الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 204/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 204/رسالة الفن

بتاريخ: 31 - 05 - 1937


ميكيلانجلو العبقرية الملهمة

للدكتور احمد موسى

عرفنا من المقال السابق كيف بدأ القرن السادس عشر بشخصية الرجل الكامل ليناردو دافينشي، وكيف كانت الرغبة أكيدة في إحياء علوم الإغريق وفنونهم، وعلمنا مدى أثرهما على ليوناردو

واليوم نعالج عبقرية ملهمة، وشخصية فذة. اعتبرت ولا تزال معتبرة من أبرز شخصيات الفن إطلاقاً، ألا وهي شخصية ميكيلانجلو، النحات القدير، بل قائد النحت الحديث، والمعماري العظيم، والمصور الهائل

وكم كنت أود أن أدرس مختلف نواحيه الفنية. لولا أن هذا قد يذهب بنا إلى تفاصيل قد لا تؤدي إلى ما نرمي إليه من تزويد القارئ بمعرفة شئ مبسط عن الفن وعن تاريخه، بقصد السمو بذوقه، وفتح ناحية من الاستمتاع النظري أمامه، لا تقل روعة عن نواحي الاستمتاع النفساني الأخرى؛ بل قد تزيد أهمية، نظراً لقلة ثقافتنا الفنية بوجه عام

هذا يرغمني على أن أحاول الجمع بين غايتين مختلفتين: الأولى الاقتضاب حتى لا يمل القارئ، والثانية الإيضاح الصادق حتى يعلم أهم ما تجب معرفته عن شخصية من أبرز شخصيات الفن إطلاقاً

ولعل أهم ما تجب معرفته مبدئياً هي مميزاته الفنية، والطابع الذي طبع به إنتاجه. أما مميزاته فقد يمكن فهمها عند ما يشاهد ما تركه من تراث مجيد، فعندئذ نرى أنه كان سامي الخيال باحثاً وراء المثل العليا في خلقه؛ وأما طابعه فهو يتلخص في أنه استطاع أن يخلق لنفسه عالماً فنياً خاصاً، جال فيه ثم ارتفع حتى أصبح مضرب الأمثال في الجمع بين سمو الخيال وجمال الاقتباس، وبين القوة والعنف، هذا إلى جانب روعة الإنشاء التي كانت له دون غيره

وموضع الدهشة والحيرة في خلق هذا الفنان العبقري أنك عندما تشاهد إنتاجه لا تستطيع أن تتصور أنه مستمد من الواقع الملموس أو مشابه له؛ بل ترى دون شك أن هذا الإنتاج يعبر عن المثل الأعلى في الجمال، ولكنه مع هذا ملئ بكل مظاهر الحياة لا ينقصه شئ منها إلا النبض

كانت الغاية عن ميكيلانجلو أن يظهر الجسم البشري إظهاراً جميلاً سامياً، مليئاً بالقوة نابضاً بالحياة، وهو في هذا المجال أول وأعظم فنان أنجبه الدهر في المدرسة الحديثة دون منازع

وقد وصل في المعرفة بأصول علم التشريح إلى درجة لا مثيل لها مطلقاً، وهذه المعرفة تتضح عندما نشاهد ما غلب على إنتاجه من مظاهر الحركة بمختلف أوضاعها

وإذا قارنا خلقه بتراث الإغريق الخالد؛ وجدنا الفارق يتلخص في عنف ميكيلانجلو في الإخراج، لأنه تخير المواقف التي تكاد تكون مستحيلة، كما فضل مواقف الضغط والاضطرار راغباً من وراء ذلك في إظهار جمال التكوين الجسماني الإنساني طامحاً وراء البناء الهرقلي (نسبة إلى هرقلس)، فكان بما ملك من القوة، فذاً في الإخراج، عظيماً في الوضع، إماماً لكل فنان طامح، ملك الجمال بمعناه الفلسفي، وبعد كل البعد عن الجمان المثير، فكان نقياً في اختيار موضوعاته لا يهتم فيها إلا بالعظائم.

كان بشخصه يقوم بنحت تماثيله الرخامية من أبسط شئ فيها إلى أكبر وأهم جانب منها، سائراً في ذلك تبعاً لرسومه الخطية التي كان يرسمها لتكون بمثابة المنهج الدراسي قبل البدء في النحت.

ولد ميكيلانجلو يوم 6 مارس سنة 1475 في كابريزه، وتلقى أول دروسه في التصوير منذ سنة 1488 عند المصور المعروف دومينيكو جيرلانداجو الذي كان بارزاً في فلورنسا في ذلك الحين.

ولكنه بجانب درسه للتصوير، عرج كثيراً على دراسة النحت الإغريقي، ووجد في الغاية. وكانت التماثيل الموجودة بحديقة مديتشي في سان ماركو خير مدرسة له. ولم تنقض مدة طويلة حتى لاحظ لورنسودي مديتشي استعداد ميكيلانجلو للنحت؛ فأخذه ليتتلمذ في بيته على النحات برتالدو، الذي كان تلميذاً لدوناتيللو المعتبر من أحسن نحاتي عصره

وأول منحوتاته قطعة (نصف بارزة) أسماها (المادونا جالسة إلى جوار السلم) ش - 1 - ، وبالنظر إليها نرى الكيفية التي تمكن بها، وهو حديث عهد بالنحت، من صبغ ما نحته بشيء كثير من الحياة، يتضح من تأملنا نبل وجه العذراء، وكثرة الثنايا التي تخللت ملابسها، إلى جانب القوة التي بدت في نحت الأيدي. كذلك من الطريقة التي جلست بها العذراء على ذلك المقعد الرخامي الواطئ، والمنهج الذي سار عليه في إخراج الملابس، ثم جلسة الطفل في حجر أمه، والأطفال الصغار الذين يلهون على السلم

وقطعته الثانية نصف بارزة أسماها (مذبحة كنتاور) وهي تمثيل لقصة إغريقية خرافية، أبطالها مخلوقات نصفها الأعلى كإنسان والأسفل كحصان ش - 2 - ، وهي من أهم الأدلة على اتجاه الفنان إلى الإغريق وتأثره بهم.

انظر إلى القطعة نظرة شاملة، وتأمل كيف استطاع إظهار كل من الأجسام في حالة حركة مملوءة بالحياة، تناسبت كل التناسب مع موضوع القطعة من الناحية الإنشائية، فترى العضلات بارزة، مع اختلاف التكوين الكلي وملامح الوجه لكل منهم، فضلاً عما تعبر عنه بعض هذه الأجسام والوجوه من المقاومة والعنف، على حين يعبر البعض الآخر عن الاستسلام أو الخوف. أما التفاصيل التشريحية فهي في غاية الكمال، فالثنايا والعضلات والانحناءات كلها على غاية الدقة

تأمل الرجل العجوز الواقف إلى أقصى اليسار وهو يحمل حجراً بيديه، يريد الإلقاء به على أحد المغضوب عليهم، ثم قارن بين مظهره الكلي وشكله التكويني، وبين وجوه الواقفين إلى أقصى اليمين، فإنك تلاحظ اختلاف التعبير في ملامح الوجوه، لأن حالة الدفاع وما ترسمه على ملامح الوجه تخالف حالة الاعتداء

تأمل الأذرع والأيدي وكيفية انثنائها وامتدادها وانقباضها، وسر بنظرك خلال أجزاء هذه القطعة الفذة التي شملت أكثر من عشرين رأساً، لا ترى منها واحدة شابهت الأخرى، وفكر قليلاً واذكر أن ميكيلانجلو بدأ المرحلة الأولى من حياته الفنية بهذه القطعة

فر هارباً إلى بولونا عندما علم أن الحزب المعارض لبيت المديتشي قد انتصر عليه. وفي بولونا نحت تمثالاً من الرخام لملاك، بقصد التحلية لمقبرة دومونيكوس، وكذلك تمثال يوحنا الصبي حاملاً لقرص شمع العسل ش - 3 - بمتحف برلين، وإذا نظرنا إلى هذا التمثال فإننا نرى عليه مسحة البراءة، إلى جانب جمال التكوين العام وسماحة الوجه. انظر إلى العنق والذراعين والساقين والقدمين، ثم قارن بين التكوين الكلي لهذا التمثال وبين ما سبق أن شاهدته بالقطعة الفائتة واجتهد أن تتعرف بعض الفوارق.

(له بقية)

احمد موسى