مجلة الرسالة/العدد 206/الفلسفة الشرقية بحوث تحليلية
→ الإسلام والديمقراطية | مجلة الرسالة - العدد 206 الفلسفة الشرقية بحوث تحليلية [[مؤلف:|]] |
الرافعي في الحجاز ← |
بتاريخ: 14 - 06 - 1937 |
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 9 -
الفلسفة الهندية
تمتاز بلاد الهند بخصوبة أوديتها، وتعدد نباتاتها وكثافة غاباتها وتعقد مسالكها، وكثرة متعرجاتها ومصاعدها ومهابطها، وتباين أجوائها ومناخاتها، ووفرة التناقض الطبيعي في أرضها وسمائها، فبينما ترى فيها جبالاً شاهقة تتجاوز السحاب سمواً، وهضبات متفرقة تفصل بعضها عن بعض هوى سحيقة وحفر طبيعية عميقة، وتلالاً تتخللها من جهة كثبان ضخمة وتعترضها من الجهة المقابلة صخور عظيمة النتوء صعبة الاجتياز، إذ بك ترى إلى جانب هذا أودية مبسوطة ومروجاً باسمة تتباهى بما تزدان به من ألوان وأفانين الثمار والبقول. وكذلك جوها لا تكاد تحس بدفئه وحرارته حتى يفاجئك بردة ورطوبته، بل أن الإنسان - كما أنبأني أحد الذين أقاموا في هذه البلاد - قد يشكو من شدة الحرارة التي يحس بها في جنبه الأسفل الذي يلي الفراش بينما يألم أشد الألم من الرطوبة التي تصب على جنبه الأعلى. ولا ريب أن هذه طبيعة غريبة قد يدهش لها المصري الذي اعتاد أن يشاهد زيادة النيل ونقصانه، واشتداد البرودة وتوسطها، وارتفاع الحرارة وهبوطها، وحرارة الشمس ووداعتها، وحلول الفصول وارتحالها، كل ذلك في أوقات منظمة محددة لا تختلف إلا لشذوذ نادر يعلله العلماء حيناً ويعجزون عن تعليله حيناً آخر.
كل هذا التعدد في المناظر والمظاهر الطبيعية أثر بارز في عقلية الهنود على رغم ما يوجهه بعض العلماء إلى نظرية تأثير المناظر في العقليات من طعون واعتراضات يحطون بها من شأنها ويحاولون إثبات الأثر كله للعنصر ومواهبه الفطرية.
ومهما يكن من الأمر فقد استطاع التاريخ أن يتغلغل بالمدنية الهندية في أغوار الماضي مدى ثلاثين قرناً قبل المسيح إذ يحدثنا أن تلك الأودية المخصبة كانت في ذلك العهد مأهولة بقوم من الجنس السامي لهم مدنيتهم وديانتهم وتفكيرهم، وأن هؤلاء القوم قد ساهم بناء صرح المدنية العالمية بنصيب وافر، وكان لهم في تاريخ الفكر البشري مجهود جبار ظل مجهولاً أو غامضاً على الأقل حتى قام العلماء الأثريون والمستشرقون بمكتشفاتهم العلمية وأماطوا اللثام عن هذه الحقائق الناصعة وساعدوا البحث الحديث على رد الأشياء إلى أصولها، وأبانوا أن الديانات الهندية المتأخرة والفلسفات العويصة التي ظهرت في تلك الأصقاع إنما تتصل بالعناصر السامية القديمة أضعاف اتصالها بالمنتجات الآرية التي غمرت الهند بعد الفتح الأجنبي.
يحدثنا بعض المؤرخين أن الهند كانت قبل هذا الفتح الآري قبائل متفرقة أو شعوباً صغيرة، لكل شعب حاكمه وقوانينه وعقائده وعاداته، وأن الوحدة السياسية والعمرانية إنما وجدت فيها على أيدي أولئك الفاتحين (الآريين) الذين يزعم الأستاذ (ماسون) أنهم كانوا في أزمنة لا تعيها ذاكرة التاريخ يقطنون وادي (الدانوب) المخصب في تلك العهود الغابرة، ثم عبروا البوسفور إلى آسيا لضرورة العيش الذي ألجأهم إليه قحل وقع في وطنهم قبل هذه الهجرة التي لم تكن مألوفة لديهم على عكس الشعوب الآسيوية الرحالة. ومازالوا يتابعون سيرهم انتجاعاً للغيث فعبروا الفرات وواصلوا الزحف حتى (البنجاب) وأخذوا يغيرون على تلك البلاد الخصبة الوادعة حتى بسطوا سلطانهم وأسسوا بها وحدات قوية يصح أن تسمى دولاً، وكان ذلك حوالي القرن الخامس عشر قبل المسيح. ومنذ ذلك العهد بدأت الهند في مرحلة جديدة في الدين والفلسفة والعلم والسياسة، وهذه المرحلة هي التي تشغل الآن أذهان الباحثين المشتغلين بدراسة الفلسفة الهندية.
أما الأغصان الأخرى التي بقيت في الدانوب من تلك الدوحة الآرية فقد انتشرت في أوربا يحمل كل غصن منها اسماً خاصاً به مثل (السيلت) و (الجرمان) و (السلاف) و (الاتين) و (الهيلين) وقد خالف أصحاب هذه الفكرة الرأي القديم القائل بأن أصل العنصر الآري كان يقيم في بلاد الهند ثم ارتحلت منه بطون إلى أوربا فكانت منشأ هذه الأجناس السابقة الذكر. ولا ريب أن لكل منهما أدلة خاصة.
غير أن النار لم تكن هي الإله الأوحد عند هؤلاء القوم تؤيد مذهبه، لأن مجرد اتفاق هذه الأجناس الأوربية مع آريي الهند في اللغة (السنسكريتية) وفي بعض العقائد والنظريات لا يؤيد الرأي الأول ولا ينصر الثاني؛ غير أن أصحاب الرأي الحديث يزعمون أن مكتشفات حديثة يرجع تاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل المسيح تؤيدهم فيما ذهبوا إليه من أن الهجرة كانت من أوربا إلى آسيا. وسواء أصح الرأي الأول أم الثاني فإن الاستكشافات الحديثة التي قام بها العلماء منذ أن بدأها الأستاذ (يانيرجي) الهندي، وثنى على أثره فيها (سيرجوهن) تسمح لنا بأن نؤكد أن مدنية الهند الغابرة تمتد جذورها في الماضي أكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل المسيح، ولكن هذه المدنية التي كانت قد ازدهرت في وادي (البنجاب) قبل احتلال (الآريين) لتلك الأصقاع بأكثر من خمسة عشر قرناً قد اندثرت قبل هذا الاحتلال بزمن لا يعرف التاريخ تحديده بالضبط.
ويؤكد فريق من الباحثين أن تلك المدنية القديمة كانت راقية رقياً يسمح لها بأن تصعد إلى ما هو أدنى من صفوف المدنية الفرعونية بقليل، ويجعل (الآريين) الفاتحين إلى جانب الوطنيين برابرة متوحشين، وأنت ترى أن هذا الرأي يخالف ما نقلناه لك آنفاً من أن السكان الأصليين كانوا شعوباً منتثرة أقل مدنية من الفاتحين، وأن (الآريين) هم أول من حققوا لبلاد الهند الوحدة السياسية والاجتماعية.
ومهما يكن من شيء فقد احتل أولئك (الآريون) تلك الأصقاع المتمدينة وطغوا على مدنيتها وديانتها طغياناً محاهما من صحائف أذهان الخاصة وإن كان لم يستطع أن يمحوهما من صحائف الوجود، بل ولا من أذهان العامة والجماهير.
هذا، وللعلماء الباحثين موطد الأمل في أن يصلوا على ممر الزمن إلى حل رموز الآثار الهندية القديمة التي أنشأها الوطنيون قبل الاحتلال الأجنبي، فإذا وصلوا إلى هذه البغية استطاعوا أن يتبينوا المدنية الهندية القديمة والديانة المحلية وما امتزج بهما وطغى عليهما من مدنية الفاتحين وديانتهم. أما الآن فأكثر ما يقال في هذا الصدد لا يعدو دائرة الفرض والتخمين.
على أن أهم ما يلفت النظر في الاكتشافات الحديثة للآثار الهندية القديمة هو أنه قد عثر على بعض تماثيل يرجع تاريخها إلى عهد المدنية الأولى، ولكنها تشبه كل الشبه تمثال الإله (سيفا) الذي هو من آلهة عهد الاحتلال (الآري) وكذلك عثر المكتشفون على رموز يرجع تاريخها إلى القرن الثلاثين قبل المسيح، وهي لا تزال حية في الديانة الحديثة حياة قوية.
ويستنتج الباحثون من هذا أن الإله (سيفا) ليس إلا إلهاً محلياً قديماً لونه الفاتحون بلون جديد ثم أقروه في الديانة المحدثة، كما أن تلك الرموز الحية في الديانة (الهندوأرية) هي بعينها الرموز الوطنية القديمة. وينجم عن هذا أن تكون الديانة الهندية المستحدثة بعد (البراهمانية الأرثوذوكسية) مزيجاً من الديانة المحلية المندثرة والديانة (الهندوآرية) ولكنه كان مزيجاً مجهولاً لدى الهنود أنفسهم ولدى جميع العلماء والمؤرخين حتى ظهرت استكشافات (بانيرجي) الأخيرة.
وتدل دراسة الديانة الهندية بوجه عام على أن الهند هي بعد مصر البقعة الثانية التي يصح أن يطلق عليها اسم أرض الآلهة والتي لا يفوقها في كثرة آلهتها وتعقد مشاكلها الدينية وصعوبة تحديد اختصاص الآلهة وسعة الخيال وخصوبته في تصوير المعبودات إلا بلاد الفراعنة.
الديانة المحلية
لم يصل الاكتشاف الحديث بعد إلى الدرجة التي يصح معها للباحث الدقيق - كما أسلفنا - أن يصدر حكماً جازماً على الدنيا المحلية التي سبقت عهد الاحتلال (الآري) إذ قد رأيت تناقض العلماء وتضارب آرائهم في هذا الموضوع حيث يقرر فريق منهم أن الوطنيين الأوليين كانوا أرقى عقلية وأعظم مدنية من الفاتحين. ويذهب فريق آخر إلى العكس فيقرر أنهم كانوا بطوناً منتثرة وقبائل متفرقة لا تربطهم مدنية اجتماعية ولا تجمعهم وحدة سياسية، ولكن الذي لا ريب فيه هو أن أولئك القوم كان لهم ديانة مهما تبلغ من السذاجة فإن لها قيمة تاريخية لا يصح للمشتغلين بتاريخ العقلية الإنسانية أن يهملوها. وتتلخص هذه الديانة في أن النار كانت هي المعبودة المقدسة التي تقدم إليها الضحايا والقرابين من لحوم مشوية وخمور معتقة وألبان وخبز وأعشاب صالحة للأكل أو للتخمير إلى غير ذلك، وأن كهنة النار الذين كانوا يتولون إيقادها كان لهم بين أفراد الشعب مكانة رفيعة وإجلال مفروض. وقد كان هؤلاء الكهنة سدنة للنار وسحرة وأساتذة فنيين يعلمون الشعب طقوس الدين وأركان العبادة.
وإنما كان هناك آلهة كثيرون، بعضهم يتمثل في الشمس وما تسكبه على الكون من نعمة الإضاءة والدفء والإنعاش، والبعض الآخر يتمثل في تنين هائل أو وحش مخيف. وكان عدد أولئك الآلهة يصل أحياناً إلى ثلاثين أو ثلاثة وثلاثين إلهاً متساوين حيناً، ولهم رئيس أعلى حيناً آخر، ولكن هذا الرئيس لم يكن هو خالق الأكوان، لا لأن هؤلاء القوم كانوا دهريين أو طبيعيين، بل لأن سذاجتهم كانت قد بلغت حداً حال بينهم وبين الرجوع بعقولهم إلى بدء الخلق، فاقتصروا على التفكير فيما هو بين أيديهم فحسب ولم يتعدوه إلا إلى ماض قريب فرضوا فيه وجود عالم أحط منهم مرتبة وأقل مدنية. وبناء على هذا كان عمل الإله أو الآلهة عندهم مقصوراً على التصرف في الموجود ولا يتناول الإيجاد بأي حال.
وكانوا يعتقدون أن هناك عالماً آخر وراء هذا العالم يدعى (عالم الأموات) وأن ملك هذا العالم هو أول ملك من أجدادهم وهو: (ياما) بن (فيفاسفان) كما كانوا يعتقدون أن الخيرين الذين يموتون وهم حائزون رضى الآلهة لا تكاد أرواحهم تغادر أجسامهم حتى يمنحهم أولئك الآلهة معرفة الغيب والقدرة على التصرف في الكون وعلى تدبير الأقدار خيرها وشرها.
(يتبع)
محمد غلاب