مجلة الرسالة/العدد 20/في الأدب العربي
→ فلسفة ليبنتز | مجلة الرسالة - العدد 20 في الأدب العربي [[مؤلف:|]] |
من طرائف الشعر ← |
بتاريخ: 01 - 11 - 1933 |
ابن خلدون وميكيافيللي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
1. (ليس على الأمير أن يجزع لما يناله من لوم على تلك الرذائل التي لا يمكن دونها إنقاذ الدولة إلا بصعوبة، ذلك أنه إذا بحث كل شيء بعناية، ألفينا أن شيئا يبدو كالفضيلة، إذا اتبع فإنه يؤدي إلى خرابه (أي الأمير)، وألفينا شيئا آخر يبدو كالرذيلة، إذا اتبع فإنه مع ذلك يؤدي إلى سلامه ورخائه).
2. (ليس أكثر تبديدا للمال من الجود والبذخ إذ سرعان ما تعجز عن مزاولتهما، وتعدو إما فقيرا أو محتقرا، أو تغدو إذا أردت أن تجتنب الفقر، جشعا مكروها. ويجب على الأمير أن يحرص قبل كل شيء على أن لا يكون محتقرا أو مكروها. وإذن فخير أن يشتهر الأمير بالوضاعة التي تثير اللوم دون بغض من أن يرغم الإنسان من طريق البحث عن الشهرة بالجود، أن يوصم بالجشع الذي يثير اللوم والبغض).
3. (كان بورجيا يعتبر قاسيا، ومع ذلك فإن قسوته أرضت رومانيا (من الولايات البابوية) ووحدتها، وردت إليها السلام والولاء. ولو تأملت ذلك حق التأمل لرأيت أنه كان أكثر رحمة من الشعب الفلورنسي، الذي أراد أن يتجنب الشهرة بالقسوة فترك بستويا حتى خربت. وإذن فما دام الأمير قادرا على الاحتفاظ لشعبه بالوحدة والولاء، فليس عليه أن يهتم بوصمة القسوة لأنه بذلك يكون أكثر رحمة من أولئك الذي يفرطون في استعمال الرحمة، فتثور القلاقل، ويعقبها القتل والنهب).
4. (وهنا يبدو سؤال: أخير أن يحب الإنسان من أن يرهب أو يرهب من أن يحب؟ ويمكن أن نجيب بأنه من المرغوب أن يكون الآنسان محبوبا مرهوبا، ولكن ما دام اجتماعهما في شخص واحد غير ممكن، فإنه خير وأكثر سلامة أن يرهب الإنسان من أن يحب إذا وجب أن يتصف بإحدى الصفتين).
5. (لا يستطيع الأمير العاقل ولا يجب عليه أن يحفظ العهد إذا كان مثل هذا الوفاء قد ينقلب ضده، وإذا لم يبق للأسباب التي حملته على قطعه وجود).
6. (وإذن فليس من الضروري أن يتصف الأمير بالخلال الحسنة التي ذكرتها، ولكن من الضروري أن يبدو كأنه يتصف بها. . . ولا يستطيع الأمير، ولا سيما الأمير الجديد، أن يراعي كلالأمور التي يقدر الناس من أجلها، لأنه كثيرا ما يرغم، لكي يحفظ الدولة، على أن يتصرف بغير ما يقضي به الإخلاص، والصداقة، والإنسانية، والدين. وإذن فمن الضروري أن يكون عقله متأهبا ليعمل طبقا لتقلب الريح والحظ).
7. وقال مشيرا إلى سياسة ملك إسبانيا فرديناند الكاثوليكي ضد المسلمين عقب سقوط غرناطة: (إنه ينتحل الدين دائما عذرا للقيام بأعمال عظيمة، وقد ثابر بقسوة صالحة على إخراج المسلمين من مملكته وتطهيرها منهم، وليس ثمة أبدع من هذا العمل وأندر منه).
نستطيع من هذه النماذج الموجزة أن نفهم روح الفلسفة المكيافيللية في تصوير الدولة والأمير. وهي فلسفة تقوم على الحقائق العملية. وتحل هذه الحقائق على رغم جفائها وروعتها المكان الأول في بناء الدولة، وفي سياسة الأمير. فالنفاق والشح والوضاعة، والقسوة والإرهاب، والغدر والنكث بالعهد. وإهدار الإخلاص والصداقة والأمانة والدين، وما إليها مما ينافي المثل الفاضلة وتأباه الأخلاق والإنسانية، ليس مما تنكره الفلسفة المكيافيللية، ولا مما يشين السياسة التي تقوم عليها. ومن ثم كان الأمير أو السياسي الأمثل في نظر مكيافيللي طاغية لجأ في تأييد سلطانه إلى أروع الوسائل وأشنعها مثل البابا اسكندر السادس، وابنه شيزاري بورجيا (دوق فالنتينو). ويتناول مكيافيللي طرفا من حياة شيزاري بورجيا الذي عرفه واتصل به في رسالة خاصة، ويبدي إعجابه بتلك الخطوط والوسائل الدموية التي ابتدعها ودبرها شيزاري للبطش بخصومه من الأمراء والقادة وقتلهم غدراً وغيلة. ومن ثم كان ذلك الطابع الاسود الذي ما يزال يدمغ (السياسة المكيافيللية) إلى عصرنا. بيد أنه من الحق أن يقال أن المفكر الإيطالي يبدي في صوغ فلسفته كثيرا من القوة والبراعة وبعد النظر، وأن هذه النظريات والمبادئ التي قد يحكم عليها من الوجهة النظرية الخالصة، كانت وما زالت على كر العصور قوام السياسات الظافرة، وما تزال إلى يومنا عنوان السياسة العملية القوية.
(2)
يتناول ابن خلدون كما قدمنا موضوع الدولة والملك بإفاضة ويبحثه من نواح أوسع وأبعد مدى، ويتفوق على مكيافيللي تفوقا عظيما في معالجته من الناحية الاجتماعية. ويلتقي المفكران العظيمان في مواطن كثيرة. مثال ذلك ما يقوله ابن خلدون في فاتحة مقدمته عن قيمة التاريخ في درس أحوال الأمم، ثم أقواله عن آثار البطش والسياسة العاسفة في نفوس الشعب، وعن خلال الأمير وتطرفه أو توسطه فيها، وعن حماية الدولة وأعطيات الجند، وعن منافسة الأمير للرعية في التجارة والكسب؛ وعن تطلع الأمير إلى أموال الناس وأثر ذلك في حقد الشعب عليه، وعن تطرق الخلل إلى الدولة وامتداد يد الجند إلى أموال الرعية، وكذا ما يقوله عن كتبهَ (سكرتارية) السلطان فهذه كلها نقط أو موضوعات يعالجها مكيافيللي أو يقترب منها سواء في كتاب الأمير أو في كتاب آخر له هو (تاريخ فلورنس) تتخلله تأملات فلسفية واجتماعية كثيرة. وقد لا يتفق مكيافيللي مع ابن خلدون دائما في الرأي، أو في منحى التفكير، ولكن كثيرا مما يقوله المفكر العربي يتردد صداه فيما يقول المفكر الإيطالي. فابن خلدون هو بحق أستاذ هذه الدراسة السياسية الاجتماعية التي تناول مكيافيللي بعده بنحو قرن بعض نواحيها؛ وهو بالأخص صاحب الفضل الأول في فهم الظواهر الاجتماعية وفي فهم التاريخ وحوادثه وتعليلها، وترتيب القوانين الاجتماعية عليها بهذا الأسلوب العلمي الفائق.
قال العلامة الاجتماعي جمبلوفتش: (إن فضل السبق يرجع بحق إلى العلامة الاجتماعي العربي (ابن خلدون) فيما يتعلق بهذه النصائح التي أسداها مكيافيللي بعد ذلك بقرن إلى الحكام في كتابه (الأمير). وحتى في هذه الطريقة الجافة لبحث المسائل، وفي صبغتها الواقعية الخشنة، كان من المستطاع أن يكون ابن خلدون نموذجاً للإيطالي البارع الذي لم يعرفه بلا ريب) وقال استفانو كلوزيو مقارناً ابن خلدون بمكيافيللي؛ (إذا كان الفلورنسي العظيم (مكيافيللي) يعلمنا وسائل حكم الناس، فإنه يفعل ذلك كسياسي بعيد النظر، ولكن العلامة التونسي (ابن خلدون) استطاع أن ينفذ إلى الظواهر الاجتماعية كاقتصادي وفيلسوف راسخ، مما يحمل بحق على أن نرى في أثره من سمو النظر ومن النزعة النقدية ما لم يعرفه عصره).
وقد نتساءل أخيرا، هل وقف المفكر الإيطالي على شيء من تراث ابن خلدون واسترشد به، أم وقف على شيء من آثار المفكرين المسلمين قبله في موضوع السياسة الملكية وانتفع بها؟ نعتقد مع العلامة جمبلوفتش أن مكيافيللي لم يعرف حين كتابة (الأمير) شيئا عن ابن خلدون أو عن آثاره، ولم يعرف من جهة أخرى شيئا من آثار المفكرين المسلمين في موضوعه. صحيح أن بعض نواحي التفكير الإسلامي كانت معروفة في إيطاليا قبل مكيافيللي وفي عصره، وكانت ثمة علائق فكرية قديمة بين مسلمي الأندلس وشمال أفريقية، وبين المجتمعات الفكرية في إيطاليا، وكانت آثار إسلامية كثيرة قد ترجمت يومئذ إلى اللاتينية. ولكنا لا نلمح في أثر مكيافيللي شيئا يدل على أنه عرف ابن خلدون أو أي مفكر مسلم في موضوعه. وإذا كانت ثمة وجوه شبه كثيرة بين المفكرين من حيث فهم التاريخ وتحليله، واستقراء الحوادث، وترتيب القوانين الاجتماعية، فذلك يرجع كما قدمنا إلى تقارب عظيم بين الذهنين، وإلى تماثل في العصر والظروف التي عاش فيهما كل منهما، وإلى تماثل في الخبرة السياسية التي اكتسبها كل منهما بخوض حوادث عصره والاتصال بأمرائه وساسته. وربما يكون ميكافيللي قد عرف شيئاً عن أبن خلدون ومقدمته في أواخر حياته بعد أن وضع كتاب (الأمير) بنحو عشرة أعوام أعني حوالي سنة 1523 أو 1524. ففي ذلك الحين كان الكاتب الأندلسي المنتصر الحسن بن محمد الوزان المعروف بأسم ليو الأفريقي يقيم في رومة ويتجول في المدن الإيطالية الشمالية وهو غرناطي ولد حوالي سنة 1495 م. ونشأ في فاس وتولى لبلاطها بعض المهام السياسية، ثم حج إلى مكة سنة 1516، وعاد بطريق قسطنطينية، وفي أثناء ركوبه البحر إلى المغرب أسّرته عصابة من لصوص البحر الصقليين، فأخذ إلى رومه فنصره البابا بأسم (يوهانس ليو) أو يوحنا الأسد. أنقطع للبحث والتأليف، وألف قاموساً عربياً لاتينياً، وألف كتابه الشهير في وصف أفريقية وترجمه بعد ذلك إلى الإيطالية. وكان في مدينة بولونيا بشمال إيطاليا على مقربة من فلورنس سنة 1524 حسبما يقرر في خاتمة قاموسه اللاتيني، الذي توجد منه نسخة في الاسكوريال. ومن الممكن بل لعله من المرجح أن يكون ابن الوزان قد التقى بمكيافيللي وعرفه في رومه باعتباره علما من أعلام التفكير والكتابة يومئذ. وكان مكيافيللي بالفعل في رومه سنة 1525، قصدها ليرفع كتابه (تاريخ فلورنس) إلى صديقه وحاميه البابا كليمنضوس السابع (جوليا نودي مديتشي) ولو صح هذا اللقاء والتعارف، لكان ثمة مجال للقول بأن مكيافيللي قد وقف على شيء من آثار التفكير الإسلامي التي لا بد أن يكون ابن الوزان قد أذاعها وتحدث عنها بين أصدقائه الإيطاليين، ومن المرجح أن يكون ابن خلدون في مقدمة المفكرين المسلمين الذين يشملهم مثل هذا الحديث، لا سيما وقد كان صيته ما يزال قويا ذائعا في أفريقية والمغرب حيث نشأ ابن الوزان ودرس، على أنه مهما كان من شأن هذه الفروض، فلسنا نستطيع أن نقول أن مكيافيللي قد انتفع في صوغ فلسفته السياسية والاجتماعية بشيء من آثار التفكير الإسلامي، فلسنا نلمح في كتابه أثراً لهذا التفكير، ومكيافيللي ذهن مبتدع مبتكر بلا ريب، كما كان ابن خلدون ذهنا مبتكراً مبتدعا. وقد شق كلا المفكرين العظيمين طريقه لنفسه، وألهم وحي نفسه، وكان كتاب (الأمير) فتحاً عظيما في تفكير عصر الإحياء الأوربي، كما كانت مقدمة ابن خلدون فتحاً عظيما في التفكير الإسلامي.