مجلة الرسالة/العدد 203/الفلسفة الشرقية
→ خاتمة المأساة الأندلسية: | مجلة الرسالة - العدد 203 الفلسفة الشرقية [[مؤلف:|]] |
ذكرى المولد النبي ← |
بتاريخ: 24 - 05 - 1937 |
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 5 -
الديانة المصرية - قداسة الحيوان عند الخاصة
بقي علينا قبل أن نغادر فصل الألوهية عند قدماء المصريين أن نبين حقيقة علمية ظلت مستورة وقتاً طويلاً يكتنفها الغموض ويحوطها الإبهام من كل جانب، وظل العلماء والباحثون يتخبطون في حل مشكلتها مدى بعيداً. تلك المشكلة هي عبادة المصريين للحيوانات التي طالما كانت موضع الحيرة من المستمصرين الذين يدينون بمدنية مصر الفائقة ورقي عقليتها الممتاز الذي لا يتفق مع عبادة الحيوانات تحت لواء منطق مستقيم
وها نحن أولاء نبين رأي الخاصة المتفلسفين في عبادة الحيوان بعد أن أبنا في الكلمات السابقة منشأ عقائد العامة الذين كانوا يعبدون تلك الحيوانات دون أن ينشغلوا بأسباب هذه العبادة. وقد ذكرنا لك فروض العلماء التي تمحلوها في هذا الشأن؛ أما الخواص من المصريين فمبررات عبادتهم للحيوان تتلخص فيما يلي:
كان المصريون يعتقدون أن الروح تعود بعد الموت فتقطن في المومياء المحنطة وفي التمثال الحجري على ما سنبين ذلك في بابه، ثم تدرجوا إلى أن للإنسان عدة شخصيات بعضها مادي وبعضها روحي، وأن كل شخصية من هذه الشخصيات يمكن أن تستقل بنفسها في مأوى خاص وإذا كان هذا شأن الإنسان فأحر بالإله - وهو الأعظم روحانية - أن يكون له عدة شخصيات تحل كل واحدة منها في مأوى، ثم فكروا فهداهم تفكيرهم إلى أن مأوى شخصيات الإله لا يصح أن تكون ميتة كالمومياء ولا حجراً بارداً كالتمثال، وإنما يجب أن تكون مستحوزة على الحياة الواقعية وأن تكون غير إنسان، فأخذوا يحلون الإله تارة في ثور وأخرى في تمساح وثالثة في قط، ورابعة في طائر، ثم يتبعون هذا الحلول بتقديس ذلك القط أو ذاك الثور أو هذا الطائر، ويقدمون إلى هذه الحيوانات أنواع العباد والإجلال، لا على أنها معبودات لهم، ولكن على إنها ظروف قد حلت فيها شخصيات الإله الأعظم التي لا تتناهى.
وكانت هذه العبادة في أول الأمر مقصورة على فرد واحد من أفراد كل نوع من الحيوانات ينحصر فيه الاختيار من بين جميع أفراد نوعه لميزة لا توجد في غيره، ثم تطورت هذه العقيدة فأخذت تشمل أفراد كل نوع عبد منه فرد واحد في الماضي.
وقد شاهد (هيرودوت) في مصر هذه الحالة فنبأنا بأن حريقاً شب في مصر فوجه السكان جميعهم عنايتهم إلى نجاة القطط قبل أن يفكروا في إطفاء النار، وهو ينبئنا كذلك بأن موت بعض الحيوانات كالقطط والكلاب كان يعقبه في مصر حداد شامل وألم عميق. وليست رواية هيرودوت وبأغرب مما يحدثنا به الأدب عن الحيوانات، إذ ينبئنا أن المصريين كانوا يعتقدون أنها مشتملة على كثير من أسرار الكون الخفية، فهي مثلاً تعلم الغيب وتحيط بما في المستقبل الغامض على الإنسان، ولكنها تحتفظ بهذه الأسرار ولا تبوح بشيء منها إلا للمقربين الذين اصطفاهم الإله أو سيصطفيهم عما قريب. وهاهي ذي الأساطير المصرية تحدثنا في قصة (الأخوين) أن (بيتيو) أحد الشقيقين اللذين وشت بينهما زوجة أكبرهما كان عند مواشيه، وهو لا يدري تربص شقيقه به، فهتفت به إحدى البقرات قائلة: هاهو ذا أخوك يريد قتلك بسكينة فانج بنفسك من أمامه. ولم يكن الحيوان وحده هو موضع هذا الحلول الإلهي ومقر تلك الأسرار الكونية، وإنما كان النبات كذلك. ولهذا فكثيراً ما يصادفك في التاريخ المصري: حقائقه وأساطيره، آثار أو قصص تتحدث عن الأشجار المقدسة الحائزة لغوامض الأسرار. فمن ذلك ما ينبئنا به كتاب (الأدب المصري القديم) من أنه بينما كان فرعون جالساً ذات مرة مع زوجته التي كان يحبها حباً جماً تحت إحدى الشجرات المقدسة في سرور وسعادة، وإذا بالشجرة تنحني على الملك وتسر في إذنه أن زوجته خائنة؛ إلى غير ذلك مما لو تعقبناه لطال بنا البحث.
ارتقت بعد ذلك هذه العقيدة وسارت إلى الفلسفة بخطوات واسعة فقررت أن الإله حال في كل كائن حي، بل في كل جزئية من جزيئات الطبيعة، وأنه ذو مظاهر مختلفة، فهو مرة روح في جسم حي، ومرة روح مجردة، وثالثة قوة من قوى الطبيعة في الجو أو على الأرض أو في أعماق البحار؛ وهذا الحلول الديني أولاً، والفلسفي ثانياً، هو سر عبادتهم للحيوان والنبات.
النفس عند قدماء المصريين
يرى بعض العلماء أن المصريين في أول عصورهم الفكرية لم يكونوا يعنون بالروح أو بعبارة أدق لم يكن عندهم عن الروح فكرة واضحة. ويعللون هذا بأن المصريين كانوا يعتقدون في تلك العهود السحيقة أن الجسم نفس حي يستمتع في القبر بكل مميزات الحياة. ولكن هذا الرأي عندي غير صحيح، إذ أن المعروف عند قدماء المصريين أنهم كانوا منذ أقدم عصورهم يدينون بوجود كائن أجنبي عن الجسم، وأنه أثناء وجود الجسم في القبر يختلف إليه من حين إلى أخر، وأنهم لهذا كانوا يتركون في بناء القبر ثغرة بسيطة تمر منها الروح جيئة وذهاباً، وأنه لكي تظل الروح حية يجب أن يبقى مأواها وهو الجسم سليما من الخدوش والجروح، ولا يضمن سلامة الجسم إلا التحنيط، فابتدعوه مدفوعين إلى ذلك باحتياجهم إليه، (والحيلة بنت الحاجة كما يقولون)؛ ثم أخذ المحنطون الفنيّون يتنافسون في هذه الصناعة، ويبرهن كل واحد منهم على أنه أقدر من صاحبه على حفظ الجسم سليما زمناً طويلاً. غير أنهم اقتنعوا بعد ذلك بأن الجسم مهما كان تحنيطه متقناً سيلحقه البلى على كل حال. وهنا تتعرض الروح للخطر، فلا مناص إذاً من أن يصنعوا لها مأوى آخر تقيم فيه إذا ما بلى الجسم فاخترعوا فن النحت. ولما كانت الأسطورة الدينية تشترط أن يكون هذا التمثال المحنط شبيهاً بالجسم الأصلي في كل تقاطيعه وملامحه دفعتهم هذه الوسوسة إلى الإجادة والإتقان في النحت بهيئة تعجز أكابر فناني العصور الحديثة.
عدد المصريين بعد ذلك التماثيل للشخص الواحد حتى جاوزت في بعض الأحيان مائة تمثال للدفين الواحد. وكان لهذا التعديد سببان: الأول الوسوسة الدينية التي كانت تقض مضاجعهم وتنذرهم بالأخطار المرعبة التي تتعرض لها الروح إذا أخطأ المثال في شئ ولو يسيراً من تقاطيع الجسم أو ملامح الوجه، فكان الإكثار من التماثيل يقيهم شر هذا الخوف المتسيطر. أما السبب الثاني فهو أن تكون الروح في عالم الآخرة غنية سعيدة بالتنقل من تمثال إلى تمثال ولكن منشأ هذا التعديد قد نسي بمرور الزمن ثم تطرقت إليه التأويلات المختلفة التي تلحق عادة كل عقيدة نسي اصلها. وكان أحد هذه التأويلات الكثيرة أن هذه التماثيل لم تصنع عبثاً، وإنما صنع كل تمثال منها لروح خاصة، لأن كل شخص يشتمل على عدة أرواح تسمى إحداها: , أي الروح، والثانية: , أي النفس أو العقل. والثالثة (دوبل) وهي صورة صيغت من مادة أدق من مادة الجسم، ولكنها على هيئة الجسم تماما والرابعة: (الكا) وهي الجوهر الخالد الموجود في الإنسان وفي كل إله، وهو سر الحياة وسر السمو.
وتمتاز (الكا) عند المصريين عن بقية شخصيات النفس بأنها تظل في عالم السماء ما دام الإنسان في الحياة، فإذا مات اتصلت به اتصالاً وثيقاً يجعله غير قابل للزوال. أما الروح فإنها تظل مترددة على الجسم في قبره كما أسلفنا. حتى إذا ما فاز الميت برضى (توت) انكشفت أمامه كل أسرار الحياة وأصبح لا فرق بينه وبين الأحياء إلا انهم يسيرون على الأرض وهو نائم في قبره. ومن أسباب هذا الرضى أن يتعبد الشخص في حالة حياته بتلاوة كتاب توت وأن يوصي بوضعه معه في قبره إذا أمكن ذلك، وفي هذا المعنى تقول الأسطورة المصرية (أن كتاب توت الذي كتبه الإله بيده، والذي لا يحتوي إلا على عزيمتين اثنتين والذي اشتمل على جميع كلمات الخلق والتكوين المقيدة للآلهة أنفسهم، إذا حصلت عليه ثم تلوت القسم الأول منه سحرت السماء والأرض وعالم الليل والجبال والبحار وفهمت لغة الطير واستطعت أن ترى الأسماك في أغوار الأنهار، لأن قوة خفية تصعد بها على وجه الماء؛ وإذا تلوت القسم الثاني من هذا الكتاب فانك بعد أن تصير في القبر تعود إلى شكلك الذي كنت عليه في حال الحياة وترى الشمس حينما تشرق والقمر حينما يظهر).
وكان المصريون يعتقدون أن الروح وهي في عالم الآخرة تظل مفتقرة إلى ما يقدمه إليها الأحياء من طعام وشراب في الضحايا والقرابين، وأنها إذا تركت بدون هذه الضحايا يؤلمها هذا الإهمال كما يؤلم الأحياء. ولا ريب أن هذه العقيدة تدل للوهلة الأولى على مادية المصريين. وقد استند بعض الباحثين إلى هذه الأسطورة ومثيلاتها من ترك المصريين ثغرة للروح تمر منها، ومن قولهم بافتقار الروح إلى مأوى مادي تقيم فيه كالمومياء والتمثال، فجزموا من كل هذا بأنه إذا كان للمصريين فلسفة فأنها مادية ساذجة؛ وهو قول بعيد عن الصحة بعد العدم عن الوجود، لأن للنفس عند المصريين عدة شخصيات، فإذا كانت إحدى هذه الشخصيات مادية تأكل وتشرب بعد الموت من الضحايا والقرابين وتحتاج إلى مأوى تقيم فيه وثغرة تنفذ منها، فلا ينزل ذلك بفلسفتهم إلى المادية، لأن قولهم بوجود الشخصية الأخرى التي هي جوهر الأسرار الإلهية يصعد بهذه الفلسفة إلى أسمى أوج الروحانية. على أني لا أدري كيف يجرؤ هذا البعض من العلماء على أن يرموا فلسفة المصريين بالمادية الساذجة من أجل قولهم بافتقار الروح إلى الأكل والشرب والمأوى ثم هم يسوغون لأنفسهم أن يشيدوا بفلسفة (تاليس) و (أنا كسيماندر) و (أنا كسيمين) و (ديوجين) وهم لم تخطر لهم الروح ببال؛ أو بفلسفة (ديموقريت) و (إيبيقور) اللذين - وإن قالا بالثنائية - لا يميزان الروح عن المادة إلا بنفس الميزة التي ميز بها المصريون من قبل (الدوبل) عن الجسم، وهي كما نص (ديموقريت) و (إيبيقور): (إن النفس من ذرات أدق وأكثر شفافية من ذرات الجسم، وهذا هو كل ما بينهما من فرق) أضف إلى هذا أن (أفلاطون) نفسه - وهو ثاني أجلاء فلاسفة اليونان الروحانيين - يرى أن النفس مكونة من ثلاث قوى: إحداهما جوهرية خالدة، والاثنتان الأخريان ماديتان قابلتان للفناء، فهل عيب التفكير المصري هو أنه سبق غيره إلى النظريات الراقية بأكثر من عشرين قرنا؟!
مما هو جدير بالذكر عند قدماء المصريين أن الروح كانت عندهم تتصل بعالم الأحياء فتذكره بعظات الماضي وتنبئه بأسرار المستقبل وتنصحه بعمل شيء وتحذره من عمل آخر إلى غير ذلك مما تفيض به الأساطير.
(يتبع)
محمد غلاب