الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 207/أول مدرسة مصرية فرنسية

مجلة الرسالة/العدد 207/أول مدرسة مصرية فرنسية

بتاريخ: 21 - 06 - 1937


للدكتور زكي مبارك

هذه أول مرة تلقى فيها كلمة اللغة العربية، بجانب كلمة اللغة الفرنسية، في هذا المعهد؛ وذلك حق كسبته اللغة العربية منذ عامين، منذ إنشاء القسم المصري الذي تسود فيه اللغة العربية سيادة أصيلة، ويدرس فيه الأدب العربي دراسة مفصلة، على نحو ما يدرس في أرقى المدارس المصرية

والقسم المصري لم ينشأ في هذا المعهد لمجرد المجاملة، وإنما هي خطة تعليمية قضى بها المنطق السليم. وتوجيه صالح وفق إليه المشرفون على سياسة التعليم في هذا المعهد الذي يجمع بين القديم والحديث.

فأنا أيها السادة أتكلم باسم أساتذة اللغة العربية في القسم المصري كما تكلم زميلي المسيو بارال باسم أساتذة اللغة الفرنسية في القسم الفرنسي، وكذلك يأخذ الأدب العربي مكانه في تقاليد الحفلات السنوية منذ اليوم، ويصير من حظ هذا المنبر أن يطرب في كل عام وهو يستمع لغة القرآن.

وإنشاء القسم المصري في معهد الليسيه هو الذي أوحى إليّ موضوع هذه الخطبة، وهو الكلام عن أول مدرسة مصرية فرنسية في التاريخ الحديث.

والمدرسة التي أعنيها هي البعثة التي أرسلها محمد علي الكبير إلى فرنسا في سنة 1826 وقد كانت مؤلفة من اثنين وأربعين طالباً منهم ثلاثة من طلبة الأزهر الشريف.

وما سميت تلك البعثة مدرسة من باب المجاز فقد كانت مدرسة بالفعل، وكذلك سماها المسيو جومار في التقرير الذي نشره في الجورنال أزياتيك في سنة 1828.

ومن طريف التشابه أن أذكر أن المدرسة المصرية الأولى كانت مؤلفة من اثنين وأربعين طالبا ثم زاد طلبتها بعد ذلك وأن القسم المصري في الليسيه كان طلبته في الأسبوع الأول أثنين وأربعين طالبا ثم تكاثر العدد وازدحمت الفصول.

ولعل تشابه الحظوظ في هذه البداية يبشر بتشابه الحظوظ في التسامي والتفوق. والله بالتوفيق كفيل.

سافرت البعثة من مصر في يناير فوصلت إلى باريس في يوليو، وإنما كان السفر طويلا لان المواصلات لم تكن سهلت إلى الحد الذي تعرفوه في هذه الأيام، وقد كانت تلك الرحلة المطولة سبباً في أن يتعرف الطلاب إلى الأقاليم الفرنسية، ويدرسوا ما ائتلف وما اختلف من أخلاق الناس.

ولما استقر الطلبة في باريس عاشوا تحت إشراف ثلاثة من الأساتذة المصريين، وكان لأولئك الأساتذة الثلاثة واجبات دراسية، ومن هذا ترون كيف كان المصريون يعرفون واجبهم في ذلك الحين

كان الطلبة يقيمون أول الأمر مجتمعين في بيت واحد يسمونه المركز، ثم رؤى أن يتفرقوا في المنازل الفرنسية ليتذوقوا الروح الفرنسي. فنظمت لهم لائحة مكونة من أربعة عشر مادة. وإليكم نصوص تلك المواد لتروا كيف كانت إدارة البعثة تفهم الواجبات التعليمية في تلك العهود

المادة الأولى: (1) إن يوم الأحد المقرر لهم الخروج فيه يلزم أن يخرجوا من البنسيونات في الساعة تسعة ويأتوا إلى البيت المركز من أول الأمر ويقدموا وقت الدخول ورقة معلمهم إلى الأفندي النوبتجي لأجل أن يعلم ساعة دخولهم في البيت، وبعد ذلك يذهبون إلى المواضع المعدة للفرجة بشرط أن يجتمع ثلاثة أو أربعة، ثم يرجعون إلى البنسيونات في أيام الصيف الساعة تسعة، وفي أيام الشتاء الساعة ثمانية

المادة الثانية: إن من لم يمتثل لخصوص ما سبق يمنع من الخروج من البنسيون بحسب الاقتضاء جمعة أو جمعتين

المادة الثالثة: إن كل من له شكاية من معلمه لا تسمع ولا تقبل حتى يكتبها في ورقة. ولا تسمع إلا إذا كانت من جهة التعليم أو جهة أخرى يحصل له منها ضرر

المادة الرابعة: إن جميع الأفندية يمتحنون في آخر كل شهر ليعرف ما حصلوه من العلوم في هذا الشهر ويسألون عما يحتجون إليه من الكتب والآلات ويكتب في آخر كل شهر كسبهم وتحصيلهم وأفعالهم على الوجهة الصحيح

المادة الخامسة: لو احتاجوا شيئاً من الكتب والآلات في أثناء الشهر يطلبونه من معلمهم بورقة يكتبونها له، ومعلمهم يخبر بذلك مسيو جومار، فأن رآه مناسباً يعطيهم ذلك بعد ما يخبر النوبتجي، فأن اشترى أحداً شيئاً من غير إجازة يلزمه أن يدفع ثمنه من عنده المادة السادسة: إنه بعد الامتحان بما ذكرنا في المادة الرابعة إن أستحق أحد من الأفندية الهدية لنجابته تعطى له كتب وأدوات وسعة

المادة السابعة: في محل التفرج أو على الطريق لا ينبغي لأحد منهم أن يرتكب ما يخل بمروءته، وهذا الأمر هو أهم الجميع وممنوع أشد المنع

المادة الثامنة: إن كل الأفندية الذين في البنسيونات لا يدخلون البيت المركز إلا كل خمسة عشر يوماً مرة وهو يوم الأحد

المادة التاسعة: إن يوم الأحد الذي لا يأتون فيه إلى البيت يخرجون فيه مع أولاد الفرنساوية أو مع المعلمين إلى مواضع التفرج أو الرياضة أو ما ينبغي رؤيته، وكذلك يوم الخميس أو يوم التعطيل، أن لم يكن عليهم شغل فيذهبون مع من ذكر إلى المواضع المذكورة

المادة العاشرة: إذا خالف أحد هذا الترتيب يقابل بقدر مخالفته، وإذا اظهر عدم الطاعة يحبس بالخشونة، وإن كان يتشبث بأفعال غير لائقة وأطوار غير مرضية وجاءت تذكرة من معلمه تشهد عليه بقبح حاله وتبين عصيانه فمثل ما ذكر حضرة ولي النعم أفندينا في القوانين التي أعطاها لنا نتشاور مع المحبين لحضرة أفندينا من أهالي هذه المدينة ونرسل فاعل القبح والعصيان بنفسه حالاً إلى مصر من غير شك ولا شبهة.

المادة الثانية عشرة: إن جميع الأفندية يكونون في البنسيونات في هذا الترتيب على حد سواء، وإن كان في البنسيونات مائدتان إحداهما للمعلمين والأخرى للتلاميذ فأفنديتنا يأكلون مع معلميهم.

المادة الثالثة عشرة: إن الأفندية المذكورين يلزمهم جميع ما ذكر من القوانين من غير امتياز ولسبب ذلك أعطينا كل واحد منهم صورة ذلك

المادة الرابعة عشرة: كل المواد السابقة هي خلاصة أفكارنا ونتيجة أذهاننا وأذهان الأعيان الذين وصاهم علينا حضرة أفندينا، وبناء على ذلك كل أحد يلزمه أن يتبعها مع التنبيه لأجل تحصيل رضاء حضرة أفندينا ولي النعم. فمن لم يمتثل أو تعلل بشيء يجرى عليه ما هو مذكور في قانون حضرة أفندينا ولي النعم حفظه الله.

أيها السادة:

حدثتكم أن محمد علي الكبير وكل رعاية تلك البعثة إلى المسيو جومار، فاسمحوا لي أن أشير إلى بعض النواحي من أخلاق ذلكم المربي العظيم.

كان المسيو جومار يحرص أشد الحرص على تذكير الطلبة المصريين بأنهم من شعب مجيد له فضل سابق على الإنسانية فقد قال في الخطبة التي ألقاها عليهم في حفل توزيع الجوائز في اليوم الرابع من يوليه 1828:

(أيها الشبان، هذه أول مرة بعد وصولكم إلى فرنسا تعطى لكم أمام الجمهرة المكافأة التي تستحقونها على عملكم الذي ثابرتم عليه، وهذا اليوم يعد من أفضل أيام حياتكم، والأكاليل التي ستتوج بها رءوسكم بعد هنيهة هي رمز فخر عظيم، لأنكم أتيتم في عاصمة العلوم والفنون، وفي وسط مدينة تجمع بين جوانبها كل ما وجد من عناصر المدنية اليونانية وكل ما وجد من العناصر الفخمة في طيبة ذات المائة باب.

أمامكم مناهل العلم فاغترفوا منها بكلتا يديكم، وهذا هو قبسه المضيء بأنواره أمام أعينكم، فاقتبسوا من فرنسا نور العقل الذي رفع أوربا على سائر أجزاء الدنيا، وبذلك تردون إلى وطنكم منافع الشرائع والفنون التي ازدان بها عدة قرون في الأزمان الماضية فمصر التي تنوبون عنها ستسترد بكم خواصها الأصلية، وفرنسا التي تعلمكم وتهذبكم تفي ما عليها من الدين الذي للشرق على الغرب كله)

ولم يقف المسيو جومار عند هذا الحد من التذكير بمجد مصر، بل يتحدث إلى الجورنال أزياتيك عن البعثة المصرية فأشار إلى ما أنشأ محمد علي الكبير من المدارس في وادي النيل فقال إنها ستكون عاملاً لرد النور إلى وطنه الأصلي، ذلك النور الذي يجب على كل من يعني بنشر العلوم والمعارف والمدنية أن يرده إلى مهده الأصيل

ولعلكم تسألون أيها السادة عن عناية محمد علي الكبير بتلك البعثة، وجواب ذلك عند الشيخ رفاعة الطهطاوي، فقد حدثتنا مذكراته أن محمد علي الكبير كان يبعث إليهم من وقت إلى أخر خطاباً يحضهم به على الجد والتحصيل، وأثبت شاهد لذلك نسوق منه طرفا للدلالة على مبلغ عناية ذلك الرجل العظيم بأولئك المبعوثين

قال طيب الله ثراه:

قدوة الأماثل الكرام الأفندية المقيمين في باريس لتحصيل العلوم والفنون، زيد قدرهم

قد وصلتنا أخباركم الشهرية والجداول المكتوب فيها مدة تحصيلكم، وكانت الجداول المشتملة على شغلكم ثلاثة أشهر مبهمة لم يفهم منها ما حصلتموه في هذه المدة، وما فهمنا منها شيئاً، وأنتم في مدينة مثل مدينة باريس التي هي منبع العلوم والفنون، فقياسا على قلة شغلكم هذه المدة عرفنا عدم غيرتكم وتحصيلكم، وهذا الأمر غمنا كثيرا، فيا أفندية ما هو مأمولنا منكم، فكان ينبغي لهذا الوقت أن كل واحد منكم يرسل لنا شيئاً من أثمار شغله وآثار مهارته، فإذا لم تغيروا هذه البطالة بشدة الشغل والاجتهاد والغيرة وجئتم إلى مصر بعد قراءة بعض الكتب فظننتم أنكم مثلهم في العلوم والفنون فأن ظنكم باطل، فعندنا ولله الحمد والمنة رفقاؤكم المتعلمون يشتغلون ويحصلون الشهرة فكيف تقابلونهم إذا جئتم بهذه الكيفية وتظهرون عليهم كمال العلوم والفنون، فينبغي للإنسان أن يتبصر في عاقبة أمره وعلى العاقل أن لا يفوت الفرصة وأن يجني ثمرة تعبه. . .

فأن أردتم أن تكسبوا إرضاءنا فكل واحد منكم لا يفوت دقيقة واحدة من غير تحصيل العلوم والفنون، الخ، الخ

ويحدثنا الشيخ رفاعة أن هذا الخطاب كان له في أنفس الطلاب تأثير شديد، وكان من نتائجه أن صاروا يكتبون إلى مصر في كل شهر بياناً بما قرءوه وما تعلموه

أيها السادة، سمعتم اسم المسيو جومار في هذه الخطبة غير مرة، وعرفتم فضله على تلك البعثة، فمن الخير أن نشير إلى أن محمد علي حفظه له ذلك الجميل، فأرسل إليه خطاب ثناء في 10 يناير سنة 1834 وترون ذلك الخطاب في كتاب سمو الأمير عمر طوسون عن البعثات

أما بعد فقد كان المسيو جومار واثقاً كل الثقة وهو يلقي أول خطبة في توزيع الجوائز على أول مدرسة مصرية، وقد حققت الأيام ظنه فكان أولئك المبعوثون رسل علم وهداية وكانت معارفهم الأدبية والعلمية أساسا لما عرفت مصر من أصول التمدن الحديث

وأنا أيها السادة في أول خطبة لتوزيع الجوائز على طلبة القسم المصري أثق بتلاميذي أكثر مما كان يثق المسيو جومار بتلاميذه، وأعتقد أن القسم المصري بالليسيه سيخرج لكم نماذج جميلة من الشبان المثقفين الذين يعرفون واجبات الرجال

نحن نعرف تلاميذنا أيها السادة، وأؤكد لكم أننا وضعنا في صدورهم جذوة لن تخمد، وهديناهم إلى نمير من المعارف لن ينضب ولن يغيض والتلاميذ الذين يفرحون اليوم بتسلم الجوائز خليقون أن ينسوا إساءتنا إليهم أيام الدرس، فقد أسرفنا في إثقالهم بالواجبات وعاقبناهم أحياناً على هفوات صغيرة لا تستحق العقاب، إنهم خليقون أن ينسوا عنفنا وقسوتنا في معاملتهم فقد كنا على يقين من أن الأبوة تبيحنا حق التحكم فيهم، وتفرض علينا أن نلقاهم بوجوه تمثل الحزم وقلوب تضمر العطف والوداد

إنما نمنحكم الجوائز أيها الأبناء النجباء لتنسوا هموم الدرس فماذا تصنعون أنتم لمكافأة أساتذتكم؟ إن لنا في ذمتكم جائزة واحدة فتفضلوا بها علينا

أو تدرون ما هي تلك الجائزة؟ هي أن تكونوا أبطالاً يرفعون الوطن ويخدمون الإنسانية

لقد منحناكم خير ما نملك، فامنحوا الوطن والإنسانية خير ما تملكون

أيها الأبناء النجباء

لقد شقينا لتسعدوا، فليس من الكثير أن نطلب منكم أن تشقوا ليسعد الوطن وتسعد الإنسانية

تذكروا يا أبناءنا الأعزاء أن الشقاء في سبيل الخير هو السعادة الغالية التي ينشدها أرباب القلوب

زكي مبارك