الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 202/الفلسفة الشرقية

مجلة الرسالة/العدد 202/الفلسفة الشرقية

مجلة الرسالة - العدد 202
الفلسفة الشرقية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 17 - 05 - 1937


بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 5 -

الديانة المصرية - التوفيق بين الديانة والفلسفة

أشرنا في الكلمة السابقة إلى الخلاف الذي وقع بين المستمصرين حول التطور الديني المصري وهل هو وليد الفلسفة أو الفلسفة هي وليدته. ولما كنا قد تناولنا بهذه المناسبة الكلام على (رع) وتاسوعه، فقد وجب علينا إتماما للموضوع أن نشير إلى آلهة أخرى لا تقل عن السابقين أهمية، وهي (مآت) ابنة (رع) العظيمة

ليست هذه الآلهة من التاسوع، لأنها روحه كله، وبدونها لا يحيا أي واحد من الآلهة، لأنها هي: (الحقيقة والعقل والعدالة). وهل يمكن أن يحيا أي إله بدون الحقيقة والعقل والعدالة؟ وتمتاز هذه الآلهة بأنها تجيء إلى الأرض يحملها فرعون ويتولى تطبيق صفاتها وإبرازها إلى حيز الوجود بطريقة عملية ويظل حارسها الأمين إلى أن يموت فتعود إلى السماء وتبقى فيها ريثما يصعد الملك الجديد على العرش فيوكل إليه أمر حملها وحراستها كسابقه. ولهذا كان كل فرعون يعنى بأن يكتب على آثاره أنه لم يدخر وسعا في حماية الحقيقة والعدالة وفي إعلاء شأن العقل، لكي يثبت بهذا أنه قام بواجبه في حمل (مآت) إلى الأرض ورعايتها خير قيام. وهاك ترجمة شيء مما يخاطب به فرعون (رع) كبير الآلهة فيقول: (هاأنذا أتيت نحوك، وذراعاي مجتمعتان لحمل مآت التي أنت موجود، لأنها موجود؛ وهي موجودة، لأنك موجود؛ والتاسوع يناديك أنك أنت الإله العظيم الذي انتصرت منذ ملايين السنين. وان مآت هي وحيدتك)

ولاشك في أن لمرادفة مآت ابنة رع للحقيقة والعقل والعدالة أهمية فلسفية وأخلاقية عظيمة، إذ منذا الذي لا يبحث عن الحقيقة ولا يحترم العقل ولا يطبق العدالة مع علمه بأن هذه الأشياء الثلاثة هي مرادفة لابنة رع، وهي روح التاسوع المقدس كله. وإذن، فقد كانت هذه الأسطورة عاملاً قويا في تحفيز الهمم على البحث عن الحقيقة وعلى احترام العقل وعلى إجلال فضيلة العدالة كما سنذكر ذلك فيما بعد. وهل الفلسفة النظرية الإغريقية شيء آخر غير البحث عن الحقيقة؟ وهل الفلسفة العلمية شيء غير تطبيق الفضائل التي - أهمها بعد الحكمة الناجمة عن احترام العقل المشروط في الفلسفة المصرية - هي فضيلة العدالة التي استقامت بها كفتا ميزان السماء والأرض؟

تعقل العامة

كان كل ما أسلفناه لك من تطورات دينية ومن محاولات قوية في التوفيق بين الدين والعقل هو تعقلات الخاصة والمستنيرين. أما العامة فكان لهم تعقل يخالف هذا مخالفة طفيفة حينا وشديدة حينا آخر، فهم لما وجدوا (أتوم) الممتزج عند الخاصة برع لا زوجة له ولم يستطيعوا أن يعقلوا أثره الذي سماه الخاصة (فعل الشمس) ونسبوا إليه نشوء الفراغ والهواء زعموا أنه ولد طفلين بطريقة لا ترضى عنها الأخلاق، وهما الهواء والفراغ، فتزوج ذكرهما أنثاهما فولدت له السماء والأرض، وهذان الأخيران أيضا قد تزوجا بدورهما) ولكنهما التصقا ببعضهما التصاقا محكما يحول بينهما وبين تحقق وجود الكائنات؛ فلما رأى الهواء ذلك اجتهد في تفريقهما فسعى حتى مر من بينهما ففصلهما ورفع السماء إلى أعلى فوق ذراعية، فغضب الزوجان من هذه الفرقة غضبا شديداً ومازالا يجتهدان في أزالتها حتى الآن.

وما الجبال الشامخة التي تحاول الوصل بين الأرض والسماء إلا من نتائج هذه المجهود الذي يحاوله الزوجان. غير أن هذه الفرقة التي آلمت الزوجين إيلاما شديداً كانت سعيدة، لأنها سمحت للكائنات الحية بالوجود فوق الأرض كما سمحت للشمس بأن تظهر من السماء، ولكن سكان (هيليو بوليس) الذين كانوا على وفاق هي هذه الأسطورة يبدءون بعد هذه النقطة يختلفون، فيذهب بعضهم إلى أن (نوت) الذي هو عند الفريق الأول أحد الزوجين المتفرقين إنما هو البقرة العظمى الخالدة التي تنسل كل يوم عجلا هو شمس ذلك اليوم؛ أما زوجها فهو رع نفسه، ولذلك أصبح رع في نظر هذا الفريق متزوجا وترك حياة العزوبة القاحلة. وهناك فريق ثالث تفرع من الفريق الثاني وذهب إلى أن هذه البقرة الخالدة هي (نون) التي هي أصل العناصر جميعها والتي منها نشأ رع نفسه غير أنه ينبغي أن نلاحظ أن البقرة الخالدة التي هي عند بعض العامة زوجة رع وعند البعض الآخر منهم أمه ليست إحدى هذا البقر الذي يدب على الأرض، وإنما هو تصوير لكائن عظيم كثير الخصوبة والإنتاج لا أكثر ولا أقل. وهذا الفريق الأخير الذي يرى أن البقرة الخالدة هي أم رع يعتقد أنها واقفة في الجو، وأن رع يتنزه في فلك من الذهب يسبح فوق ظهرها كل يوم من الشرق إلى الغرب على مرأى من الناس جميعاً. ولما أدركته الشيخوخة، وكانت أعضاؤه من ذهب، وعظامه من فضة، فقد طمع البشر في أن يستولوا عليه وأخذوا ينظرون إليه بعين الشراهة، فشاكته منهم هذه الجرأة الوقحة وصمم على عقابهم، ولكنه أبى أن يستبد بإصدار هذا العقاب فدعا مجلس الآلهة للانعقاد وعرض عليه هذه القضية، فأشارت عليه أمه بأن يبعث فيهم الآلهة (هاتور) تريق دماءهم وتقطع أعناقهم جزاء وفاقا لوقاحتهم وطمعنه في الآلهة؛ وقد كان، فنزلت الآلهة هاتور مقتلة مدمرة حتى ملأت سطح الأرض دماء، وكانت ستظل على هذه الحال حتى تبيد جميع العنصر البشري لولا أن أخذت الإله الشفقة على الإنسان من جديد، فصمم على العفو عنه، ولكنه لم يستطع إقناع (هاتور) الجبارة بالعدول عن خطتها التي كلفها بها مجلس الآلهة فاحضر لها عصيراً أحمر من بعض الفاكهة وأنباها بأنه من دماء البشرية التي تحقد عليها فشربته مسرورة ولم تعد تميز شيئاً، وبهذا وقف القتل والتدمير

وبعد أن كف رع حركة القتل عن بني الإنسان أحس بتقزز من استمراره في الحكم مع هذه الشيخوخة فاعتزل السلطة آسفاً محزوناً على الشباب وقوته. وقد انتهزت (ايزيس) هذه الفرصة الذهبية فاتجهت إلى رع وأنبأته بأنها تستطيع أن تعيد إليه الشباب على شرط أن يكشف لها عن اسمه الأعظم الذي لا يعرفه إلا هو. وما زالت به تغريه حتى حصلت على بغيتها التي كانت تعلم أنها تنيلها كل فرصة، للتصرف في الكون ثم مرت هذه السلطة بالتتابع إلى الآلهة (سو) فـ (جيب) فـ (أوزيريس) فـ (هوروس) ففرعون؛ وبهذا استطاع الشعب أن يؤول عقيدة الخاصة في ألوهية فرعون (ولعل القارئ لا تخفى عليه فطنة أولئك العامة الذين حينما رأوا الخاصة يؤلهون فرعون، ابتدعوا لذلك مبررات لبقة تسير في طريق منسق من رع إلى فرعون

نظرية الفكر المصرية أو أصل المثل الأفلاطونية كان المصريون يعتقدون أن الاسم هو كل شيء في الكائن وأنه لا كائن بدون اسم، أو أن الاسم هو الفارق الأوحد بين العدم والوجود. لهذا تقول الآية المصرية القديمة: (أن جميع الآلهة قد خرجوا من فم رع وأن رع هو الذي خلق كل عناصر الطبيعة). ومعنى هذا أن (رع) هو الذي سمى الآلهة والعناصر، وكان أول من نطق بأسمائها جميعاً ومن حيث إنه كان إذ ذاك وحده. فيكفي لإيجاد الإله أو العنصر أن ينطق باسمه فيما بينه وبين نفسه أو أن يفكر فيه لأن نطق الاسم باللسان ليس إلا تعبيراً عن المسمى الموجود أو الفكرة التي يحتويها القلب والتي هي جوهر الأشياء جميعاً وبدونها لا يفوز موجود بالكينونة. وقد ذهب كهنة (هيليو بوليس) أو مدينة الشمس إلى أن الفكرة لا تمنح الكائن الوجود فحسب. بل أنها هي التي تحفظ عليه وجوده الدائم، فإذا قدر على أي كائن ما أن يزول اسمه من فكرة الإله، فأنه يهوى في الحال إلى العدم المطلق. ولا احسب أن من العسير على الباحث المتقصي أن يستكشف عناصر (المثل الأفلاطونية) واضحة جلية في هذه الفلسفة المصرية التي سبقت أفلاطون بأكثر من ثلاثة آلاف سنة، لأن أفلاطون يعتبر جميع هذه الكائنات المادية التي تدب على الأرض خيالات لا حقائق، ولا يعترف بوجود حقيقي إلا لعالم (الفكر) المجرد عن علائق المادة وغواشي الطبيعة. أما هذه الوجود المشاهد بالمدركات الدنيا، وهي الحواس، فهو لا يزيد على أنه ظلال لعالم الحقيقة الذي لا تدركه إلا قوه البصيرة التي تخلص صاحبها من الشهوات الحيوانية؛ وأما هذه الظلال المشاهدة، فوجودها لا يحقق حقيقة الكائن لأنه وجود مؤقت فوق أنه خيالي. وإذاً، فلست أظنني في حاجة إلى إيضاح الرابط المتين الموجود بين نظرية أفلاطون هذه وبين قول المصريين: (إن الفكرة لا تحقق للكائن وجوده فحسب، بل هي وحدها التي تضمن له دوام هذا الوجود) أو قولهم: (إن جميع الموجودات قد خرجت من فم (رع) وإنه يكفي لإيجاد الكائن أن يجري اسمه على لسان (رع) بعد أن مر مسماه بقلبه، لأن اللسان ليس إلا معبراً عن الجنان)

أليس في تعبيرهم بأن الفكرة وحدها كافية لتحقيق الوجود وخلوده تصريح واضح بأن كل ما عدا الفكرة في الكائن لا يؤبه له؟ ثم أليس في قولهم: أن الموجودات كلها خرجت من فم (رع) إيذان بأن المادة المحسة لا يستحق منها بالوجود إلا فكرتها التي خطرت لرع وأن المحس منها لا قيمة له؟ لا ريب أن في هذا الاكتشاف الذي أسجله اليوم على صفحات هذه المجلة رداً جديداً على أرسطو و (سانت هلير) ومقلديهما وإذنابهم القائلين باستقلال الفلسفة اليونانية وعدم تأثرها بالفلسفات الشرقية، كما أن فيه رداً بليغاً على ذلك الفريق الذي يحط من شأن العقلية الشرقية، لأن مذهب (المثل) - وهو أسمى ما أنتجته العقلية الغربية - هو مشيد على أساس هذه النظرية المصرية ما في ذلك لبس ولا ارتياب. وكما أن الفكرة هي التي تمنح الوجود للحوادث وتحفظه عليها، هي تحفظ الوجود الكامل كذلك على (رع) نفسه ولهذا السبب أهتم بأن يخلق العالم، لكي يظل اسمه حيا منبثاً في جميع عناصر الطبيعة، مذكوراً على السنة أفراد المخلوقات حتى يضمن لنفسه وجوداً كاملا من كل الوجوه، لأن تعقله هو لذاته لا يكفي في تحقيق الوجود الكامل إلا إذا خلا الكون من جميع ما سواه؛ أما وفي الوجود كائنات أخرى، فلا يتحقق له الوجود الأكمل إلا بتغلغل فكرته في كل قلب وجريان اسمه على كل لسان.

ومن هذا التغلغل نتج دور تفكيري عجيب، وهو أن الإله ضروري للإنسان بحيث لا يمكن وجوده إلا به، وأن الإنسان ضروري للإله بحيث لا يمكن استمرار وجوده الكامل إلا بتغلغل الإنسان إياه وتفكيره فيه ونطقه باسمه. ولا ريب أن هذه الدائرة قد أعلت من شأن الكهنة، لأنهم هم أكثر الناس ذكر للأسماء المعبودات، وبالتالي هم أكثر الناس تأثيراً في احتفاظ الآلهة بوجودهم الكامل.

(يتبع)

محمد غلاب