الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 20/من صور بغداد

مجلة الرسالة/العدد 20/من صور بغداد

مجلة الرسالة - العدد 20
من صور بغداد
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 01 - 11 - 1933


حديقة. . . .!

كان ألذ ما أتذوقه من جمال بغداد وقفة في حديقة النادي العسكري كل صباح!! فكنت تراني أحرص عليها حرص العابد المتحنث على أداء صلاته، أو العاشق المتوجد على لقاء فتاته، كنت أغشى كل يوم هذا المجتلي الساحر، في رونق الضحى أو في متوع النهار، فأجد الشمس قد لألأت ذوائب النخل وغوارب النهر، وأخذت ترشق بأشعتها الظلال الندية من خلال الشجر، وبنات الهديل يبحثن كعادتهن في عساليج التين وأغصان التوت بأرجلهن ومناقيرهن، وهن يرجعن على التعاقب الحان الخريف؛ والحديقة مطلولة النبات منضورة الزهر تتنفس بالفاغية تنفس الطفل الحالم، والسكون مرهوب الجلال أنيس الوحشة يعمق ثم يعمق حتى تكاد تسمع النبات وهو ينبت!؛ والنادي خلواً من أهله فلا تجد الا بستانياً يعمل في صمت، وغلاماً يكنس في هدوء، وطفلين جميلين يجيئان أحيانا فيجلسان في الشرفة أو يمشيان في الحديقة، فلولا نشوز خادمهما الكهل، ومنظر هندامه الزري الشكل، لحسبتهما زهرتين من زهورها، أو عصفورين بين طيورها،! فأسير في الروضة متئد الخطى مرسل النفس مرهف الحس، تارة بين مماشيها، وتارة فوق حواشيها، فأقف عند كل شجرة، وأحيي كل زهرة، واسأل النبتة الوليدة بالأمس ما حظها اليوم من سر الحياة ونعمة الوجود! ثم أصعد درجة إلى الشرفة، وأنعم ساعة بتلك الوقفة، فأتنسم هواء النهر ملء رئتي، وآخذ جملة المنظر بمجامع عيني،! وأي منظر يسحر اللب ويملك الطرف كهذا المنظر الفاتن؟! الحديقة من ورائي تضوع بالنسيم الأريج وتروق بالرواء البهيج وتروع بالسكون الملهم! ودجلة الخالد من أمامي تتجاوب أصداء الأمم خافتة في لجاجه، وتتهادى خفاف القوارب راقصة بين أمواجه، وأنا بين الشجر والماء كالطائر بين الأرض والسماء، يسبح خاطري في أجواء الماضي القريب والبعيد صاعدا إلى فكرة، أو هابطا على ِذكَره، أو حائماً حول منظر كهذا المنظر تدفق به قلب في قلب، وامتزجت فيه نفس بنفس، وتجمعت الأحلام والأماني كلها فوق رقعة صغيرة من أرضه، وتحت سرحة فينانة من روضه!

لا تظنن هذه الحديقة فيحاء قد تأنقت فيها يد الطبيعة وتألق بها ف الإنسان! إنما هي مربع من الأرض على قدر ما يتسع له فناء كبير في

منزل فخم، يشقها ممشيان معروشان قد تعارضا على شكل صليب

قسماها إلى أربعة أقسام سواء، وفي هذه الأقسام وما أُلحق بها قام دوح

السدر، وبسق سرح الكافور، وانتظمت على جوانب مماشيها أشجار

النارنج، وانتثرت على معظم أرضها ألوان قليلة من النَّور الجميل

والورد العطر. فسماؤها كما ترى للشجر وأرضها للدهر وجوها

للعطر وهي كلها لنوع من الجاذبية يجعلها على بساطتها فتنة الفنان

وجنة المفكر!

ليت شعري ما مصدر هذا السحر الذي يشع في عيني ويشيع في نفسي كلما دخلت هذا المكان؟ أهو ذاك البناء المتآكل الذي يقوم في جنوبيه كأنه المعقل البالي أو الدير المهجور، أم هو ذلك النهر الجميل الذي يجري في غربيه كأنه الزمن الدافق أو الكتاب المنشور، أم هو ذلك المزيج العجيب من جلال القدم في المكان وجمال الطبيعة في البستان وعظمة الحياة الماثلة في النهر؟؟

ليس للروح العسكري في هذا المكان الشعري مظهر ولا أثر. فما تعهده من الخشونة في الثكنات، والعنف في الحركات والقسوة في النظرات والكلمات، يحول هنا إلى ذوق فنان ورقة شاعر وهدوء فيلسوف!

كادت هذه الخواطر الجريئة الملحة تذهلني عن حديقتي واليوم عيد من أعياد الطبيعة برزت فيه عارية من الحلل غانية عن الحلي! والخريف في العراق هو الربيع احترقت غلائله الوردية في لظى يوليو!! فهو على تجرد أرضه من الأنوار والازهار، وتحجُّب سمائه أحياناً بالغيم وأحيانا بالغبار، جميل البسمات عليل النسمات رفاف الأديم. فها نحن أولاء بين أعقاب الخريف وطلائع الشتاء والشمس لا تزال في ثغر السماء ابتسامة حلوة! تضاحك النهر الحبيب فتزيده طلاقة. وتداعب الزهر الكئيب فتكسبه أناقة، وتطالع الجو المقرور فتقبسه حرارة، وتصارع برد الموت في أوراق النارنج وأطراف التوت فتطيل بقاءها فترة أخرى من الزمن! وهذه اليمامات السواجع، مازلن يأوين إلى أعالي الشجر يمرحن في الضوء وينعمن بالدفء ويهتفن بالأهازيج كأنهن في أمَنَةٍ من حلول يناير وهو منهن على ليال قلائل!! وهذا دجلة السعيد يتنفس موجه بالنعيم، ويطفح غرينه بالذهب، ويقذف تياره بالغثاء والزبد، بعد ما بخره القيظ فنش حتى انكشف ضميره، وانقطع خريره، وكاد يزحف الشبوط والزورق فيه على القاع! فالبواخر تصعد صافرات في سرعة، والأطواف تنحدر صامتات في بطئ، والقفف تعبر موقرات في هوادة، وقوارب الصيادين وزوارق الملاحين تتعارض وتتحاذى في عباب النهر كأنها الخواطر الحائرة في الفكر العميق، والطيور الصائدة تحوم على وجوه الماء بأجنحتها الشهب حومان الآمال على ستر الغيب الصفيق، والبجعة الملكية تطعن في صدور الموج بمنقارها الطويل العريض وهي تسبح آمنة في حمى البيت العتيق، وأنفاس دجلة اللاهث من عبء القرون تتصاعد إلي حاملة أنين الأمواج وخفق المجاديف وغماغم الكرخ فتختلط بتجاوب اليمام على الشجر، وتناوح الرياح بين الغصون، وحشرجة الاوراق الذاوية على الارض، فتتألف من هذه الأصوات الخافتة موسيقى روحية شجية تبعث رواقد الأحلام وتثير كوامن الآلام وتقطع بين النفس وبين وجودها الحاضر!!

أيه يا دجلة يا سجل الأمم وراوية العصور! لشد ما فنيت في خريرك ضحكات، وامتزجت بنميرك دموع، وخفيت في ضميرك أسرار!! لقد رأيتك بالأمس ضارعا قد لصق خدك بالأرض حتى همّ بخوضك الخائض، وهمدت حياتك حتى أوشك أن يسكن عرقها النابض، ثم رأيتك اليوم وقد غاثك الغيث فجاشت ينابيعك الثرة بالنماء والثراء والقوة، ثم أقبلت كدأبك منذ آلاف السنين داوي الدارات صخاب اللج تعرضها مُلحا على بنيك فيعرضون عنك إعراض البطر، ويؤثرون على فيضك الميمون وذق المطر، ثم يهينون كبرياءك يا أبا الحضارات فيجعلون مبلغ همك حمل الأرماث ونقل القُفف! فهل يعجبون إذا فار غضبك فجرفت السدود وجاوزت الحدود وأصبتهم بالغرق؟. . . . .

أحمد حسن الزيات