الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 200/ثورة دجلة

مجلة الرسالة/العدد 200/ثورة دجلة

بتاريخ: 03 - 05 - 1937


للأستاذ علي الطنطاوي

(ازدادت دجلة يومي الأربعاء والخميس 3، 4 صفر 1355 زيادة هائلة لم تكن منتظرة، وغدت بغداد عرضة للغرق بين كل لحظة وأخرى، وسيق الناس كلهم للعمل على إقامة السدود، ولم تغمض في بغداد ليلة الخميس عين. . . وكان شيء عظيم. . .)

كانت تجري في الوادي حالمة سكرى، غارقة في بحر من الحب والشعر، هادئة لا ترى فيها إلا آثار هذه القبل المعسولة التي تطبعها الشمس على وجنتيها الصافيتين كل صباح ومساء، تخطفها منها في غفلة من الطبيعة، فلا يبصرها إلا الشفق الذي يطل من نافذة الأفق يرميها بنظرة الكاشح الحاشد، فيحمر وجه دجلة الفتاة من الخجل. وتغمض عينيها من الحياء ثم تسرع في جريها. . .

وكانت تتلقى بين ذراعيها العاشقين المدلهين، كلما دجا الليل وأطفئ مصباح الكون، وهم في الزوارق ذوات الأجنحة البيض التي تشبه قلوبهم في بياضها وخفقانها، فتحدب عليهم، وتحفظ أسرارهم، وتمنحهم الخلوة الحلوة الآمنة، وتترع نفوسهم بالجمال والشعر، حتى يغيبوا عن الوجود في حلم فاتن بعيد. . .

وكانت تغضي عن هذا النخيل العاشق، وقد تعانق كل زوجين منه، وتلامسا بالشفاه، واستسلما إلى الغيبة الهنيئة، وعن هذه القصور التي تفيأت ظلاله، سكرى بخمرة الجمال، قد ضمت احناءها على حياة لذة وادعة، ملؤها الحب. . .

وكانت دجلة جمال العراق ونعمته وحياته. . .

وكننت أذهب كل مساء، إلى جسر مود، انحدر من الرصافة، أمشي في طريق ضيق، كأني أهبط وادياً منن أودية بلادي الحبيبة، ثم أصعد حتى أبلغ ضفة الكرخ، فأسلك شوارع الصالحية، حتى أصل إلى المطار. . . حيث أبقى ساعة شاخصاً إلى الأفق البعيد أتبصر فيه طيف موطني الأصغر وأتحسس نسمه فأشم فيه شذا الغوطة، وانشق ريا نشرها العطر، وعرف آسها ونسرينها، وفلها وياسمينها، وزنبقها ونرجسها. . . حتى إذا قضيت من ذلك وطراً، عدت وقد خلا الجسر، فحييت دجلة، وصببت في أذنيها آلامي وأحزاني، وأستمنحتها الراحة والاطمئنان، ثم مضت إلى وكري المنعزل، في (الأعظمية) بنفس هادئ كدجلة مطمئنة كاطمئنانها. . .

وذهبت في مساء الأمس، كما كنت أذهب، فإذا الأرض قد بدلت غير الأرض، وإذا الجسر الذي كان وادياً ننحدر إليه، قد أمسى جبلاً نتسلقه، وصار أعلى من الشارع وقد كان تحته، وإذا الناس يقبلون عليه، فأقبلت معهم وعلى وجهي من الدهشة والحيرة مثل ما على وجوههم من الروعة والفزع، ونظرت فإذا النهر الذي كان يجري في الأعماق هادئاً متطامناً حالماً، يبدو كأنه صفحة المرآة، لا تنداح عليه دائرة، ولا تموج فيه موجة، قد علا وارتفع وعاد ثائراً هائجاً فضاحا، له هدير ودردرة، قد علاه موج كالروابي. . . وإذا هو قد نسي سنه ووقاره. وأضاع حلمه وعلمه، ورجع شاباً مجنوناً أهوج، يقفز ويصرخ، ويقرع الأرض بقدميه، ويضرب بقبضته القويتين المخيفتين أبنية الشاطئ الآمن، ويعبث بهذه الكرات الحديدية الضخمة، التي أقيمت لتثبيت الجسر العائم والتي ترجح بالقناطير، وتزن الصخور الجلاميد، ويقذف بها هنا وهناك كما يقذف الصبي كرته. . . وإذا هو مرعب حقا، يدخل الروع على أجلد الرجال. . .

وكانت الوجوه كالحة، قد ارتسمت عليها سمات الذعر الشديد والماء يرتفع، لم يبق بينه وبين الشاطئ إلا شبر واحد. لقد بلغ عمق المياه خمسة وثلاثين متراً وعشرين معشاراً. . . وخمسين. . . إنه لا يزال يرتفع. . . لقد صاقب الشاطئ. . . إن بغداد في خطر!

وطارت كلمة الخطر على الألسنة، ففزع الشعب، واهتمت الحكومة، ووضع قانون المساعدة الإلزامية، فابتدر الناس الشاطئ، واستبقوا إلى العمل. . . يقيمون السدود، ويضعون للمجنون القيود، ولكن المجنون لا يبالي بقيد الذباب. . . إنه يقتل أمة منها بضربة واحدة. . .

إن النمر يقفز في حبسه ويثب، لقد جن: إنه يريد أن يخرج فينبعث في الأرض، يريد أن يمشي إلى هذه الجنات الظليلة، التي طالما أمدها بالحياة، وحمل إليها النعمة، ليحمل إليها الموت!

وبدأ الصراع المهول بين الطبيعة والإنسان. . . وأمسى المساء على بغداد وهي قائمة على قدم وساق، ليس فيها من يبيع أو يشتري أو يلهو أو يلعب، أو يطعم أو يشرب.،. ليس لها إلا غاية واحدة، هي النجاة من الغرق. . .

وكنت قد بلغت منزلي فصعدت السطح، فانحسرت أمامي صفحة دجلة، وهي تلتوي من حول الأعظمية كالأفعى، تطيف بها كالفضاء النازل، وقد استرخت عند المنحنى وتمددت على الحقول والدور التي هجرها أهلوها، فصار عرضها أكثر من ألفي متر. . . وصارت بحراً خضماً، ولكنه يركض دفاعاً يحمل في طياته الموت والغرق والخراب، وكانت حمرة الشفق تخالط الماء، فيلتهب فيبدو كأنه أتون مستعر، أو كأنه جهنم الحمراء. . .

وبسط الليل ثوبه الأسود على الدنيا، فأخفى تحته ثمانية وأربعين ألف شاب، يشتغلون لينقذوا بغداد من الغرق المحقق، من ورائهم أربعمائة ألف قلب، تحوطهم بالرعاية والحب. . .

واستمر الصراع المهول. . .

وكان الناس من الفزع والذعر كأنهم في يوم القيامة؛ غير أن المرء في يوم القيامة يجد ما يشغله عن أمه وبنيه، وصاحبته وأخيه؛ وهنا أم حائرة مولهة قد ضاع منها ولدها في وسط الزحمة فهي تعدو وتصيح من غير وعي لا تدري أهو في الأحياء، أم أفترسه هذا النمر الجبار. . . وهنا بنت تفتش عن أمها، وولد ينادي أخاه، وأسرة قد هيأت متاعها ووقفت على باب الدار تنظر الساعة الرهيبة التي يطغي فيها الماء فيدك أدوارها وما فيها ويدعها فقيرة مسكينة، مسكنها الشارع. . . وشباب عصفت النخوة برؤوسهم فهم يقدمون، يتسابقون إلى الخطر. . . وتلاميذ قد دفعتهم الحمية فأقبلوا يتبادرون الموت، والجنود يعملون في كل مكان بهمهم الأسود. . .

كان الصراخ يملأ الجو: هتاف الشباب، وأنغام الجند، وصياح النساء، ونداء الأولاد، والنهر فوق ذلك كله يهدر هديره المستمر المرعب، فيكون له في هذا الليل دوي مخيف، والحركة متصلة، والشوارع ممتلئة بالناس. . .

ولكن السلامة توالت. ووقف النهر عن الارتفاع، ولم يقع الشق (أي الكسر) الذي كانوا يخشونه، وكان قد تصرم الهزيع الأول من الليل، فأمن الناس، وتفرقوا إلا قليلاً قاموا يحرسون النهر، ودخلوا بيوتهم، وولجت داري أستريح، فما لبثت أن ذهبت في رقدة عميقة.

رأيت المياه تنساب في كل جهة، تغني أغنية الرعب، تقتلع البيوت ثم تلقي بها إلى بعيد، وتلج في باطن الأرض ثم تقلبها بما عليها، وتصعد في الجو، ثم تنزل كالبلاء المصبوب. . ثم انصدع صدع عظيم وهويت إلى قعر الهاوية، وكان حولي مئات من النمور والفهود والأفاعي، وسمعت رعداً شديداً، ورأيت برقاً ومطراً، ثم عادت السيول تجري، تدحرج آلافاً من الصخور.

. . . فتحت عيني. . وإذا الحلم حقيقة، وإذا الصيحة في الحي والقيامة قد قامت، وخفارات الحراس، وأبواق الجنود تصدح باستمرار، والنساء يولولن ويعدون، والأطفال تبكي وتركض في كل مكان، والرجال تصيح طالبة النجدة؛ وتبينت وسط الضجة الكلمة الرهيبة: كسر النهر. . النهر انكسر!

وتدفق سيل العرم!

إن هذا النهر الذي جاء من قمم الأناضول الشاهقة وسلك على السهول الممرعة، والصحاري المجدبة، قد تعب من سيره الطويل المضني. فجاء يستريح على هذه الحقول التي زخرفها الربيع وأزهر فيها النارنج، وفتح الورد والقرنفل والفل، واترع نسيمها العطر. فيحيل ذلك كله إلى صحراء قاحلة. جاء يغرس هذه الحياة الرخية السعيدة بزور اليتم والفقر والنكد.

ولكن الذنب علينا؛ لو أنا أنشأنا له مأوى يستريح فيه وسريراً ينام عليه، لهجع فيه إلى أيام الصيف، ثم لخرج بالبركة واليمن إلى أراضينا وبلادنا!

تركت الدار وخرجت أسبح في هذا الخضم من الناس، أدفع النساء والشيوخ والشباب، لأصل إلى الشاطئ فأعمل عملاً ولست أدري ماذا أعمل؟ ولست أحسن السباحة، ولست أعلم ما الفائدة من ذهابي، ولم أفكر في شيء من ذلك لأن الإنسان لا يفكر في ساعة الخطر، وإنما يعمل. . فلما وقفت على الصدع هالني وأرعبني أن النمر قد أفلت من القفص. وخرج يعدو مجنوناً مستطار اللب، كاشراً عن أنيابه يزمجر ويزأر، ويبرق ويرعد

إن الماء يندفع إلى العلاء بقوة الديناميت، ثم ينزل على الحقول، فيقضي فيها مكتسحاً كل شيء في طريقه، يقتلع الأشجار الضخمة، ويقذف بها كأنما هي عيدان الكبريت، وينسف البيوت كأنما هي علب من الورق، ويتدفق من كل جهة. . . وقد ابتلع صوته المدوي كل ضجة، وملأ الأسماع بترتيلة الموت المستمرة. . . وكان لمنظره في ظلمة الليل صورة لا توصف. .

وأقدم الناس، يسبقون الماء ليقيموا في وجهه السدود، ليقيدوا هذا النمر الهائج بحمية منقطعة النظير، وحماسة نادرة المثال. . . وأقدمت أخوض هذه اللجة من الناس، لأصل إلى هذه اللجة الطامية من الماء أمشي في ظلمتين: ظلمة هذا الحشد المزدحم. وظلمة الليل البهيم، أتعرض لرهبتين: رهبة الليل وسواده، والسيل واندفاعه. أصغي إلى لحنين: لحن الروع على ألسنة الناس، ولحن الهول على لسان النهر. . .

ولم أخش شيئاً. . .

إنها ساعة الخطر. . .

بوركت يا ساعة الخطر! أنت لحظة الإنسانية. أنت التي تورق فيك أغصان الحب، ويزهر فيك الإخلاص، ويعود الناس فيك إخواناً متحابين. قد خرجوا من أطماعهم ومات في نفوسهم الحسد والبغضاء وعاش فيها الحب والتضحية والإخلاص والوئام. .

تقدمت إلى الأمام ولكن لم أصل إلى شيء، لأن الناس كانوا يستبقون العمل، ويهرعون إلى الموت، كأن العمل غنيمة، والموت وليمة. . وكانوا يصرخون صراخ الحمية. ويهتفون باسم الوطن والمروءة والشجاعة. . ومرت على ذلك ساعة كاملة والصدع يتسع، والماء يزداد اندفاعاً، فكلت الأيادي النشيطة، وجمدت الصيحات والأناشيد على الشفاه، وخامر الناس اليأس. .

هنالك انتبهت فإذا أنا أسمع النشيد الذي ارتقبه واصبوا إليه، ليس نشيد الوطن والمروءة ولكنه أجل وأقوى، النشيد الذي له قوة السيل، وعظمة البحر، وبهاء الشمس، وصلادة الصخور. النشيد الذي لا يقوم له شيء، النشيد الذي كان أجدادنا يهتفون به، كلما حاقت بهم ضجة فيدكون به كل حصن ويكتسحون كل عدد، ويخلصون من كل خطر. النشيد الذي يحيل الجبان بطلاً، واليأس أملاً، والطفل رجلا. .

ذلك هو نشيد الرجال والنساء والأطفال بصوت واحد يجري على قرع الطبل، فيشق الليل، ويخشع له كل من يسمعه حتى النخيل والحقول، والسحاب والنجوم، وهذا النمر الثائر

الله أكبر - الله أكبر - لا إله إلا الله

الله أكبر - الله أكبر - ولله الحمد وبدأ الصراع كرة ثانية. .

وأقبلوا على العمل بهمم لا تثنى، وقلوب لا تلين، وسواعد لا تكل. .

وصب النشيد في عروقهم روح الظفر. . .

فظفروا. . .

وعندما كانت الشمس تطبع أول قبلاتها على جبين الكون كان الموكب الظافر قد رجع، يحمل أجمل أزهار الرياض التي أنقذها وحماها من الغرق. . يمشي فيه الجند والطلاب، بصفوف منتظمة، قرأت فيها أروع شعر الحياة. . . كما تلوت في هذه الجماهير المنثورة في كل مكان أبلغ (نثرها). . .

وكان الإشراق يكسو الوجوه، وغناء النصر يرقص على الألسنة. . .

فوقفت أحيي هذه المواكب الماجدة، حتى غابت عني في طريقها إلى بغداد:

ألف تحية أيها الأبطال الذين مشوا إلى الموت، لينقذوا بلادهم من الموت.

ألف تحية أيها الشعب القوي العامل الجريء.

ألف تحية أيها الطلاب المبرؤون الذين حملوا الفئوس والمعاول، وأقاموا من جسومهم الملساء الناعمة سداً في وجه هذا السيل الطامي. . .

ألف تحية أيها الجنود البواسل، يا حماة الديار، يا من وطنوا نفوسهم على محاربة كل من يريد ببلادهم شراً، سواء لديهم أكان جباراً من جبابرة الإنس، أو عفريتاً من عفاريت الجن، أو قوة من قوى الطبيعة. . .

لكم مني ألف تحية وألف سلام!

(بغداد)

علي الطنطاوي