مجلة الرسالة/العدد 202/رسالة العلم
→ رسالة الشباب | مجلة الرسالة - العدد 202 رسالة العلم [[مؤلف:|]] |
رسالة الفن ← |
بتاريخ: 17 - 05 - 1937 |
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي بك
مدير مصلحة الكيمياء
- 4 -
وفي عام 1902 انبرى إرليش يطلب غايته، فأخرج كل ما لديه من الأصباغ وسواها صفاً صفاً فلمعت وبرقت واختلط لألاؤها. وتقاصر متقرفصاً أمام قمطراتها فتراءت زجاجاتها على رفوفها كالفسيفساء الرائعة في اختلاط ألوانها. فصاح لما جرت عينه عليه: (ألا ما أجل وأجمل!). ثم اقتنى لنفسه طائفة كبيرة من أصح الفئران. واقتنى لنفسه معها دكتوراً يابانياً مخلصاً غاية الإخلاص في عمله، صبوراً غاية الصبر فيه؛ وكان اسمه شيجا وكان عمله ملاحظة هذه الفئران وقص قطع من أطراف ذيولها ليأتي منها بنقطة من الدم يبحث فيها عن التريبنسومات، أو قص قطع أخرى من نفس الذيول ليأتي منها بنقطة دم يحقنها في دم الفأر السليم التالي وهلم جرا - واختصاراً كان واجبه أن يقوم بكل الأعمال الثقيلة الطويلة التي لا ينهض بها إلا جهد الياباني وصبره. وجاءت التريبنسومات اللعينة إليه أولا من معمل بستور بباريس في خنزير غيني حق عليه الفناء. ومن هذا الخنزير أخذها وحقنها في أول فأر، ومن ثم بدأ الطراد
وجربوا في هذه الفئران نحوا من خمسمائة صبغة! تجارب اعتباط وخبطات عشواء لا تمت بسبب إلى الأسلوب العلمي، ولكن هكذا كان إرليش في بحثه. كان كأنه البحار الأول يبحث بين أخشاب الشجر عن أوفقها لصناعة مجاذيفه. كان كالحداد الأول ينكش معادن الأرض يتحرى أنسبها لسبك سيوفه. كانت في اختصار طريقة بدائية هي أقدم طرق الإنسان للوصول إلى المعرفة، طريقة المحاولة الطويلة والعرق الكثير في سبيلها. وتقسماها بينهما، فقام إرليش بالمحاولة الطويلة، وقام شيجا بالعرق الكثير. وتلونت أج الفئران ألوانا كثيرة، فمن الأحمر ومن الأصفر ومن الزرق، ولكن التريبنسومات اللعينة تكاثرت وازدحمت ورقصت في دمائها ثم قتلت الفئران جميعا مائة في المائة
وزاد إرليش في سجائره الأجنبية الغالية تدخينا، حتى في الليل كان يقوم ليدخن منها. وزاد شربه المياه المعدنية. وقذف بالكتب إلى رأس قدريت المسكين، وعلم الله ما كان مثله ليلام على جهله السبب في أن هذه الأصباغ لا تقتل هذه المكروبات. ونطق إرليش باللاتينية جملا رنانة، وابتدع أغرب النظريات يشرح بها ما ينتظر من هذه الأصباغ أن تفعله، وابتدع منها أعدادا لم يسبقه باحث إلى ابتداع مثلها من نظريات كلها خاطئة. ولكن في عام 1903 جاءت إحدى هذه النظريات الخاطئة تأخذه بيده فتهديه سواء السبيل
فذات يوم كان إرليش يمتحن ما تصنع أصباغ فصيلة البنزو بربورين - في الفئران، وهي أصباغ معقدة التركيب جملة، فوجد أن الفئران لا تحفل بها وتموت في تواصل مسئم لا انقطاع فيه. فتقطب جبين إرليش وقد كان مقطبا خلقة من هموم عشرين عاما لم يجد فيها النجاح إلى أعماله سبيلا. فقال لشيجا: -
(إن هذه الصبغة لا تنتشر إنتشارا مرضيا في جسم هذا الفأر، فلو أننا يا عزيزي شيجا غيرنا تركيب هذه الصبغة قليلا؛ لو أننا ومثلا أضفنا إلى جزيئها المجموعة الكبريتيه - فلعلها عندئذ تذوب في دم هذا الفأر وتنتشر بذلك فيه. وتقطب جبين إرليش ولم تكن يد إرليش بيد الكيميائي الصناع، ولكن رأسه كان مستودعا عظيماً ودائرة معارف واسعة لعلم الكيمياء. . وكره الأجهزة المركبة بمقدار ما أحب النظريات المعقدة. ذلك أن لم يكن يدري ماذا يصنع بالأجهزة. وإذا هو تناول الكيمياء بيده فإنما يتناولها للهو تناول اللاعب في الماء يخوض في الشاطئ الضحل ويخشى التعمق فالغرق. يبدأ ألف بدء بألف تجربة في أنابيب اختباره، فيلقي من هذه المادة على هذه، ومن هذه على تلك، وينظر ما أثر هذا في تغيير لون الصبغة؛ ثم هو يخرج متدفعا من معمله ليرى أول شخص يلقاه جمال ما وجد، ملوحا بالأنبوبة في وجهه صارخا فيه: (أنظر أي جمال! أنظر أي بدع!). أما التركيب الكيماوي الدقيق وخلق المواد الكيماوية بعضها من بعض فعمل لم يكن له إلا أساتذة الكيمياء وأبطالها.
وصاح إرليش: (لابد من تغيير تركيب هذه الصبغة قليلا، وإذن تنفع حيث لم تنفع من قبل!) وكان كما تعلم رجلا مفراحا ممراحاً، وكان من أظرف الرجال واحبهم إلى الناس، فلم يلبث أن عاد من مصنع الأصباغ القريب وفي يده تلك الصبغة المذكورة وقد ألصقوا بجزيئها المجموعة الكبريتية المطلوبة فتغير تركيبها التغير (القليل) المطلوب
وضرب شيجا بمحقنه تحت جلد فأرين يطلق فيها تريبنسومات داء الورك. ومضى يوم؛ ثم أعقبه يومان، فأخذت عيون الفأرين تلتحم جفونها بهلام الموت، وقف شعرهما وتعامد هلعا من الفناء المنذر، ولم يبق إلا يوم واحد حتى ينتهي أمرهما جميعا. . . ولكن صبرا! فتحت جلد أحدهما ضرب شيجا محقنه يطلق في جسمه تلك الصبغة الجديدة الحمراء التي تغير تركيبها (قليلا). وشهد إرليش ما صنع شيجا، واخذ يتمتم ويدمدم ويقيس الأرض بخطى ذاهبة آيبة، ويضرب بيديه ورجليه. وما هي إلا دقائق حتى أخذت إذنا هذا الفأر تحمران وانفتحت عيناه بعد انغلاق، وأخذ بياضهما يستحيل إلى لون الورد فيزيد في احمراره على حمرة إنسانيهما. هذا يوم إرليش الأسعد. هذا اليوم الذي خبأته له الأقدار طويلا وخبأت فيه مجده. فتلك التريبنسومات ذابت بدم الفأر ذوبانا في وجه هذه الصبغة كما ذوب ثلج الأرض إذا طلعت عليه شمس إبريل الدافئة. تساقطت كل هذه المكروبات واحدة بعد واحدة حتى أخيرة الوحدات، أسقطتها تلك الصبغة المسمومة، تلك الرصاصة المسحورة التي طلبها طويلا حتى وجدها أخيرا. والفأر ماذا كان منه؟ انفتحت عيناه بعد انغلاقها وأخذ يجوس بمنخره في سقاطة الخشب بقاع قفصه حتى جاء يتشمم جثة زميله الذي لم يعالج بالصبغة وقد ارتمت هامدة باردة يرثى لها.
هذا أول فأر على ظهر هذه الأرض نجا من شِرّة هذا المكروب. أنجاه إرليش بفضل المثابرة والحظ، وبفضل الله، وبفضل صبغة أسموها (أحمر التريبان وأما اسمها الكيماوي فيطول. كثيرا وما أنجاه حتى زاد جرأة على جرأته، وزادت أحلام هذا اليهودي الألماني توثبا. قال يحلم: (ها قد وجدت صبغة تشفي فأرا فلأجدنّ أخرى تشفي ألف ألف رجل)
ولم يتحقق رجاؤه بالسرعة التي تمنى، واستمر شيجا يضرب أحمر التريبان في أجسام الفيران في جلد شنيع، فشفيت بعضها وساء حال بعضها. وقد يظهر على أحدها أنه برئ فيلعب ويمرح في قفصه، ثم يمضي عليه ستون يوماً فيطلع عليه الصباح بسوء المزاج، فيأتي شيجا فيقص قطعة من ذيله ثم يدعو إرليش ليريه المكروب الحي الفظيع وقد كثر في دم الفأر حتى تلبد. ما افظع هذه التريبنسومات، وما اخدعها وما أصلب عودها! إن كل المكروبات الفظيعة عودها صليب؛ وإنك لواجد هذا المكروب أصلب المكروبات عوداً. وكيف لا وهذا هو قد اجتمع عليه ألماني وياباني فقذفاه بتلك الصبغة الزاهية فلعقها واستمرأها. وقد يتراجع عنها في حذر وتبصر وينتحي لنفسه منجى عن السوء في بعض نواحي الفأر ولكنه يتربص الفرص ليخرج ويتكاثر مرة أخرى.
فأرليش لم يكد يستمتع بنجاحه الأول القليل حتى توالت عليه ألف خيبة وخيبة.
فالتريبنسوم الذي وجد داود بروس أنه سبب مرض الناجانا وكذلك التريبنسوم الذي يسبب مرض النوم كلاهما برقا لأحمر التريبان وهزءا منه وضحكا عليه وأبيا كل الإباء أن يقرباه، كذلك وجد إرليش أن الصبغة التي نجحت نجاحاً باهراً في الفيران، أخفقت كل الإخفاق لما جربت في الفيران البيضاء والخنازير الغينية والكلاب. له الله ما كان أكثر جلده على مشقة مثل هذا العمل الطويل المسئم الذي لم يكن لينهض به إلا رجل ملحاح مثله رأى بشائر النجاح في شفاء فأر واحد فتشبث بأن النجاح سوف يأتي كله ولو امتد به الزمن واشتد عليه العمل.
إنك لو عرفت كم قتل إرليش من الحيوانات في تجاربه لقلت: (يا خسارتها)، وأنا مثلك كنت شديد الإيمان بالعلم معتزاً به وبسرعة إنتاجه اعتزازاً بلغ حد الغرور والغباء، فكنت مثلك أقولك: (يا خسارتها). ولكن لا. أو أن شئت فقل إنها خسارة كبرى، ولكن اعلم إلى جانب هذا أن الطبيعة ذاتها كثيراً ما تجود بأبرع أنتجتها ولكن بعد أن تبذل وتسرف في البذل في سبيلها عن سعة عظمى. ومع هذا فلابد أن تذكر أن إرليش تعلم من هذه الخسارة درساً قيما: هات صبغة لا نفع فيها إلا ازدهاؤها وجمالها، وغير تركيبها الكيماوي قليلا، تستحل إلى دواء ذي شفاء. فهذا الدرس نفع إرليش وملأه بالثقة وهو الواثق المعتز بنفسه دائماً أبدا
وزاد معمله على الزمن اتساعاً، وزاد نصيبه من محبة الناس واحترامهم. واعتقد أهل المدينة فيه العلم وفهم كل خفية من خفاياه وحل كل طلسم من طلاسم الطبيعة. وعلموا فيه النسيان فأحبوه لهذا النسيان. وتحدثوا فيما تحدثوا أن السيد الأستاذ الدكتور إرليش كان يعلم من نفسه النسيان، فتحين أحيان الأفراح في بيته فيضرب لها الموعد للاحتفال بها، فيخشى أن ينسى المواعيد فيكتب لنفسه بنفسه خطابات في البريد يذكر نفسه بها. قالوا: (ما اسماه إنساناً!). وقال الحوذيون الذين اعتادوا حمله كل يوم إلى معمله: (ما أعمقه مفكراً) وقال لاعب الأرغون في الشارع، وكان إرليش يتحفه بالحلوان الطيب كل أسبوع ليضرب له بموسيقى الرقص في البستان بجوار معمله. قال: (لابد أن هذا الرجل عبقري!). وكان إرليش يكره الأرستقراطية في الموسيقى والآداب والفنون، ويرى أن موسيقى الرقص تدر عليه أحسن أفكار. وقال أهل المدينة الأخيار: (ما أكثر ديمقراطيته في الحياة إذا هي قورنت بأرستقراطيته في العلم،) وسموا شارعاً باسمه في فرنكفورت. ولم يبلغ سن الكبر حتى قالوا فيه ما قالت أساطير الأولين
ثم عبده أثرياء القوم. وفي عام 1906 نزل عليه السعد من السماء، فوهبته امرأة تدعى فرنسسكا إسباير وكانت أرملة لصاحب مصرف ثري مبلغاً عظيما من المال ليبني معملا يسميه (جورج إسباير)، وليشتري حاجته من الأدوات الزجاجية والفئران، وحاجته من حذاق الكيمائيين الذين يستطيعون بتلويحة يد أن يخلقوا كل صبغة حبيبة إليه، وان يركبوا كل العقاقير الكيمائية التي يركبها هو تخطيطاً على الورق ولولا هذه الهبة من هذه السيدة ما استطاع إرليش أن يصنع رصاصاته المسحورة أبداً، فلصنعها احتاج إلى مجهود هذا المعمل الكبير، هذا المصنع المليء بالبحاث وفي هذا البيت ترأس إرليش على بحاث كيمائيين وسادة مكروبيين فكان كرئيس شركة تخرج في اليوم آلاف السيارات، ولكنه في الواقع كان رئيساً عتيق الطريقة فلم يجر على أسلوب رؤساء الشركات الحدثين من دق الأجراس وإصدار الأوامر من كرسيه في حجرة الرياسة. بل كان دائم الحركة جوالا يدخل في هذا المعمل، ثم في هذا، ثم هذا، في كل وقت من أوقات النهار، ينظر ما يصنع أعوانه بل أرقاؤه وعبيده لكثرة ما يهيل عليهم من الأعمال. يدخل إلى هذا فيوبخه، ويدخل إلى هذا فيلاطفه ويربت على ظهره، ثم آخر يحكي له عن أخطاء صارخة آتاها هو نفسه من قبل
(يتبع)
أحمد زكي