها، وراعني أيضاً أنها كانت حالة جميع الضيوف تقريباً، فلقد رأيت أنهم يتوجعون ويتأوهون، ولاحظت أن البعض منهم يئن من لوعة الفراق، ويتذكرون خليلاتهم، فاقتربت من أحدهم ويدعى الكتبي وسألته على الفور:
هل أنت مغرم يا صاحبي إلى هذا الحد؟ فأحنى رأسه ولم يحر جواباً لأول وهلة، ولاحظت أن وجهه احتقن بالدم ثم سمعته بعد لحظة يقول:
ولكن ليس في وسعي أن أملكها، فأنا كما ترى رجل فقير، وهي من عائلة مثرية. ما حيلتي وقد وقعت في شراك غرامها وأصبحت أسير هواها؟ لقد أصبحت أسير امرأة. . .
وكف عن الحديث فجأة، فطيبت خاطره وقلت له:
- ولكن المرأة التي تشير إليها ليست كسائر النساء فقال الرجل:
- انك تقول الحق وتنطق بالصواب ولكن انظر إلي فقد أصبحت في حالة يرثى لها، بعد أن وقعت في غرامها. ما حيلتي وقد رزقها الله قدٌّا نحيلاً وقامة هيفاء، وعينين نجلاوين كعيني الغزال؟ أنني أبتهل إلى الله ليل نهار أن يجعلها من نسائي ويرزقني منها الذرية الصالحة
وتأثرت تأثراً شديداً من حالة هذا العاشق المد نف وأردت أن أنتقل إلى صاحب آخر، وكان الليل قد أنسلخ منه نحو ثلثيه، فألفيت الضيوف يسبحون في عالم الخيال وعالم الحب، وكلهم يشكون تباريح الهوى ولوعة الهجر، ولاحظت أن البعض منهم يبكون نساءهم ويندبون حظوظهم، وهكذا كانت ترتعد فرائصي من هول الموقف وأنا أفر من صاحب إلى صاحب
والخلاصة التي أستطيع أن أقررها أن هذه العواطف النبيلة التي اكتسبها البدو إن هي إلا أثر من آثار الصحراء التي يرجع الفضل إليها في تهذيب نفوسهم، وفي تلقينهم أصول هذا الغزل الذي قلما نجده في سواهم من الشباب
وحينذاك أخذ ضوء المصابيح يخفت فدخلت إحدى الجواري الحسان إلى البهو تحمل مصابيح أخرى جديدة بعد أن سحبت المصابيح المستعملة من داخل الفوانيس.
وكان من حظي أن اقتربت الجارية من ناحيتي ولاحظت أن وسادتي سقطت على الأرض فالتقطتها من مكانها بمهارة وقدمتها إلي. هناك وقع نظري عليها وطالعت وجهها في ضوء المصباح اللامع، وراقني منها شعرها الأسود المتموج كخيوط الليل، وأسنانها اللؤلؤية وقامتها الهيفاء، كما أعجبت بحركاتها الرشيقة، فأدمنت النظر إليها وصرت أتبعها بخاطري وهي تتحرك كالطائر من غصن إلى غصن، ولاحظ مضيف اهتمامي بهذه الجارية فأقترب مني وقال:
- هل أزعجتك عائشة؟
فأجبته على الفور:
- أنها فتاة بديعة حقاً
ثم حاولت أن أغير مجرى الحديث، ولكنه أدرك حيلتي فقلت له: ماذا دهاك يا أخي؟ هل كنت سبباً في إيلامك؟
فأجاب: كلا! لا شيء مطلقاً، لقد اغتبطت حين سمعتك تطنب في جمال عائشة، لأنني شخصياً مفتون بها موله في حبها فقلت مبتسماً:
- ولكن مادام الله قد من عليك بها فانك في نظري رجل سعيد.
فتبرم وقال في ضجر: أنا سعيد؟ ومن أين لي هذه السعادة؟
فقلت له: أليست عائشة ملك يمينك؟
فقال: أجل أنها لي، ولكنها جارية، ابتعتها بعشرين ديناراً من سوق الرقيق، كانت إذ ذاك في العاشرة من عمرها وهي الآن في السادسة عشرة.
فنظرت إليه في دهشة، بيد أنه أحنى رأسه ثم صرح لي أنه يحبها من أعماق قلبه، فسألته للمرة الثانية: وما يمنعك عنها وهي جاريتك وملك يمينك؟
فأجاب: هذا صحيح، ولكن دون ذلك خرط القتاد، فالإنسان في هذا الوجود قد يبلغ قمة المجد وقد يصل إلى الشهرة وإلى المال ولكن هذه أمور ثانوية وليست لها أدنى قيمة إذا لم تؤدبنا إلى حب جارية مملوكة.
فهززت رأسي وأعدت نفس السؤال: ولكنها ملك يمينك؟
فقال: هذا صحيح، أن جسمها ملكي ولكن روحها ليست ملكاً لي، إنني لا أبغي منها ذلك الجسد ولا متعة الشهوة وحدها، بل أريد أن تبادلني حباً بحب وإخلاصاً بإخلاص.
وراحت الدموع تنحدر من عينيه وتسيل فوق خديه، ورمقته بنظرة فيها كل معاني الشفقة والرثاء لحالته، فهو والد وله أطفال وزوجتان أخشى عليهم جميعاً عاقبة هذا الحب الجديد.
وأعقب ذلك صمت طويل، تذكرت في خلاله مواقف الحب وسلطانها على النفوس، ثم رأيت أن أغادر الدار فودعت مضيفي وسرت اجتاز شوارع مكة الضيقة، حتى وصلت إلى الميدان العام وكانت تخترقه قافلة يحدو أصحابها بغناء شجي مطلعه:
من ذا (يلمني) إن بكيت صبابة ... الدمع دمعي والعيون عيوني
عبد الكريم جرمانوس