مجلة الرسالة/العدد 202/مصطفى صادق الرافعي
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 202 مصطفى صادق الرافعي [[مؤلف:|]] |
كتاب الإرشاد ← |
بتاريخ: 17 - 05 - 1937 |
شديد على الرسالة أن تنعى الرافعي إلى ديار الحنيفة وأقطار العروبة بدل أن تزف إليها كعادتها درة من غوص فكره وآية من وحي قلمه! وعزيز على هذه القلم أن يتقطر سواده على الرافعي وهو نوره في مداده وسنده في جهاده وصديقه في شدته! وعظيم على العالم الأدبي أن يرزأ في الرافعي وهو الطريقة المثلى لغاية الناشئ، والمثل الأسمى لطموح الأديب، والحجة العليا على قصور القاصر!
يا لله!! أفي لحظة عابرة من صباح يوم الاثنين الماضي يلفظ الرافعي نفسه في طوايا الغيب كومضة البرق لفها الليل، وقطرة الندى شربتها الشمس، وورقة الشجر أطاحها الخريف؛ ثم لا يبقى من هذا القلب الجياش، وهذا الشعور المرهف، وذلك الذهن الولود، إلا كما يبقى من النور في العين، ومن السرور في الحس، ومن الحلم في الذاكرة!!
كان الرافعي يكره موت العافية فمات به: أرسل إلي قبل موته الفاجئ بساعات كتابه الأخير يشكو فيه بعض الوهن في أعصابه، وأثر الركود في قريحته؛ ويقترح علي نظاماً جديداً للعمل يجد فيه الراحة حتى يخرج إلى المعاش فيقصر جهده على الأدب؛ ثم يسرد في إيجاز عزائمه ونواياه، ويعد المستقبل البعيد بالإنتاج الخصب والثمر المختلف؛ ويقول: (إن بنيتي الوثيقة وقلبي القوي سيتغلبان على هذا الضعف الطارئ فأصمد إلى حملة التطهير التي أريدها. . .)
كتب الرافعي إلي هذا الكتاب في صباح الأحد، وتولى القدر عني الجواب في صباح الاثنين: قضى الصديق العامل الآمل الليلة الفاصلة بين ذينك اليومين على خير ما يقضيها الرخي الآمن على صحته وغبطته: صلى العشاء في عيادة ولده الدكتور محمد؛ ثم أقبل على بعض أصحابه هناك فجلا عنهم صدأ الفتور بحديثه الفكه ومزحه المهذب؛ ثم خرج فقضى واجب العزاء لبعض الجيرة؛ ثم ذهب وحده إلى متنزه المدينة فاستراض فيه طويلا بالمشي والتأمل؛ ثم رجع بعد موهن من الليل إلى داره فأكل بعض الأكل ثم أوى إلى مضجعه
وفي الساعة الخامسة استيقظ فصلى الفجر وهو يجد في جوفه حزة كانت تعتاده من حموضة الطعام. فلما فرغ دخل على ولده الطبيب فسقاه دواء، ثم عاد فنام. وهب من نومه في منتصف الساعة السابعة، وخرج يريد الحمام فسقط وا حسرتاه من دونه سقطة همد فيه جسده فلا صوت ولا حركة! وذهب الرافعي ذو اللسان الجبار والذكر الدوار والأثر المنتشر، ذهاب الحباب كأنه لم يملأ مسامع الدهر، ولم يشغل مدارك الناس زهاء أربعين سنة!
كان آباء الرافعي شيوخ الحنفية في مصر، تولوا قضاءها وإفتاءها وإقراءها حقبة طويلة من الدهر؛ فدرج هذا الناشئ الصالح في حجور أربعين قاضيا من قضاة الشريعة كانوا من أهل بيته، وقد نوه بهم اللورد كرومر في بعض تقاريره. وكان أبوه الشيخ عبد الرازق الرافعي قد جرى على أعراق هذه الأسرة الكريمة من ورع القلب وصحة الدين وسلامة الضمير؛ ثم تميز في قضائه بمرارة الحق وصلابة الرأي وثبات العقيدة، فجاء مصطفى في كل ذلك صورة أسرته وسر أبيه
لم يذهب الرافعي إلى الأزهر، فقد كان في أزهر من قومه؛ وإنما نشأ في مغداي ومراحي بين طلخا والمنصورة أفندياً يتلقى معارفه الأولى بمدرسة الفرير، ويتخرج في علوم اللسان والشريعة على أبيه، حتى حذق العربية وفقه الدين وثقف الأدب وأصبح فارسا في الحلبتين ولما يعد العشرين. فلما بلغ ربيع العمر ختم الله على سمعه بالصمم الشديد، فكان منذ شبابه الأول بنجوة من لغو الناس ولغط المجتمع، فسلم عقله من السخف، وبرئ ذوقه من التبذل؛ وعاش في عالم الخيال ودنيا الكتب، فاتسع أفق تفكيره، وارتفع مقياس فنه. وظلت طبيعته البشرية على الكهولة نقية حرة كطبيعة الفتى الشابل، فيها الغضب الحاد، والرضى الهش، والدلال المتعظم، والهوى الجموح، والفتوة الأبية. فهو يخلص في الحب ويصدق في البغض، فلا يداور ولا يداري، ولا يحقد ولا يحسد
عملت في الرافعي عوامل الوراثة والبيئة والدراسة والعاهة؛ واتفق له من كل أولئك ما لم يتفق لغيره، فكان أفقه العلماء في دينه وأعلم الأدباء بلغته، وواحد الآحاد في فنه. والدين واللغة والأدب هي عناصر شخصيته وروافد عقليته وطوابع وجوده. لذلك كان يقظ الرأي شاهد الحس لما يعلق بثلاثتها من أباطيل وشبه. وعبقريات المصطفى إنماكانت تتنزل على قلمه المرسل حين تمتد الأفيكة إلى كتاب الله أو إلى لغة العرب أو إلى أدب الرافعي
الرافعي أمة وحده لها وجودها المستقل وعالمها المنفرد ومزاحها الخاص وأكثر الذين كرهوه هم الذين جهلوه: كرهه الأدباء لأنه أصحر لهم بالخصومة فانفرجت الحال بينهم وبينه. وكرهه المتأدبون لأنه رفع مقياس الأدب فوسمهم بالعجز عنه. وأنكره العامة لأن الأمر بينهم وبينه كالأمر بين العمى والنور! إنما يحب الرافعي ويبكيه من عرف وحي الله في قرآنه، وفهم إعجاز الفن في بيانه وأدرك سر العقيدة في إيمانه.
ذلك بعض الرافعي الإنسان؛ أما الرافعي الفنان فموعدك به خمود الحزن وانكسار المصيبة.
أحمد حسن الزيات