مجلة الرسالة/العدد 200/رسالة الشباب
→ الفلسفة الشرقية | مجلة الرسالة - العدد 200 رسالة الشباب [[مؤلف:|]] |
رسالة العلم ← |
بتاريخ: 03 - 05 - 1937 |
إلى أين يتجه الشباب؟
الآن تقف مصر وأكثر بلاد الشرق العربي على مفرق الطرق في تاريخها الحديث، فهي تودع عهداً كان غرضها فيه واحداً استنزف كل ما لديها من حيوية ونشاط، وهو استعادة سيادتها المغصوبة ومجدها المفقود؛ وتستقبل عهد الإصلاح والإنشاء لتعوض ما فات عليها من فرص الإصلاح الداخلي، فتصلح ما أفسده العصر المنصرم، وتنشئ ما يطلبه العصر الجديد.
ومن شأن هذا العهد الانتقالي أن يحمل الأمة على إعادة النظر في أساليب الكفاح، فلكل ميدان عدته، ولكل عهد أساليبه.
والرسالة يهمها في هذا الباب مصير الشباب، فنحن موقنون بأن العهد الجديد سيتناول موقفه بالتغيير وغرضه بالتحديد
حمل الشباب بالأمس علم الجهاد الوطني، فكان جندي المعركة المضحي بوقته ومستقبله ودمه. وسجل في تاريخ الحركة الوطنية صفحات خالدات من الإخلاص والبطولة والتفدية.
أما الآن وقد صمت النفير، وتوارى الخصم المهاجم وراء المعاهدة، وارتدى ثوب الحليف، وآب المجاهدون إلى الزرع الذي تركوه، وإلى الأرض التي أغفلوها، فقد انفتحت للكفاح ميادين جديدة، وأبواب عديدة، وضاق الميدان السياسي عن الجهود الشابة والحماسات الدافقة
فهل يخرج الشباب ممن الميدان السياسي لينكب على تحصيل العلم وجمع الثروة وتنظيم الحاضر وتدعيم المستقبل ثم يتركه لقادة الرأي من شيوخ السياسة ورجال الإدارة؟
أم يبقى فيه ويظل زيته المضيء المحترق على أن يتطور مع مقتضياته الجديدة؟
وإذا أخذ بالرأي الثاني فإلى أي اتجاه يتجه بين مزدحم الآراء ومهب الأهواء في هذا العالم المضطرب الصاخب؟
ذلك ما فتحنا لأجله هذا الباب، مقدرين أن تتبارى فيه مطامع الشباب وتجارب الشيوخ
ويهمنا على الأخص رأى الشباب لأننا نريد أن نطلع على انفعالاته واتجاهاته، فنقف منها موقف البستاني من نبت الحديقة، يستأصل أشواكها وزوانها، ويتعهد أورادها وريحانها.
ولابد لنا من كلمة ندخل بها إلى هذا الموضوع؛ فنحن لا نرى الشباب الانسحاب من ميدان الكفاح السياسي، فالجيل الماضي قد أنهكته المعركة الكبرى، وهو الآن يقوم بآخر خدماته فيمهد العمل للجيل الناشئ إذ يتعهده برعايته، ويظلله بحمايته، حتى يشتد ساعده فيترك له الميدان. وطبيعي أن اتجاه الكفاح في ميدان الإصلاح الداخلي، وتعقد مرامي هذا الإصلاح وتشعبها يتطلب شباباً كامل الثقافة صادق العزيمة واسع التجربة، يتخذ موقف المدرس لا موقف المحمس؛ وسيحتاج إلى إقناع الجماهير بالحجة، لا إلى إغرائها بالعاطفة
وأما الاتجاه فميدان الإصلاح الداخلي واسع الجنبات، وحرية اندفاع المثل والكفايات فيه أكثر، وسيتلمس كل فريق الرأي الذي يراه أكثر إسراعاً في تعمير البلاد، فيلتفت الشباب بطبيعة الحال إلى الغرب يسترشد بتجاربه ويستضيء بنوره. وهنا نحذره من أن تغره مظاهر الأمور؛ وهنا نقرع له جرس الخطر، ونصيح به صيحة الحذر فإن أوربا الآن تعج بأفكار خلابة ودعوات أخاذة زادتها الدعاية المقصودة بريقاً وضجة، فعسى ألا يغره هذا البريق، فهذه الأفكار وليدة المحنة، محنة ما بعد الحرب؛ فأوربا الآن محمومة؛ وإذا كان لابد لنا من الاقتداء بها فلنميز بين أسباب الرقي الحقيقية وبين ما أنتجته هذه الحمى من أعراض وهذيان وفوضى. ونقول بصراحة أكثر: - إن في أوربا الآن تطاحناً ظاهراً بين القومية والماركسية، وقد اندفعت الأولى للفاشية. والثانية للشيوعية؛ ولكل منهما مظهرها المتطرف الذي لا ينفع هذه البلدان الناشئة
نحن لا يفيدنا الإكثار من قرع الطبول ولا حرب الطبقات، فقد كان كفاحنا في الماضي رزيناً قوياً فنجح لأنه أستمد قوته من طبيعة الأشياء، فقاوم العبودية التي يعافها الإنسان؛ ويجب أن يظل في دوره الجديد على هذه الصبغة الأصلية لينجح
ربما تبهرنا تلك المظاهر بضجة العمل وسرعة التنفيذ، وتظهر لنا إن العمل الإنشائي في العهد الجديد أبطأ مما تصورناه؛ فإيانا أن ننسب ذلك إلى عيب في نظمنا الأساسية، لأن أشر ما نعانيه هو من أثر التحكم الأجنبي وانشغال الأمة عن تلافي نواقصها ومداواة عيوبها
وهل يعنينا إلا أن يكون الصرح وإن تراخى الزمن في إنشائه متين البنيان يستطيع مقاومة الزعازع التي تنتاب البلدان الناشئة؟ يجب أن نحتفظ بوحدة الصفوف وان نبقى لجهادنا العام صبغة التطوع المشترك من كل طبقاته
إننا نريد أن نبني أمة قوية لا تيتم بفقد فرد، ولا تضل بزوال حزب. نريد أمة توجه ساسة، لا ساسة يوجهون أمة.
وخير ما نختتم به هذه الكلمة أن نخاطب شبابنا بما خاطب به المستر بلدوين قومه بالأمس إذ قال:
(في هذا العصر تستطيعون السير بسرعة ستين ميلاً في الساعة آمنين، فإياكم أن تسيروا بهذه السرعة في طريق التغييرات الدستورية، فإنكم إذا سرتم على هذا المنوال تحطم في يدكم الدستور، وجر في تحطمه الخراب واهراق الدماء. قد تكون الأفكار في بعض الأحيان مجلبة للخطر العظيم، فإن مئات الملايين تحكم الآن في روسيا وألمانيا وإيطاليا بأفكار غريبة عن هذه البلاد، فاتقوا شر الشيوعية والفاشية
بينكم بعض من يتحدثون عن التغييرات الدستورية بغير حساب فراقبوهم)
بهذا الخطاب يودع السياسي البريطاني الشيخ ناخبيه وهو مشفق على أمته المسكينة أن تحطمها الآراء المتطرفة. وبمثل هذا نوصي الشاب الناشئ، فالأمم الجديدة أحوج إلى مثل هذه النصيحة. وإن فيما تصنعه الأفكار المتطرفة في إسبانيا عبرة للمعتبرين
(محرر الصحيفة)