مجلة الرسالة/العدد 207/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 207 القصص المؤلف: فولتير المترجم: عبد اللطيف النشار |
ممنون الفيلسوف أو الحكمة الإنسانية Memnon ou la Sagesse humaine هي قصة قصيرة بقلم فولتير. نشرت هذه الترجمة في العدد 207 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 21 يونيو 1937 |
ممنون الفيلسوف
أو الحكمة الإنسانية
بقلم فولتير
ترجمة الأستاذ عبد اللطيف النشار
آلى ممنون على نفسه: أن يصير فيلسوفاً عظيماً في يوم من الأيام. وقليل من الناس هم الذين لم يعتزموا في وقت ما مثل هذا العزم الرائع.
قال ممنون في نفسه: إن بلوغ الكمال في الفلسفة معناه بلوغ الكمال في السعادة. وليس علي أن أعمل لكي أصير فيلسوفاً إلا التجرد من كل الشهوات؛ ولا شيء أسهل من ذلك كما يعرف كل إنسان. وسأبدأ بمقاومة الحب فإذا رأيت امرأة جميلة أقول في نفسي إن هذه الخدود ستدركها الغضون، وإن هذه العيون ستصبح طعاماً للدود، وإن هذا الرأس سيصبح جمجمة منخوبة. فإذا ما تصورت خيالها وهي كذلك فأن جمال وجهها لن يؤثر في نفسي
هذا من جهة. ومن جهة أخرى فأني سألزم القصد والاعتدال، فإذا ما وجدت من نفسي إغراء على شرب النبيذ الشهي أو الطعام المريء أو غيره مما يفتتن به المجتمع ذكرتها بآلام الرأس من التغالي في الشراب، وبآلام البطن من التغالي في الطعام، وحذرتها من فقدان العقل والصحة. ومتى تجنبت التغالي ظلت صحتي موفورة وظل ذهني نقياً وضاءً
وقال ممنون: كذلك يجب ألا أفكر كثيراً في الثروة لأن رغائبي معتدلة وما عندي من المال يكفي لأن أعيش مستقلاً وهذه أكبر نعمة في الوجود. ولن أجد ضرورة لحضور الحفلات الراقصة في القصر. ولن أحسد إنساناً ولن يحسدني إنسان، وهذا كله سهل. ولي أصدقاء، سأحتفظ بهم ولم ينشب بيني وبينهم خلاف فلم أعترض أحدهم في قول أو فعل وسيسلكون معي هذا المسلك، ولا صعوبة في ذلك. . .
وهكذا وضع ممنون خطة لفلسفته ثم أطل من النافذة فرأى امرأتين تسيران تحت الأشجار، وكانت إحداهما كبيرة تبدو عليها علائم الرضى، والثانية صغيرة جميلة، ولكن علائم التذمر بادية عليها. وكانت تبكي وتتنهد، فتأثر فيلسوفنا من رؤيتها - على أنه من المحقق أن جمالها لم يكن له دخل في هذا التأثير - (لأنه آلى على نفسه ألا يزعجه شيء من هذا القبل) بل كان تأثره بسبب الحزن الذي رآها فيه، فنزل من المنزل ليعزي تلك السيدة بفلسفته، فروت له الجميلة بإبسط اللهجات وأشدها تأثيراً ما تتألم منه. وشكت له من عم تتخيل وجوده يريد أن يحرمها ثروة تتوهما. وقالت: يظهر أنك رجل حكيم، وإنك لتنقذني من متاعبي إذا أتيت إلى منزلي ودرست قضيتي وأشرت علَّى بالرأي الذي تراه
فلم يتردد ممنون في اتباعها لدرس قضيتها دراسة فلسفية وليشير عليها بالرأي الراجح
وقادته المرأة الجميلة إلى حجرة تفوح منها روائح العطر وأجلسته على نمرقة متسعة وجلست أمامه جلسة المتحدث إلى من يتحدث وقد تقاربت إقدامهما، وكان إحداهما يقص قصته والآخر يصغي إليه أتم الإصغاء
وكانت السيدة تتكلم وهي ناظرة إلى الأرض والدموع تنحدر من عينيها بين حين وحين. ثم ترفع بصرها لتنظر إلى وجه الحكيم ممنون. وكان الحديث في منتهى الرقة، وقد زاد عطف الفيلسوف وسر بأن يكون في وسعه تخفيف الألم عن مخلوقة بهذه الدرجة من الجمال، وهذه الدرجة من التعاسة. ولما اشتدت حرارة الحديث جلس المتحادثان المتقابلان جنباً لجنب، وتدانى الساقان، وكان ممنون يمنحها من نصحه الرقيق ومن عطفه حتى صار كلاهما لا يستطيع الكلام عن الموضوع الذي كانا يتناولانه. وحتى صار كل منهما لا يدري أين هو وفي مثل هذا الحين من الذي يظن أنه يأتي إليهما غير العم الذي كانت تشكوه؟ لقد جاء مسلحاً، وكانت أولى كلماته أنه سيضحي بالحكيم ممنون، وبنت أخيه، وقد أسرعت الأخيرة ففرت، وهي موقنة بأن صاحبها سينجو إذا اشترى حياته بكل ما معه من المال وقد اضطر إلى بذل ما معه ليفتدي نفسه وقد كان الناس في ذلك العهد سعداء لأنهم يستطيعون النجاة، بسهولة بمثل هذه الوسيلة. وكانت أمريكا لما تستكشف بعد، وكانت السيدات التاعسات أقل تعرضا للخطر مما هن عليه الآن
وخرج ممنون من المنزل متعثراً بأذيال الخجل فذهب إلى منزله. وهناك وجد دعوة لتناول العشاء من بعض أصدقاءه الخلصاء، فقال في نفسه إذا بقيت وحدي في المنزل فإن ذهني سيظل مشغولاً بالتفكير في حادثة اليوم، ولا أستطيع أن أتناول لقمة، وربما جلب إلى ذلك مرضاً، ولذلك سأذهب إلى أصدقائي، وسأنسى في مجلسهم ما ارتكبته اليوم من الحماقة وذهب إليهم فوجدوا عليه بعض علائم القلق وحثوه على أن يشرب ليصرف عن نفسه الهم فقال في نفسه: (إن قليلاً من النبيذ لا يتنافى مع الاعتدال) وهكذا شرب ممنون حتى سكر.
ودعي إلى اللعب بالأوراق فقال إن اللعب بها مدة يسيرة مع صديق لا يتنافى مع الاعتدال، وهذا اللعب من خير الوسائل لتمضية الوقت.
ولعب حتى خسر كل ما معه وهو أربعة أضعاف ما كان مستعداً ليلعب به.
ولسبب ما نشأ خلاف بين اللاعبين واشتد الخلاف فصار مشاجرة، فرماه بعض أصدقائه بصندوق صغير جرح رأسه وإحدى عينيه، فحمل الفيلسوف ممنون إلى منزله سكران مفقود إحدى العينين.
نام، ولما أبل بعض الابلال أرسل إلى مدير المصرف الذي يودع فيه أمواله يطلب ما يفي به ديونه في اللعب، فعاد الخادم وأخبره بأن المصرف أفلس بالتدليس وأن مئات من الأسر قد أصبحت في أشد حالات البؤس والفاقة، فكاد يذهل ممنون، وذهب إلى البلاط لرفع قضيته، وهناك وجد عدداً من السيدات وآخر من القسس ورأته إحدى صديقاته فصاحت: (مالك يا مسيو ممنون! كيف فقدت إحدى عينيك؟) ثم جرت دون أن تنتظر الجواب، فانتظر ممنون حتى الساعة التي يستطيع فيها الارتماء على قدمي الملك لبث شكواه.
وأخيراً جاءت تلك الساعة فقدم إليه عريضته، واستقبله الملك استقبالاً حسناً. ولكن كبير الأمناء صاح به بعد ذهاب الملك: (كيف تقدم عريضتك إلى الملك مباشرة دون تقديمها إليّ؟ وكيف تطلب المقاضاة على تفليسة شريفة ضد ابن أخت وصيفة زوجتي؟ إن هذا التصرف يدل على أنك لا تحرص على عينك الأخرى)
فعندما سمع ممنون ذلك - وكان إلى الآن عازماً على هجر النساء والتقليل من الطعام والشراب وترك المشاجرة - عزم أيضاً على الكف عن دخول البلاط وعن طرق سبيل القضاء لأن هذا سبيل ألحق به الإهانة وحرمه الأنصاف
وتصدع قلبه من الحزن فعاد إلى المنزل يائساً. ولكنه وجد المحضرين يشرعون في بيع أثاثه وفاء لديون دائنيه فوقع على الأرض في حالة تشبه الإغماء، ورأى في الطريق السيدة التي قابلها في الصباح مع عمها فضحكا منه ضحكة عالية.
وفي المساء صنع ممنون لنفسه وسادة من القش ونام بجانب الحائط، فرأى في الحلم تلك الروح الفلسفية التي كان يتعشقها وهي روح من النور لها ستة أجنحة جميلة، ولكن ليس لها رأس ولا قدمان وهي لا تشبه شيئاً مما سبقت له رؤيته، فقال: (من أنت أيتها الروح؟)
قالت: (أنا روحك) فقال: (ردي إلي عيني وصحتي وثروتي وعقلي)
ثم قص عليه قصة يومه فقالت: (هذه حوادث لا تحدث في الموطن الذي أنا فيه).
قال: (وأين ذلك الموطن؟ فأجابته: (هو على بعد خمسمائة مليون فرسخ من الشمس، وهو موطن جميل. وليس هناك شياطين تغري ولا أصدقاء يجالسون المرء ليسلبوا ماله، وليس هناك من يخرقون عيون الناس، ولا إفلاس بالتدليس، ولا أمناء ملوك يسخرون ممن يطلب العدالة؛ وليست تخدعنا النساء لأنه لا نساء بيننا، وليس عندنا طعام ولا شراب، وليس عندنا تفليس لأنه لا ذهب عندنا ولا فضة، وليس لنا عيون تقلع لأن أجسادنا نورانية ليست كأجسادكم. وليس عندنا بلاط لأن الكل متساوون).
قال ممنون الفيلسوف: (إذا لم يكن عندكم نساء ولا طعام ولا شراب فكيف تقضون أوقاتكم؟)
قالت: (نحن موكول إلينا مراقبة دنياكم وقد جئت إليك لأعزيك).
قال ممنون: (ولكن لماذا لم تأتي بالأمس لتمنعيني من اقتراف ما اقترفت؟).
فقالت: (لقد كنت مع أخيك الأكبر (حسن) الذي كان في بؤس أشد من بؤسك لأن سلطان الهند أمر بقلع عينيه وهو الآن في السجن ويداه ورجلاه في السلاسل والأغلال)
قال: (وهل من العدل أن يكون اثنان من أسرة واحدة إحداهما أعور والثاني أعمى، وإحداهما ينام على وسادة من قش والآخر في السجن؟).
فقالت الروح: (إن حظك سيتغير سريعاً. نعم أن عينك لن تشفى ولكنك ستصير سعيداً إذا نزعت عن فكرك الرغبة في أن تكون فيلسوفاً كاملاً)
قال ممنون: (إذاً فذلك مستحيل!) فقالت الروح: (إنه لمن المستحيل أن يصير المرء كامل العقل كامل السعادة، فنحن أنفسنا بعداء عن الكمال مع أننا أرواح، وسيأتي عالم غير هذا العالم يكون ذلك كله ممكناً فيه. ولكن بيننا وبين هذا العالم مائة ألف مليون من العوالم يتدرج فيها المرء إلى ذلك العالم الكامل. وفي كل درجة من تلك الدرجات العالية تنقص الفلسفة وتنقص المسرات بالتدريج حتى يصير الناس في العالم الكامل كلهم بلهاء) قال ممنون: (أخشى أن تكون هذه العوالم التي نتدرج فيها إلى الكمال ليست إلا مستشفيات للمجاذيب وإن عالمنا هذا ليس إلا واحد منها)
فقالت الروح: (إذا لم يكن هذا الوصف منطبقاً فأنه ليس بالبعيد)
قال: (ولكن هل الشعراء والفلاسفة مخطئون إذ يقولون إن كل شيء في هذا الوجود آخذ في سبيل الارتقاء)
فقالت: (كلا ليسوا مخطئين ولكن لكي نتبين الصدق فيما يقولون يجب أن نراعي صلة كل شيء بمجموعة العالم فإنما كمال الأشياء أن يتم اتصالها بالعالم لصالح العالم)
فأجاب ممنون: (لست أستطيع تصديق ذلك إلا إذا رجعت إليّ عيني)
عبد الطيف النشار